بعد بيعة العقبة بدأت طلائع المهاجرين تتوجّه إلى المدينة أخرج البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قد أريت دار هجرتكم رأيت سبخة ذات نخل بين لا بتين وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة..)).
أخرج البخاري عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: ((أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).
قال البخاري عن عائشة: (وتجهّز أبو بكر قِبَل المدينة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السدر - وهو الخبط - أربعة أشهر)).
وهنا تعرف أخي الكريم منـزلة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحباً له من بين جميع أصحابه.
وظلّ رسول الله ينتظر أمر ربّه بالهجرة إلى المدينة، وقريش جاهدة في حربه والكيد له حتى ائتمروا في دار الندوة على أن يأخذوا من كل قبيلة فتًى جلداً فيعطونه سيفاً حاداً فيقتلون به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتفرّق دمه بين القبائل.
قال ابن إسحاق: ((ولما رأت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً، وأصابوا منهم منعةً، فحذروا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين خافوه.
فقريش تخطّط للإيقاع بالدعوة، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطط للنجاة بها إلى بر الأمان.
روى البخاري عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - زَوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَت: (لَم أَعقِل أَبَوَيَّ قَطٌّ إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَم يَمُرَّ عَلَينَا يَومٌ إِلا يَأتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكرَةً وَعَشِيَّةً).
قَالَ ابنُ شِهَابٍ,: قَالَ عُروَةُ: قَالَت عَائِشَةُ: (فَبَينَمَا نَحنُ يَومًا جُلُوسٌ فِي بَيتِ أَبِي بَكرٍ, فِي نَحرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكرٍ,: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ, لَم يَكُن يَأتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكرٍ,: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا أَمرٌ قَالَت: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاستَأذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي بَكرٍ,: أَخرِج مَن عِندَكَ فَقَالَ أَبُو بَكرٍ,: إِنَّمَا هُم أَهلُكَ بِأَبِي أَنتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنِّي قَد أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكرٍ,: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: نَعَم قَالَ أَبُو بَكرٍ,: فَخُذ بِأَبِي أَنتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَينِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: بِالثَّمَنِ قَالَت عَائِشَةُ: فَجَهَّزنَاهُمَا أَحَثَّ الجِهَازِ وَصَنَعنَا لَهُمَا سُفرَةً فِي جِرَابٍ, فَقَطَعَت أَسمَاءُ بِنتُ أَبِي بَكرٍ, قِطعَةً مِن نِطَاقِهَا فَرَبَطَت بِهِ عَلَى فَمِ الجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَت ذَاتَ النِّطَاقَينِ قَالَت: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكرٍ, بِغَارٍ, فِي جَبَلِ ثَورٍ, فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ, يَبِيتُ عِندَهُمَا عَبدُ اللَّهِ بنُ أَبِي بَكرٍ, وَهُوَ غُلامٌ شَابُّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدلِجُ مِن عِندِهِمَا بِسَحَرٍ, فَيُصبِحُ مَعَ قُرَيشٍ, بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ, فَلا يَسمَعُ أَمرًا يُكتَادَانِ بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَختَلِطُ الظَّلامُ وَيَرعَى عَلَيهِمَا عَامِرُ بنُ فُهَيرَةَ مَولَى أَبِي بَكرٍ, مِنحَةً مِن غَنَمٍ, فَيُرِيحُهَا عَلَيهِمَا حِينَ تَذهَبُ سَاعَةٌ مِنَ العِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسلٍ, وَهُوَ لَبَنُ مِنحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنعِقَ بِهَا عَامِرُ بنُ فُهَيرَةَ بِغَلَسٍ, يَفعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيلَةٍ, مِن تِلكَ اللَّيَالِي الثَّلاثِ وَاستَأجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكرٍ, رَجُلًا مِن بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِن بَنِي عَبدِ بنِ عَدِيٍّ, هَادِياً خِرِّيتًا وَالخِرِّيتُ المَاهِرُ بِالهِدَايَةِ قَد غَمَسَ حِلفًا فِي آلِ العَاصِ بنِ وَائِلٍ, السَّهمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيشٍ, فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيهِ رَاحِلَتَيهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَورٍ, بَعدَ ثَلاثِ لَيَالٍ, بِرَاحِلَتَيهِمَا صُبحَ ثَلاثٍ, وَانطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بنُ فُهَيرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِم طَرِيقَ السَّوَاحِلِ)).
قَالَ ابنُ شِهَابٍ,: وَأَخبَرَنِي عبد الرحمنِ بنُ مَالِكٍ, المُدلِجِيٌّ وَهُوَ ابنُ أَخِي سُرَاقَةَ بنِ مَالِكِ بنِ جُعشُمٍ, أَنَّ أَبَاهُ أَخبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بنَ جُعشُمٍ, يَقُولُ: ((جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيشٍ, يَجعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكرٍ, دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ, مِنهُمَا مَن قَتَلَهُ أَو أَسَرَهُ قَالَ ابنُ شِهَابٍ,: فَأَخبَرَنِي عُروَةُ بنُ الزٌّبَيرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ الزٌّبَيرَ فِي رَكبٍ, مِنَ المُسلِمِينَ كَانُوا تُجَارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّأمِ فَكَسَا الزٌّبَيرُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكرٍ, ثِيَابَ بَيَاضٍ, وَسَمِعَ المُسلِمُونَ بِالمَدِينَةِ مَخرَجَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن مَكَّةَ فَكَانُوا يَغدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ, إِلَى الحَرَّةِ فَيَنتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُم حَرٌّ الظَّهِيرَةِ فَانقَلَبُوا يَومًا بَعدَ مَا أَطَالُوا انتِظَارَهُم فَلَمَّا أَوَوا إِلَى بُيُوتِهِم أَوفَى رَجُلٌ مِن يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ, مِن آطَامِهِم لِأَمرٍ, يَنظُرُ إِلَيهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ فَلَم يَملِكِ اليَهُودِيٌّ أَن قَالَ بِأَعلَى صَوتِهِ: يَا مَعَاشِرَ العَرَبِ هَذَا جَدٌّكُمِ الَّذِي تَنتَظِرُونَ. فَثَارَ المُسلِمُونَ إِلَى السِّلاحِ فَتَلَقَّوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِظَهرِ الحَرَّةِ فَعَدَلَ بِهِم ذَاتَ اليَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِم فِي بَنِي عَمرِو بنِ عَوفٍ, وَذَلِكَ يَومَ الِاثنَينِ مِن شَهرِ رَبِيعٍ, الأَوَّلِ فَقَامَ أَبُو بَكرٍ, لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامِتًا فَطَفِقَ مَن جَاءَ مِنَ الأَنصَارِ مِمَّن لَم يَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَيِّي أَبَا بَكرٍ, حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمسُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقبَلَ أَبُو بَكرٍ, حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِندَ ذَلِكَ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَنِي عَمرِو بنِ عَوفٍ, بِضعَ عَشرَةَ لَيلَةً وَأُسِّسَ المَسجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَت عِندَ مَسجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - بِالمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَومَئِذٍ, رِجَالٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَكَانَ مِربَدًا لِلتَّمرِ لِسُهَيلٍ, وَسَهلٍ, غُلامَينِ يَتِيمَينِ فِي حَجرِ أَسعَدَ بنِ زُرَارَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَرَكَت بِهِ رَاحِلَتُهُ: هَذَا إِن شَاءَ اللَّهُ المَنزِلُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الغُلامَينِ فَسَاوَمَهُمَا بِالمِربَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسجِدًا فَقَالا: لا بَل نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَن يَقبَلَهُ مِنهُمَا هِبَةً حَتَّى ابتَاعَهُ مِنهُمَا ثُمَّ بَنَاهُ مَسجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنقُلُ اللَّبِنَ:
هَذَا الحِمَالُ لا حِمَالَ خَيبَر * * * هَذَا أَبَرٌّ رَبَّنَا وَأَطهَر
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجرَ أَجرُ الآخرة * * * فَارحَمِ الأَنصَارَ وَالمُهَاجِرَه
فَتَمَثَّلَ بِشِعرِ رَجُلٍ, مِنَ المُسلِمِينَ لَم يُسَمَّ لِي)).
بعض الدروس والفوائد والعظات من الهجرة:
1- تقدم إسلام آل أبي بكر ((لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين)).
2- اهتمام أبي بكر بأهل بيته وإصلاحهم والبدء بهم قبل غيرهم.
3- منـزلة أبي بكر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلته الوثيقة به، ومعايشته لأمر الدعوة منذ بزوغ فجرها، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يزوره كلّ يوم مرّتين.
4- إن تفكير أبي بكر في الخروج من مكّة مهاجراً لوحده مع منـزلته وأهميته للدعوة وصلته الوثيقة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ليكشف عن مدى الأذى والشدّة التي تلحقها قريش بالمسلمين. هذا مع أن أبا بكر من الأشراف ومن الذين يجدون منعةً في قومهم فكيف بالضعفاء والعبيد!!
5- أن أمن الدين هو الأصل عند المسلم فإن وجد عليه خطراً دفع بلده وماله وأهله حمايةً لدينه، ولهذا خرج أبو بكر مهاجراً وحده تاركاً كل شيء خلف ظهره يطلب الأمان لدينه ودعوته.
6- بلد المسلم ووطنه هو الذي يتمكن فيه من إظهار دينه ودعوته فيه، ولهذا خرج أبو بكر على الرغم من أفضليّة بلده على سائر البلدان. وعلى المسلم أن لا يركن إلى الذلّ والهوان بل يعمل تفكيره في الخروج من الحصار المضروب على دينه ودعوته، ويبحث عن موطن موافق أو مسالم لها. حتى يتمكّن من تحقيق عبوديّته لله-تعالى-.
7- لقد أذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالهجرة ولم يختر صاحباً له في الهجرة غير أبي بكر وفي هذا دلالة على عظم الصلة وقوّة الرابطة بينه وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ((على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي)).
8- لقد تجهّز أبو بكر للهجرة إلى المدينة، ولكن بعد ما عرّض له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصحبة جلس وتحمّل الأذى والعنت والتعب من قريش طاعةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغبةً في مصاحبته. ((فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه)).
9- مبادرة أبي بكر في الترتيب لأمر الهجرة، وبذل المال في خدمة دعوته بدون طلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد قام مباشرةً بعد تعريض الرسول - صلى الله عليه وسلم - له بالصحبة بتعليف راحلتين كانتا عنده ; إذ مثل هذا من بدهيّات الهجرة فلا تحتاج إلى أمر يتلقّاه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا بيان بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يربّيهم تربية العبيد تربية الخنوع وإلغاء العقل مع المتبوع.
10- مقابلة التخطيط بالتخطيط، والتنظيم بالتنظيم، والترتيب بالترتيب، فقريش تخطّط وترتّب للإيقاع بالدعوة، بينما الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطّط ويرتّب للنجاة بها، وهذا يوضح أن الاستسرار فيما يخدم الإسلام بما لا يتعلّق به بلاغ ولا بيان ولا يترتّب على إسراره كتمان للدين أو سكوت عن حق من سنّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يتعارض التخطيط وأخذ الحيطة مع التوكّل على الله - تعالى - لأن الأخذ بالأسباب جزء من العبادة.
11- وإن من أعظم مظاهر التضحية في هذه الهجرة أن يغادر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون هذا البلد الأمين الحبيب إلى قلوبهم - بل وإلى قلوب جميع المسلمين - مغادرةً يعلمون أن لا استقرار لهم فيه بعدها، وهذا من أشقّ الأمور على النفس، ولكن رجال العقيدة يرخصون في سبيلها كل غالٍ,.
ولقد عبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا المعنى - معنى صعوبة مغادرة مكّة وفراقها فراقاً لا سكنى بعده - في العديد من المواقف المؤثّرة.
عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفاً على الحَزورة فقال: والله والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت))([1]).
12- تربية أبي بكر لأسرته على الأمانة وإحاطة الإسلام وحفظه وبذل ما يملكون في سبيل ذلك، وكان واثقاً أتمّ الثقة بتربيته فقال للرسول - صلى الله عليه وسلم - لـمّا أمره بإخراج من عنده: ((لا عين عليك))، ((إنما هم أهلك يا رسول الله)).
13- الرغبة في مصاحبة أهل الخير مهما ترتّب على ذلك من أخطار. قال أبو بكر للرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((الصحبة يا رسول الله)).
14- منـزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند أبي بكر أوصلته إلى البكاء من الفرح لـمّا أخبره بمصاحبته في الهجرة.
15- الرغبة في المساهمة في طريق الخير وعدم الاعتماد على الآخرين في ذلك، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أبى أن يركب راحلة ليست له حتى اشتراها من أبي بكر بالثمن، حتى تكون هجرته بماله ونفسه رغبةً في استكمال فضل الهجرة والجهاد على أتمّ أحوالهما ([2]).
16- أسرة أبي بكر تشارك بمجموعها في إنجاح خطّة الهجرة النبوية.
17- الاستفادة من خبرات وطاقات المجتمع وتوظيفها في المجالات المناسبة، فعبد الله بن أبي بكر للأخبار، وعامر للشراب، وأسماء وعائشة لتجهيز الطعام وهكذا.
18- الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن حالهم، ولم يكن لهم شوكة في التأثير على القرار، وعرفوا واشتهروا بما يراد منهم، ولم يكن أحد من المسلمين يسدّ هذه الوظيفة، وكانت عاداتهم وتقاليدهم تفرض عليهم الأمانة في أداء تلك المهمّة.
19- اتّخاذ الأسباب والاحتياطات التامّة، ثمّ التوكّل على الله - تعالى - والثقة المطلقة به والاطمئنان لنصره، وعدم الاتّكال على الأسباب ذاتها. قال أبو بكر: ((يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا)). قال: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).
20- إن نصر الله فوق كلّ نصر وقدرة الله فوق كلّ قدرة، وأمر الله فوق كل أمر، وتأييده يتحدّى كلّ قدرات البشر وطاقاتهم، فهذه قريش صاحبة السلطة وتحت يدها السلاح والرجال والأموال ومع ذلك لم تستطع أن تهتدي إليهم في الغار.
21- نجاح خطة وترتيبات الهجرة النبوية، فعلى الرغم من حرص قريش وتعميمها على القبائل وبذل الأموال في سبيل ذلك إلا أنه لم يدركهم منهم أحد غير سراقة.
22- لقد كان أبو بكر قلقاً على حياة رسول الله من أن يصيبها أذى ولذلك يكثر الالتفات، أمّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان واثقاً من نصر ربّه له، مطمئناً إلى ذلك لم يعبأ بالخطر مع قربه منه، ولم يستحق منه مجرّد الالتفات، قال أبو بكر: ((هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله)). فقال: ((لا تحزن إن الله معنا)).
----------------------------------------
([1]) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة. الغرباء ص591.
([2]) الروض الأنف 5502.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد