أما تواضعه - صلى الله عليه وسلم -، على علو منصبه و رفعة رتبه ـ فكان أشد الناس تواضعاً، و أقلهم كبرا. و حسبك أنه خير بين أن كان نبياً ملكاً أو نبياً عبداً، فاختيار أن يكون نبياً عبداً، فقال له إسرافيل عند ذلك: فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد و لد آدم يوم القيامة، و أول من تنشق الأرض عنه، و أول شافع.
عن أبي أمامة، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئاً على عصا، فقمنا له. قال لا تقومو ا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً. و قال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، و أجلس كما يجلس العبد.
و كان يركب الحمار، و يردف خلفه، و يعود المساكين، و يجالس الفقراء، و يجيب دعوة العبد، و يجلس بين أصحابه مختلطا ً بهم حيثما انتهى به المجلس جلس. و في حديث عمر عنه: لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله.
وعن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء جائته، فقال: إن لي إليك حاجة قال: اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك. قال: فجلست، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها حتى فرغت من حاجتها.
قال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركب الحمار، و يجيب دعوة العبد، و كان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف.
قال: و كان يدعى إلى خبز الشعير و الإهالة السنخة فيجيب.
قال: وحج - صلى الله عليه وسلم - على رحل رث، و عليه قطيفة ماتساو ي أربعة دراهم،
فقال: اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه و لا سمعة.
هذا، و قد فتحت عليه الأرض، و أهدى في حجه ذلك ما أتى بدنة و لما فتحت عليه مكة و دخلها بجيوش المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى كاد يمس قادمته تواضعاً الله - تعالى -. ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - قوله: لا تفضلوني على يونس بن متى، و لا تفضلوا بين الأنبياء، و لا تخيروني على موسى، و نحن أحق بالشك من إبراهيم و لو لبس ما لبس يوسف [42] في السجن لأجبت الداعي.
و قال للذي قال له: يا خير البرية: ذاك إبراهيم. و سيأتي الكلام على هذه الأحاديث بعد هذا إن شاء الله.
وعن عائشة، و الحسن، و أبي سعيد و غيرهم في صفته، و بعضهم يزيد على بعض: و كان في بيته في مهنة أهله يفلي ثوبه، و يحلب شاته و يرقع ثوبه، و يخصف نعله، و يخدم نفسه، و يقم البيت، و يعقل البعير، و يعلف ناضحه، و يأكل مع الخادم، و يعجن معها، ويحمل بضاعته من السوق.
وعن أنس: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت حتى تقضي حاجتها. و دخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له: هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد.
وعن أبي هريرة: دخلت السوق مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشترى سراويل و قال للوزان: زن و أرجح ـ و ذكر القصة قال: فوثب إلى يد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلها، فجذب يده، و قال: هذا تفعله الأعاجم بملوكها، و لست بملك، إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحمله، فقال: صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله.