كان من حكمة الله - تعالى -في اختيار المدينة دارًا للهجرة ومركزًا للدعوة- هذا عدا ما أراده الله من إكرام أهلها وأسرار لا يعلمها إلا الله- إنها امتازت بتحصن طبيعي حربي، لا تزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة، فكانت حرة الوبرة مطبقة على المدينة من الناحية الغربية وحرة واقم، مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب)، وكانت الجهة الأخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النخيل الزروع الكثيفة لا يمر منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكري، وترتيب الصفوف.
وكانت خفارات عسكرية صغيرة كافية بإفساد النظام العسكري ومنعه من التقدم يقول ابن إسحاق: «كان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لا يتمكن العدو منها ».
ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهية في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة: «إني رأيت دار هجرتكم، ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان». فهاجر من هاجر قِبَل المدينة.
وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة إتاوة أو جباية، يقول ابن خلدون: ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملتهم من جاورهم من قبائل مضر.
وكان بنو عدي بن النجار أخواله - صلى الله عليه وسلم -، فأم عبد المطلب بن هاشم إحدى نسائهم، فقد تزوج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وولدت لهاشم عبد المطلب، وتركه هاشم عندها، حتى صار غلاماً دون المراهقة، ثم احتمله عمه المطلب، فجاء به إلى مكة، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعية، ومنهم أبو أيوب الأنصاري الذي نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في داره في المدينة.
وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون ومن سبق إلى الإسلام في مكة وما حولها من عدنان، ولما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره، اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسدٍ, واحدِ، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهلية، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلاً إلى قلوبهم لإثارة الفتنة والتعزي بعزاء الجاهلية، باسم الحمية القحطانية أو العدنانية، فكانت لكل ذلك مدينة يثرب أصلح مكان لهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واتخاذهم لها داراً وقراراً، حتى يقوى الإسلام ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن.
سادسًا: من فضائل المدينة:
لقد عظُم شرف المدينة المنورة المباركة بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، حتى فضلت على سائر بقاع الأرض حاشا مكة المكرمة، وفضائلها كثيرة منها:
1- محبته - صلى الله عليه وسلم - لها ودعاؤه لها:
دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه قائلا: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد» وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر، فأبصر إلى درجات المدينة، أَوضَع ناقته وإن كان على دابة حركها» قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد «حركها من حبها».
2- دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بضعفي ما في مكة من البركة:
فعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «كان الناس إذا رأوا أول أثمر جاءوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر .
3- عصمتها من الدجال والطاعون ببركته - صلى الله عليه وسلم -:
إن الله - تعالى -قيض لها ملائكة يحرسونها، فلا يستطيع الدجال إليها سبيلاً، بل يلقى إليه بإخوانه من الكفار والمنافقين، كما أن من لوازم دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصحة ورفع الوباء ألا ينزل بها الطاعون، كما أخبر بذلك المعصوم - صلى الله عليه وسلم -.
4- فضيلة الصبر على شدتها:
فقد وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من صبر على شدة المدينة وضيق عيشها بالشفاعة يوم القيامة فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» .
5- فضيلة الموت فيها:
فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها» ، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يدعو بهذا الدعاء: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك - صلى الله عليه وسلم -) .
وقد استجاب الله للفاروق - رضي الله عنه - فاستشهد في محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يؤم المسلمين في صلاة الفجر.
6- هي كهف الإيمان وتنفي الخبث عنها:
فالإيمان يلجأ إليها مهما ضاقت به البلاد، والأخباث والأشرار لا مقام لهم فيها ولا استقرار، ولا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه من المؤمنين الصادقين فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الإيمان ليأرِز إلى المدينة كما تأرِز الحية إلى جحرها» ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «...والذي نفسي بيده لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» .
7- تنفي الذنوب والأوزار:
عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها أي المدينة طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة».
8- حفظ الله إياها ممن يريدها بسوء:
فقد تكفل الله بحفظها من كل قاصد إياها بسوء، وتوعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحدث فيها حدثاً، أو آوى فيها محدثاً، أو أخاف أهلها، بلعنة الله وعذابه، وبالهلاك العاجل فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المدينة حرم الله، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ، ولا صرفٌ».
9- تحريمها:
فقد حرمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله فلا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يروع فيها أحد، ولا يقطع فيها شجر، ولا تحل لُقَطَتها إلا لمنشد، وغير ذلك ما يدخل في تحريمها قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم - عليه السلام - لمكة».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها»يعني المدينة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يختلي خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيرة ولا تحمل فيها السلاح لقتال»
إن هذه الفضائل العظيمة جعلت الصحابة يتعلقون بها، ويحرصون على الهجرة إليها، والمقام فيها، وبذلك تجمعت طاقات الأمة فيها، ثم توجهت نحو القضاء على الشرك بأنواعه، والكفر بأشكاله، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد