إعلان فريد في تاريخ الرسالات والديانات:
قال الله - تعالى - مخاطبـًا لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(الأنبياء/107)، هذا إعلان فريد من نوعه، جاء في كتاب خالد قدر الله - سبحانه وتعالى - له أن يتلى في كل مكان وزمان، ويبلغ عدد قرائه ملايين الملايين، وقال عنه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر/9).
إن سعة هذا الإعلان، وإطاره الكبير، ومساحته بحساب الزمان والمكان، تجعلان هذا الإعلان خارقـًا للعادة، لا يمكن أن يمر به الإنسان الواعي مرًا عابرًا سريعـًا، فإن مساحته الزمنية تحوي جميع الأجيال، والأدوار التاريخية التي تتلو البعثة المحمدية، ومساحته المكانية تسع العالم كله، فإن الله - سبحانه وتعالى - لم يقل إننا أرسلناك رحمة لجزيرة العرب، أو للشرق أو للغرب، أو لقارة، مثل آسيا مثلاً، بل إنه قال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(الأنبياء/107).
الحق أن سعة هذا الإعلان وشموله، وعظمته وسموه، واستمراره وخلوده، كل ذلك يقتضي أن يقف عنده مؤرخو العالم وفلاسفته، ونوابغه، وأذكياؤه، حيارى مشدوهين، بل يقف أمامه الفكر الإنساني كله حائرًا مشدوهـًا، وينقطع إليه كليـًا ـ ردحة من الزمن ـ يبحث في مدى صدق هذا الإعلان، أو صحة هذا الواقع، لأننا لم نجد في تاريخ الأديان والنحل، وفي تاريخ الحضارات والفلسفات وتاريخ الحركات الإصلاحية والمحاولات الثورية، بل في تاريخ العالم كله، وفي المكتبة الإنسانية بأسرها مثل هذا الإعلان المحيط بالكون كله والأجيال البشرية كلها، والأدوار التاريخية بأجمعها حول أي شخصية من شخصيات العالم، حتى إن خلاصة تعاليم الأنبياء السابقين، ونبذة من أحوالهم وسيرتهم التي وصلت إلينا هي أيضـًا مجردة عن مثل هذا الإعلان.
أما اليهودية ـ وهي ديانة قديمة مشهورة ـ فإنها تنظر إلى الله كرب بني إسرائيل، وإله بني إسرائيل في الغالب، إن صحف العهد القديم، والكتب المقدسة الدينية عند اليهود تخلو من ذكر الله كرب العالمين، ورب الكون بتاتـًا، ولذلك فالبحث في سيرة نبي من أنبيائهم، مثل موسى وهارون، أو داود وسليمان، عن مثل هذا الإعلان، عبث وإضاعة وقت، فإن هذه الديانة لم تكن ـ في أي مرحلة من مراحلها ـ رسالة رحمة ومساواة للجيل الإنساني كله، ومن غير تمييز عنصري، ولم تشجع فيها الدعوة إلى هذه الديانة خارج شعب إسرائيل أبدًا.
أما المسيحية ـ التي عرفت بتسامحها وحماسها للدعوة، وعطفها على الإنسانية ـ كما يزعمون ـ، فإن نبيها ـ المسيح - عليه السلام - ـ صرح بأنه لم يبعث إلا ليرعى خراف بني إسرائيل الضالة (إنجيل متى، باب 15ـ آية 34، وباب 10 ـ آية 6ـ7)، وحين لفت نظره إلى بعض المرضى الذين لم تكن لهم صلة رحم ونسب ببني إسرائيل اعتذر وقال: \" إني لست ذلك الرجل الذي يعطي خبز الأولاد للكلاب \"(متى، باب 15 ـ آيى 26).
أما الديانات الشرقية والآسيوية الأخرى، وخاصة الهندكية فإنها لا تختلف كثيرًا عن النموذج السابق، بل إنها تسبق الديانات السابقة أحيانا في تقديس النسب والسلالة، وتوزيع الناس في طبقات توزيعـًا ظالمـًا جائرًا، لا يعرف اللين والمرونة، فقد كان المنبوذون في المجتمع الهندي محرومين من كل نوع من التكريم والشرف والمساواة، ومن أولى حقوق الإنسان، وأبسط مبادئ الإنسانية، لا يجوز لهم تحصيل العلم، والتعليم والتدريس، والتطلع إلى الهضبة الروحية، فقد خص دراسة \" ويدا \" وتقديم القرابين، والنذر لألهتم وأوثانهم، بالبراهمة فحسب (منوشاشتر: الباب الأول/88)، وكان النظر في كتب \" ويدا \" ودراستها مقصورًا على فئة الشتري والويش (الباب الأول ـ آية 89ـ90) وقلد صرح \" منوشاشتر \" أن المنبوذين لم يخلقهم الله إلا لغرض واحد، وهو خدمة الطبقات الثلاث التي مضى ذكرها (الباب الأول/91)، إن أهل الهند القدامى لم يكونوا يعرفون وراء جبال \" هملايا \" دنيا \"، فلا صلة لهم بالعالم الخارجي، وبالشعوب الأخرى، ولا رغبة لهم في الاطلال عليها، لذلك فإن البحث عن مثل هذا الإعلان عن نبي أو ولي أو مصلح فيهم عبث وإضاعة جهد ووقت، الحقيقة إن البحث عن نبي يكون رحمة للعالمين في ديانة لا تحمل عقيدة \" رب العالمين \" غير معقول وغير منطقي.
قيمة الرحمة التي اقترنت بالبعثة المحمدية كمـًا وكيفـًا:
إن لتقدير شيء ووضعه في محله المناسب ومكانه اللائق مقياسين بصورة عامة.
الأول: مقداره وحجمه الذي يعبر عنه في المصطلح الحديث بـالكمية (Quantity)، والثاني: جوهره ووصفه الذي يقال له الكيفية (Quality) وهذا الإعلان الذي نادى به القرآن يشمل هذين النوعين، ويجمع بين الناحيتين، فإن بعثته - صلى الله عليه وسلم - وشخصه العظيم، وتعاليمه السامية الخالدة، فاضت على الإنسانية مسحة جديدة من الحياة والنشاط، وكانت السبب المباشر في شفائها من أسقامها وعلاتها، وفي حل معضلاتها، ونهاية آلامها وأحزانها، وهطول أمطار الرحمة والبركة، واليمن والسعادة والخير والفلاح على أرضها المجدبة القاحلة، وكانت هذه المعطيات المحمدية الغالية منقطعة النظير بحساب السعة والوفرة، والحجم والكمية (Quantity)، وبحساب النفع والإفادة والجوهر والكيفية (Quallty) أيضـًا.
\" الرحمة \" لفظ شاع استعماله في حياتنا اليومية، وهو يطلق على كل شيء ينال به الإنسان نفعـًا وراحـة، أما أنواع الرحمة وأقسامها، ودرجاتها، ومدارجها فلا حصر لها، يقدم أحدنا الماء البارد إلى أخيه العطشان، ويدل المسافر والغريب على الطريق، ويحرك له المروحة في يوم صائف، شديد الحر، الأم تحنو على طفلها، والأب يربي ولده ويعلمه، ويزوده بحاجيات الحياة، والمدرس يدرس تلاميذه، ويمنحهم ما عنده من نعمة العلم، وهكذا إطعام الجائع المسكين، وإكرام الضيف، وكساء العريان، كل ذلك من مظاهر الرحمة العامة وألوانها المختلفة الزاهية، وهي تستحق منا كل تقدير واعتراف وشكر.
ولكن أكبر مظهر من مظاهر الرحمة، وأروع صورة من صورها الجميلةº أن ينقذ أحدنا أخاه من مخالب الموت، هناك طفل صغير برئ نراه في حالة الاحتضار كاد يلفظ نفسه الأخير، الأم تقف إلى جواره تبكي، قد أظلمت الدنيا في ناظريها، وانقطع أملها في فلذة كبدها، ومأوى حنانها وحبها، الأب يسعى هنا وهناك هائمـًا على وجهه، فلا يجد راقيـًا وأنيسـًا، هنالك يأتي طبيب حاذق، كما ينزل الملك من السماء ويقول مهلاً..لا داعي للقلق، ولا موجب لليأس، ولا يلقى في فم الطفل قطرات قليلة من الدواء حتى يفتح عينيه وينشط، تصور ماذا يقال لهذا الطبيب؟ ألا يقال له إنه ملك الرحمة أرسله الله لإنقاذ هذا الطفل؟ وإعادة الحياة إليه؟ هنالك تتلاشى كل هذه الأنواع من الرحمة التي قدمناها أولاً، وتذوب أمام هذا المظهر الرائع الأخاذ من الرحمة، إنها ليست منة على الطفل فقط، بل على أسرته كلها.
نرى أعمى يمشي متوكئـاً على عصاه، قد شارف هوة عميقة أو بئرًا، قد تكون خطوته التالية خطوة الموت، فيهرول إليه عبد من عباد الله ويأخذ بحجزه ويمنعه عن الوقوع في هذه الهوة، أفلا نسميه ملك الرحمة؟
هذا شاب يافع، قرة عين أبويه، وكفيل عائلته الفقيرة، قد أشرف على الغرق في نهر فائض يحاول أن يطفو على الماء، ولكن بدون جدوى، فيقفز إليه رجل مجازفـًا بحياته، ويأخذ به إلى ساحل النجاة، فيحمله رب الأسرة أو إخوة هذا الشاب على أعناقهم، ويضمونه إلى صدورهم، بحرارة وحب، ولا ينسون فضله على أسرتهم الصغيرة مدى الدهر، ترى هل تساوي مظاهر الرحمة الأولى، هذه الرحمة العظيمة الغالية؟
البعثة المحمدية أنقذت الجيل البشري من الشقاء والهلاك:
ولكن آخر مظهر من مظاهر الرحمة وقمتها وذروة سنامها، هي أن ينقذ رجل الإنسانية كلها من الهلاك، وهناك فرق عظيم بين هلاك وهلاك، وبين خطر وخطر، ذلك هلاك محدود سطحي، وخطر عابر قد يزول، وهناك هلاك أبدي، وخطر مستمر لا يزول، لذلك فإن رحمة الأنبياء بالنوع البشري لا تقاس أبدًا على هذه الرحمات، رغم أهميتها وعظمتها.
إن أمامنا بحرًا هائجـًا مائجـًا من الحياة لم يلتقم الأفراد والآحاد فحسب، بل إنه ابتلع الأمم والبلاد، وهضم الحضارات والمدنيات، ترتفع أمواجه العاتية الهائلة، كأفواه التماسيح الفاغرة، وتنقض على الجماعات البشرية كالأسد الضاري، والمشكلة أنه كيف نعبر هذا البحر الهادر الزاخر الذي لا يعرف الرحمة؟ وكيف ننزل بسفينة الإنسانية على بر الأمان ولا يكون صاحب الفضل الأكبر في هذا المجال، ولا يعتبر أكبر منقذ للإنسانية وصاحب المنة عليها، والإحسان إليها، إلا من يجدف هذه السفينة، التي تلعب بها العواصف الهوجاء، والأمواج الهائلة كالجبال، والتي غصت بركابها، وغاب الملاح والربان، ثم يوصلها بسلامة إلى ساحل النجاة؟
إن النوع البشري شاكر لهؤلاء الذين منحوه هدية العلم، ويشكر هؤلاء الذين جمعوا له هذه الأكداس من المعلومات، ويشكر الذين هيأوا له كل هذه التسهيلات، وزودوه بوسائل الراحة والرخاء، وذللوا صعاب الحياة، واقتحموا عقباتها وشعابها، إنه لا يبخس حق أحد من هؤلاء، ولا ينكر فضلهم عليه، ولكن قضيته الكبرى، ومشكلته الأولى هي أنه كيف ينقذ نفسه من أعدائه الذين وقفوا له بالمرصاد، وأحاطوا به من كل جانب؟ وكيف يصل بسفينته إلى بر السلامة والأمان؟ فما هي أمواج هذا البحر؟ وما هي تماسيحه الضارية الشرسة؟
إنها الجهل عن خالق هذا الكون ورب العالمين، وعن صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، والوقوع في حبائل الشرك والوثنية، وعبادة الأصنام، والاسترسال مع الخرافات والأوهام، إنها بلادة حس الأنسانية، وذهولها عن نفسها، وغفلتها عن خالقها وبارئها.
إنها عبادة المادة والمعدة، وتعدي الحدود، وانتهاك الحرمات، وصورة النفس الأمارة بالسوء، والتهرب من أداء الواجبات والحقوق، والإصرار على المنافع والحظوظ.
إن أكبر خطر على الإنسانية أن يحدث في بنائها خلل، وتحيد لبنتها الأساسية عن مكانها الصحيح، فينسى الإنسان قيمته ومداركه، وغاية حياته، ويظن نفسه ذئبـًا مفترسـًا، أو أفعى أو ثعبانـًا، فحين يذهل الإنسان عن هذه الحقائق الكبرى، يتحول بحر هذه الحياة إلى نار متأججة، ولُهُب مرتفعة، هنالك يزدرد الإنسان أخاه ويفترسه، ولا يحتاج إلى الثعابين، والعقارب، والذئاب والفهود، فقد ينقلب الإنسان أكبر من ذئب في هذه الغابة الإنسانية.. تخجل أمامه الذئاب، ويتحول شيطانـًا ماردًا، تستحي منه الشياطين، هنالك يحترق الإنسان ويشوى في نار أشعلها بنفسه، ولا يحتاج إلى أن يستوردها من الخارج.
في هذه الفترة الرهيبة المظلمة تهب نفحة من نفحات الرحمة الإلهية، وتنعش رفات الإنسانية الخامدة الهامدة وتزودها بملاحين يجدفون سفينتها بنجاح ومهارة.
مهمة النبوة ودورها في الإنقاذ والإسعاد وطبيعة عمل الأنبياء:
وأضرب ـ لتوضيح مهمة النبوة، وطبيعة عمل الأنبياء ـ مثلاً، سوف نفهم به مهمة النبوة، وموقفها من غير دلائل فلسفية دقيقة.
يحكى أن فريقـًا من تلاميذ المدارس ركبوا سفينة للنزهة في البحر، أو للوصول إلى البر، وكان في النفس نشاط وفي الوقت سعة، وكان الملاح المجدف الأمي خير موضوع للدعابة والتنادر، وخير وسيلة للتلهي وترويح النفس، فخاطبه تلميذ ذكي جرئ، وقال: يا عم ماذا درست من العلوم؟ قال الملاح: ولا شيء يا عزيزيº قال: أما درست العلوم الطبيعية يا عمي؟ قال: كلا وما سمعت بها.
وتكلم أحد التلاميذ، فقال: ولكنك لابد درست علم الأقليدس والجبر والمقابلة، قال: وهذا أغرب، وتصدقون أنني أول مرة أسمع هذه الأسماء الهائلة الغريبة.
وتكلم ثالث \" شاطر \" فقال: ولكنني متأكد من أنك درست الجغرافيا والتاريخ، فقال: هل هما اسمان لبلدين، أو علمان لشخصين؟
وهنا لم يملك الشباب نفوسهم المرحة، وعلا صوتهم بالقهقهة، وقالوا: ما سنك يا عم؟ قال أنا في الأربعين من سنيº فقالوا: لقد ضيعت نصف عمرك يا عمنا، وسكت الملاح الأمي على غصص ومضض، وبقي دوره والزمان دوار.
وهاج البحر وماج، وارتفعت الأمواج، وبدأت السفينة تضطرب، والأموج فاغرة أفواهها لتبتلعها، واضطرب الشباب في السفينة ـ وكانت أولى تجاربهم في البحر ـ وأشرفت السفينة على الغرق.
وجاء دور الملاح الأمي، فقال في هدوء ووقار: ما هي العلوم التي درستموها يا شباب؟ وبدأ الشباب يتلون قائمة طويلة للعلوم والآداب التي درسوها في الكلية، ويتوسعون فيها في الجامعة، من غير أن يفطنوا لغرض الملاح الأمي، الحكيم، ولما انتهوا من عد العلوم المرعبة أسماؤها، قال في وقار تمزجه نشوة الانتصار: لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة، فهل درستم علم السباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت السفينة ـ لا قدر الله ـ كيف تسبحون وتصلون إلى الساحل بسلام؟ قالوا: لا والله يا عم، هو العلم الوحيد الذي فاتتنا دراسته والإلمام به.
هنالك ضحك الملاح، وقال إذا كنت ضيعت نصف عمري، فقد أتلفتم عمركم كله، لأن هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان، إنما كان ينجدكم العلم الوحيد الذي تجهلونه علم السباحة. (القصة مقتبسة من كتاب المؤلف\" النبوة والأنبياء في ضوء القرآن).
هذه مهمة النبوة ودورها في إنقاذ البشرية المشرفة على الغرق، وهذه طبيعة عمل الأنبياء والرسل، وامتيازه عن سائر أصناف التعليم والتربية، والترويح والتسلية، يمنحون الجيل البشري \" علم النجاة \" ويعلمونه فن السباحة، وتجديف سفينة الحياة.
إن التاريخ الإنساني يدل دلالة واضحة على أنه لما غرقت سفينة الحياة لفساد أخلاق الناس، وسيئات أعمالهم غرقت بكل ما فيها من مجموعة بشرية، ورصيد حضاري، ومحصول فكري، وإنتاج علمي وفلسفي، وبكل ما فيها من روائع الشعر والأدب والبيان، وإن هذه السفينة لم تغرق أبدًا من أجل الانحطاط الأدبي، وقلة المدارس والجامعات، وفقدان التعليم العالي، أو من قلة المال وانخفاض مستوى المعيشة، إنها غرقت لأن الإنسان أعد نفسه للانتحار، إنه صار معولاً هدامـًا لذلك البناء الذي فيه متاعه وأهله، إن التاريخ يدلنا على أن الفكر الإنساني أصيب في كثير من الأحيان بنوبات عصبية دفعته إلى التدمير والإبادة، بدلاً من التعمير والبناء، فقد رأينا مستغربين مأخوذين بالحيرة والدهشة، ورأينا بأم أعيننا، ونحن لا نكاد نصدق هذا الواقع لهول المنظر وبشاعة الوضع، أن الإنسان قام بهدم أساسه بكل قوة وحماس، ذلك الأساس الذي قام عليه صرحه الحضاري، والفكري العظيم، وظل مشتغلاً بهذه العملية المجنونة بكل شوق ورغبة، كأنها عملية بناءة ومأثرة إنسانية رائعة، وخدمة ممتازة، وصار يلح على الوقوع في خندق الموت، وقد تملكته السآمة من الحياة، واستبد به الشوق إلى الهلاك، كأن الحياة عذاب وجحيم، والهلاك جنة ونعيم.
تصوير العصر الجاهلي وتهيئه للانهيار والانتحار:
ذلك الوضع الذي ساد على العالم في القرن السادس المسيحي، فإننا نجد هناك استعدادات عامة للانتحار الاجتماعي العام، لم يكن النوع البشري في ذلك الزمان راضيـًا بالانتحار فحسب، بل كان يتساقط عليه، ويتهالك فيه، كأنه نذر به وحلف، فيريد أن يفي بنذره ولا يحنث في قسمه، ولقد صور القرآن العظيم هذا المنظر، وهذا الوضع تصويرًا دقيقـًا، لا يصوره أي رسام أو أديب، أو روائي أو مؤرخ: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانـًا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها)(آل عمران/103).
رحم الله المؤرخين، ورواة السيرة فإنهم لم يصوروا الجاهلية حين سردوا لنا وقائع البعثة المحمدية، تصويرًا صحيحـًا دقيقـًا، وهم معذورون ومأجورن، مثابون ومشكورون، فإن ذخيرة الأدب واللغة لا تسعفهم كل الإسعاف، والحقيقة أن هذا الوضع في قمة من الهيبة والفظاعة، وفي منتهى الدقة والتعقيد، لا يمكن وصفه بريشة قلم، والتعبير عنه بأي قدرة بيانية، وصلاحية لغوية.
هل كان العصر الجاهلي الذي بعث فيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قضية انحطاط اجتماعي أو خلقي؟ هل كان قضية وثنية مجردة؟ أو قضية خمر وقمار، وعبث واستهتار، أو ظلم واستبداد، قضية قوانين اقتصادية جائرة، وتعسف الحكام الغاشمين؟ هل كان قضية وأد البنات؟ كلا، إنه كان قضية وأد الإنسانية كلها.
لقد انتهى هذا الدور، وانقرض هذا الجيل، وغاب هذا التصوير البشع عن أعين الناس، فكيف نعيده ونمثله، ونجعله حسيـًا شاخصـًا تراه الأبصار، وتلمسه البنان، وجل ما نستطيع أن نقول: إنه عصر جاهلي لا يفهمه حق الفهم إلا من عاش فيه واكتوى بناره، ولو كان لمصور يحاول التصوير أن يمثل البشرية في صورة إنسان في غاية الجمال والصحة والأناقة وحسن الهندام، الإنسان الذي هو نموذج بديع فريد لصنع الله الذي أتقن كل شيء، والذي هو محسود الملائكة، وغاية الخلق، الذي كلله الله بتاج خلافته، فصار زينة الوجود، ولب لباب الحقيقة والعرفان، وبه تحولت هذه الأرض الخراب اليباب إلى روضة غناء، وحديقة فيحاء، ثم يصور هذا الإنسان أنه يريد أن يقفز إلى خندق عظيم هائل ترتفع منه ألسنة اللهيب، وقد تحفز واستجمع قواه، وجمع ثيابه، ورفع رجله في الفضاء فعلا، وكاد يقع فيه، وما هي إلا دقائق وثوان حتى يغيب في هذا الظلام المهيب، ظلام الموت، فلعل هذا التصوير يصور بعض الجانب من العصر الجاهلي عند بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة، فقال في إيجاز وفي إعجاز: (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها)(آل عمران/103)، وذلك ما شرحه لسان النبوة بمثال رائع بليغ، فقال - عليه الصلاة والسلام -: [مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يعقن فيها وجعل يحجزهنَّ ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها، وقال في آخرها فذلك مثلي ومثلكم، [أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار، فتغلبوني وتقحمون فيها](متفق عليه).
لقد كانت القضية الكبرى في هذه القصة كلها، أن تصل سفينة الإنسانية بسلامة الله وفي حفظه ورعايته إلى شاطئ النجاة، لأنه حين يستوي الإنسان ويعتدل طبعه، وتتحلى الحياة بالاقتصاد والاتزان، وتنفعه ـ إذا كل ـ هذه المشروعات البنانية والإنمائية، أو الأدبية والعملية التي أوتي مواهبها كثير من أصدقاء الإنسانية وأنصارها، ومن هنالك، فإن الإنسانية كلها مدينة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم أنقذوها من تلك الأخطار المحدقة، التي سلطت على رأسها كالسيف المصلت، ولا يتحرر من منتهم وفضلهم مشروع علمي وتخطيط اجتماعي، ولا مدرسة فكرية أو فلسفية، كما أن العالم المعاصر مدين لهم في هذا البقاء والاستمرار وجدارة الحياةº لأن الإنسان اعترف ـ أحيانـًا كثيرة ـ بلسان حاله إن لم يقل بلسان مقاله، أنه فقد حق البقاء في هذه الأرض، وإنه لا يحمل الآن أي رحمة وبركة، وفيض وإفادة، ودعوة ورسالة للإنسانية، إنه رفع الدعوى في المحكمة الإلهية ضد نفسه، وشهد عليه، لقد كانت ملفاته مهيأة للحكم العادل الأخير، وقد نصب الإنسان نفسه لأكبر عقوبة تتصور، بل لعقوبة الإعدام، ولا عجب في ذلك، فحينما تتعدى المدنية عن حدودها الطبيعية وتخرج عن طورها، وتنسى القيم الخلقية كليـًا أو تكفر بها صراحة وعلنا، ويتغافل الإنسان عن كل غاية نبيلة، ومقصد طورها، وعن كل واقع وحقيقة غير الحقائق المادية، وتحقيق مآربه الجسدية، وإرواء ظمئه الحيواني، وحينما يحل محل القلب الإنساني قلب الذئب والنمر والفهد، وتتكون في جسمه معدة خيالية أو صناعية، ونفس أمارة بالسوء، لا يقر لها قرار، ولا يضبطها وازع أو رادع، وحينما تصيب الإنسانية نوبة شديدة من الجنون، يبعث الله لها جماعة من الجراحين، أو عصابة من السفاحين، وتأتي لأورامها المنتفخة سكاكين من ظهر الغيب، تقضي عليها وتقطع دابرها وتستأصل شأفتها.
إن فساد المدنية وهوسها وجنونها أشد من جنون الملكية والحكم الشخصي، وأوسع منه شرًاº لأنه حين يجن جنون شخص ضعيف نحيل واحد يقض مضاجع أهل الحارة كلها، وينغص عيشهم الهادئ، تصور ماذا يحدث في العالم إذا جن جنون النوع البشري أجمع، وتنخر هيكل المدنية وتعفن، وفسدت طبيعة الإنسانية، هل له من رقية أو علاج؟
إلا أنه لم تفسد المدنية فحسب في العصر الجاهلي، بل تفسخت جثتها، وتعفنت ونشأت فيها ديدان قذرة، وأصبح الإنسان يقتنص الإنسان ويصطاده، ويتلذذ بسكراته وشدائده عند الموت، ويتمتع بحالة الاحتضار، كما يتمتع أحدنا بمنظر البساتين والأشجار، والورود والأزهار، ويطرب ويهتز لاضطرابه وتقلبه على الحجر ويفرح بأنين المصاب والمريض والمنكوب، وصراخه وعويله، كما يفرح بالشراب الهنيء، والطعام الشهي، أو المنظر السار الجميل.
سرح طرفك في تاريخ روما التي تغنت أوروبا ـ بفتوحاتها وبطولاتها، وأمجادها وتشريعها وحضارتها، تجد نموذجـًا حيـًا للقسوة البشرية التي بلغت قمتها في هذا العصر، يقول \" ليكي \" في كتابه \" تاريخ أخلاق أوروبا \" يصور جانبـًا من همجية الإنسان وضراوته، ووحشيته النادرة ـ يقول: \" إن أكثر المناظر سحرًا على نفوس أهل روما، وأعظم تسلية ومتعة لهم، كان حين يسقط الجريح في مبارزة أحد الأبطال من بني جنسه، أو مصارعة سبع ضار يتشحط في دمه، هنالك كان يفلت الزمام، ويغلب الناس على أمرهم، ويفقدون رشدهم، فيتهالك الحشد الحاشد ـ وفيه النساء والأطفال والشيوخ العجز ـ على الدنو من هذا المنظر الرهيب، والإنسان البائس الشقي، وهو من بني جلدتهم وأبناء بلادهم ليمتعوا نفوسهم بمشاهدة احتضاره، وليرن في آذانهم رنين أنينه، فقد كان أجمل من كل غناء وموسيقى، ومن سجع الطيور، وكان رجال الشرطة الذين كان من واجبهم المحافظة على النظام، يقفون مشدوهين مكتوفي الأيدي أمام هذه الموجة العارمة من المتعة الظالمة الآثمة، لا يملكون من أمرهم شيئـًا \"(راجع \" تاريخ أخلاق أوروبا \" للمؤلف الإنجليزي \" ليكلي \" ج1 ص230).
طموح العرب وتطلعهم للوحدة والعدالة الاجتماعية:
إن الوعي بقضايا الوحدة والعدالة الاجتماعية مازال حتى يومنا ضئيلاً في عالم البشر في أكثر أرجاء المعمورة، وما زال الاستئثار بالسلطة، والظلم الاجتماعي، وانتقاص كرامة وحقوق الإنسان يمثل مشكلة مستعصية، فضلاً عن العرب الذين طغت عليهم البداوة والتشتت قبيل الإسلام.. فالحقوق التي نالها الإنسان مثل حق الحياة والتملك والشورى وحرية العقيدة، وتكافؤ الفرص في الحقوق العامة والمساواة أمام الحضارة الغربية، بل اكتسب الإنسان هذه الحقوق بواسطة الشرع من سلطة عليا مطلقة، ولئن ضعفت المجتمعات الإسلامية بعد عصر الراشدين عن مواصلة السير على نهجهم بنفس المستوى، بل ظهر ـ أحياناـ النقص والعدوان على حقوق الإنسان، فإن المسئولية تقع على الناس الذين لم يحافظوا على مستوى من الوعي يمكنهم من الحصول على حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولا تقع على الإسلام نفسه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد