برهانك فالزم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 ألا ليتني أوتيتُ جوامعَ الكلِم واختصر ليَ الكلامُ اختصاراً، أو أني بلغت مَبلغَ الخليلِ بنِ أحمد وجُمعت ليَ أركانُ البلاغةِ نثراً وأشعاراً، ولو أن تلك الأماني قدر أن تكونº فلا ولن أوفي الحبيب محمداً - صلى الله عليه وسلم -  قدره الرفيع المصون، وإنما أكون أنا المجاوز قدري أن أتصدى لمدحه...ومن ذا في الناس يحوز من فنون القول ما يحيط بشمائل هي البحر المحيط والناس قطر؟

 

 خلالُ رسولِ اللهِ أرسَى وأرسخ *** وفضلُ رسولِ الله أسمى وأشمخ

 

 خلالٌ بها حورُ الجِنان ترنَمَت ** وأملاكُ أرجاءِ السمـــاءِ تضمخ

 

 \"كان أحسن الناس خلقاً\" (1).

 

 ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أحسن الناس في أمره كله وخصاله جميعها، وهذا قبس من شمائله مع نفحات من سيرته:

 

 قال أنس - رضي الله عنه -: \" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  أحسن الناس خلقاً\"(2). وذلك أنه المؤدب من ربه، كما أخبر به عن نفسه: \"أدبني ربي فأحسن تأديبي\"، وقد خاطبه الله - جل وعلا - بأعلى وأحسن خطاب وأبلغ تزكية في خير كتابº فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,) (القلم: 4)، قال ابن عباس ومجاهد: \"لا دين أحب إليَّ ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإسلام \"، وقال الحسن: \"هو آداب القرآن \".

 

 وفي الصحيحين: أن هشام بن حكيم سأل عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالت: \"كان خلقه القرآن\"، فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً \".

 

 ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -  عن البرº قال: \"البِرٌّ حُسن الخلق\".. ففيه البر كل البر مكتمل مجموع.. \"وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله - تعالى -: (خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجَاهِلِينَ) (لأعراف: 199) قال جعفر بن محمد: أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -  بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، وقد ذكر: أنه لما أنزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  لجبريل: ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل، فسأل، ثم رجع إليه، فقال: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك\" (3).

 

 وكان النبي- صلى الله عليه وسلم -  أحسن الناس عشرة للناس، قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: \" ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  عشر سنين.. فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟ \" (4).

 

 وكان النبي- صلى الله عليه وسلم -  أعظم الناس تأدباً ورعاية لعورات الناس.. \"كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم\" (5).

 

 وكان في حيائه كالعذراء في خدرها.

 

 وكان النبي- صلى الله عليه وسلم -  أحسن الناس معاملة للناس.. فكان - صلى الله عليه وسلم -  يمر على الصبيان فيسلم عليهم. وكانت الأمة تأخذ بيده - صلى الله عليه وسلم - ، فتنطلق به حيث شاءت.

 

 وكان - صلى الله عليه وسلم -  يكون في بيته في خدمة أهله، يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب لهم الشاة، ويعلف البعير، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، ولم يكن ينتقم لنفسه قط.

 

 فقد كان - صلى الله عليه وسلم -  أحسن الناس لأهله، ووصى بذلك أتباعه، فقال: \" خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي\".

 

 وكان - صلى الله عليه وسلم -  يأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما.

 

 وكان - صلى الله عليه وسلم -  يبدأ من لقيه بالسلام ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء، وقال: \" لو دعيت إلى ذراع ــ أو كراع ــ لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع ــ أو كراع ــ لقبلت \" (6).

 

 وكان - صلى الله عليه وسلم -  هين المؤنة، لين الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة طلق الوجه بساماً، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب رحيماً بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين لين الجانب لهم.

 

 وقال - صلى الله عليه وسلم - : \"ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ ــ أو تحرم عليه النار ــ تحرم على كل قريب هين لين سهل \" (7).

 

 وكان - صلى الله عليه وسلم -  يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد.

 

 وكان - صلى الله عليه وسلم -  إذا استسلف سلفاً قضى خيراً منه..

 

 أخرج مسلم وغيره (8) من حديث أبي رافع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  استسلف من رجلاً بَكراً، فقدمت عليه إبلُ من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: \" أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء\".

 

 وكان - صلى الله عليه وسلم -  إذا استسلف من رجل سلفاً، قضاه إياه، ودعا له، فقال: \"بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء\"(9).

 

 واستسلف من رجل أربعين صاعاً، فاحتاج الأنصاري، فأتاه، فقال - صلى الله عليه وسلم - : \"ما جاءنا من شيء بعد\"، فقال الرجل ــ وأراد أن يتكلم ــº فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : \"لا تقل إلا خيراً، فأنا خير من تسلف\" فأعطاه أربعين فضلاً، وأربعين سلفة، فأعطاه ثمانين (10).

 

 واقترض - صلى الله عليه وسلم -  بعيراً فجاء صاحبه يتقاضاه، فأغلظ للنبي- صلى الله عليه وسلم - ، فهمً به أصحابه، فقال: \"دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً\" (11).

 

 واشترى مرة شيئاً وليس عنده ثمنه فأربح فيه، فباعه، وتصدق بالربح على أرامل بني عبد المطلب، وقال: \" لا أشتري بعد هذا شيئاً إلا وعندي ثمنه\" (12).

 

 وتقاضاه غريم له ديناً، فأغلظ عليه، فهمً به عمر بن الخطاب، فقال: \" مَه يا عمرُ كنتُ أحوجَ إلى أن تأمرني بالوفاء، وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر\" (13).

 

 هكذا كان تواضعه وتلطفه مع الناس ورفقه بهم، فلم يقم من هيبة النبوة سداً رادعاً ولا حاجزاً صلداً يسلبهم بعض ما تجري به الطباع بين آحادهم، وإن كان الواجب على الآحاد أن لا يغفلوا حقه من التعظيم والتوقير اللائقين بمكانته. بل بذل لهم من لطفه ما أنساهم أحياناً أنهم يخاطبون خير من أقلت الأرضين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

 

ألا ليتَ دماءَ قلبي تغدو مداداً وعظامي رفاتاً أقلاماًº فتخط في الذب عن الحبيب كلمة في حبه وتوقيره أو حرفاً..

 

 إمامَ المرسـلين فداكَ روحي *** وأرواحُ الأئـمـة والدعـــاةِ

 

 رسـول العالمين فداكَ عرضي *** وأعراضُ الأحبـة والثقــاةِ

 

 ويا علمَ الهــدى يفديك عمري *** ومـالـــي.. يا نبــيَّ المَكرُمـــاتِ

 

 فِداكَ الكون يا عَطِرَ الســجايا *** فمـــا للكـون دونــك من زكـــاةِ

 

 ألا إن كلَّ قول ـ في مدح المصطفى - صلى الله عليه وسلم -  ـ بلغ ما بلغ ـ هو دون قول الله - تعالى -: (وإنك لعلى خلق عظيم) (القلم: 4) فأكد عظمة خلقه - صلى الله عليه وسلم -  بـ \"واو\" القسم، وبحرفي التوكيد \"إن\" و\"ل\"، وتنكير \"خلق\" إفادة للتعميم والتعظيم..

 

 وكل حفظ ورعاية وصيانة ـ بلغت ما بلغت ـ هي دون قول الحق - عز وجل -: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) (الطور: 48) وهو ما لم يُقل لنبي قبله.

 

 وكل نصرة ـ بلغت ما بلغت ـ هي دون قول القوي المتين: (فإنَّ اللهَ هُوَ مَولاهُ وَجِبريلُ وَصَالحُ المُؤمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم: 4).. وأي نصرة فوق هذه النصرة؟

 

 وليت شعري ما أعظم عمل يدخل صاحبه في \"صالح المؤمنين\".

 

 ولتلك غداً حجة الحجج وبرهان البراهين.. فلا تفوتنك ــ أخا الإسلام ــ حجتك، ولا يغادرنك برهانك.. أما تحب أن تدخل في الصالحين؟ فحيعلا.

 

 ثم إنَّ كل تزكية ـ بلغت ما بلغت ـ هي دون قول الكريم المنان: (أَلَم نَشرَح لكَ صَدرَكَ وَوَضَعنا عَنكَ وِزرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهرَكَ وَرَفَعنَا لكَ ذِكرِكَ) (الشرح: 1ــ4).. وأي نصرة فوق هذه النصرة؟

 

 هذا وإن المسلمين اليوم ـ لا ريب ـ على حرفº فهم بين فريقين اثنين لا ثالث لهما: ناصر للنبي صادق أبي، ومنتسب منتحل متخاذل دَعِيٌ... ومن تخاذل فعلى نفسه.. (إِلا تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللهُ إِذ أَخرَجَهُ الذينَ كَفَرُوا ثَانيَ اثنَينِ إِذ هُمَا فِي الغَارِ إِذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَدَهُ بِجُنُودٍ, لَم تَرَوهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذينَ كَفَرُوا السٌّفلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا واللهُ عَزِيزُ حَكيمٌ) (التوبة: 40).

 

 ألا فبادر ـ أخا الإسلام ـ واجتهد  أن تكونَ مع مَنِ اللهُ معه.

 

 ولا تُخَذِّلَنَّكَ فلسفاتُ الداعين إلى الحوار..

 

ـــــــــــــــ

 

إحالات:

(1) أخرجه مسلم. وفي حديث: \"كان أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس\" (). () أخرجه مسلم.

(2) متفق عليه.

(3) \"مدارج السالكين\" لابن قيم الجوزية: (316، 317 /2).

(4) متفق عليه.

(5) أخرجه أحمد وأبو داود.

(6) رواه البخاري.

(7) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن\".

(8) أخرجه مسلم ــ في \"المساقاة\" ــ (1600) باب (20) \"من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه\"، و \"خيركم أحسنكم قضاء\"، وفي الباب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري في الوكالة (2306) باب (6) الوكالة في القضاء والديون.

(9) أخرجه أحمد في مسنده (16410/5) والنسائي في البيوع (4697) باب (97) الاستقراض، وابن ماجه في الصدقات (2424) باب: حسن القضاء، وإسناده جيد.

(10) رواه البزار من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وتعقبه بقوله: لا نعلمه بإسناد متصل إلا بهذا، ولم نسمعه إلا من أحمد وكان ثقة، وذكره الهيثمي في \"مجمع الزوائد\" (6690/4) ط: دار الفكر- وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار، وهو ثقة.

(11) أخرجه البخاري في الوكالة (2305) باب (5) وكالة الشاهد والغائب، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنهم -، وأطرافه في: (2306) (2390) (2392) (2393) (2401) (2606) (2609).

(12) أخرجه أبو داود في البيوع (3344) باب (9) في التشديد في الدين، من طريق شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا إسناد ضعيف.

(13) أخرجه الحاكم في البيوع (2237/2) بأتم من هذا، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في \"التلخيص\" بقوله: مرسل.  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply