مرجعية موحدة.. لأمة واحدة تربويات التشييد ( 2 ــ 2 )


 بسم الله الرحمن الرحيم

في الحلقة السابقة أكد الكاتب على أننا ننشد مرجعية موحدة تجمع الشتات، وتلم الشعث، وتسوّي الصفوف، وأنها الفريضة الأمل، وقد وجه الدعوة في ذلك إلى أصناف المؤمنين ومهماتهم العلمية والدعوية والتربوية، وتحدث عن الصدق والإخلاص في صياغة اللبنة الأنموذج المطلوبة لصرحنا المنشود، وتطرق إلى خُلُق التواضع وأنه يورث العقلية الجماعية، والروح الأخوية، والألفة والمودة، أما تحقيق التواضع عملياً فيكون بالتمرس عليه، وتكلف أفعال أهله، ومجاهدة النفس على ذلك. وفي هذه الحلقة يتابع حديثه في صفات أهل المرجعية الموحدة.

ثالثاً: سلامة الصدر:

ـ سلامة الصدر حال عزيزة نادرة، وهي ـ وإن كانت تُكتسب وتستفاد، ولها أسباب توصلك إليها ـ إلا أنها هبة من الله يمنحها من يشاء من عباده: إما بمحض فضل منه ورحمة، وإما لاجتهاد العبد في إصلاح قلبه، وسلامة صدره، فيكافئه الله ـ بفضله أيضاً ـ من جنس ما عمل، وبنية ما قصدº ولذلك كان دعاء المؤمنين ـ تضرعاً إلى الله ـ: {رَبَّنَا اغفِر لَنَا وَلإخوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجعَل فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].

ـ وسلامة الصدر راحة لصاحبها، وصلاح بال، وصفاء ذهن، وطمأنينة قلب، وعافية نفسية، وبرء من آلام وأوجاع ومعاناة الغل والحقد والحسد، ومن سائر أدواء مرض الصدر وآفاته.

وإنَّ غير سليم الصدر لهو أبأس المعانين، وأتعس المتخاصمين، وأشدهم تضرراً، وأعظمهم عذاباًº لأنه يعاني ضيقاً في كل ما ينبغي أن يكون واسعاً: ضيقاً في صدره، وفي أخلاقه، وفي فكره، وفي مَعِين محبته الخير وإنشاده الصلاح للناس، ولا يبرح ـ بهذا الضيق ـ في حرج إلى أن ينتهي به ـ لا محالة ـ إلى الخزي والضلال، وفساد القلب والحالº فإنما القلب مضغة إذا صلحت صلحت الجوارح كلها، وإذا فسدت فسدت الجوارح جميعهاº وفي ذلك خسران مبين في الدنيا ويوم الدين. وتأمل كيف كان دعاء إبراهيم ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم ـ: {وَلا تُخزِنِي يَومَ يُبعَثُونَ * يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ,} [الشعراء: 87 - 89].

وهل تجد سليم الصدر إلا ودوداً بإخوانه، ذليلاً عليهم، رؤوفاً رحيماً بهم وبعموم المؤمنين، محباً لهم ما يحبه لنفسه، طالباً لما فيه صلاحهم، حريصاً على ما منه نفعهم؟ وذلك ما يجعله شغوفاً بنصحهم، مهموماً بما فيه عَنَتُهم، يتوخى صلاحهم من كل سبيلº فهو على إثر من قال فيه الله - جل وعلا -: {لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِّن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتٌّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالـمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

إنه بلا شك الصدر السليم.

جاء في تفسير قول الله - تعالى -: {إذ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ,} [الصافات: 84]: «.. أن عوف الأعرابي قال: سألت محمد بن سيرين: ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله - عز وجل - في خَلقِهِ»(1).

وكان من دعاء نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أسألك قلباً سليماً»(2).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير»(3).

قال الإمام القرطبــي ـ معلقاً عـلى هـذا الحـديث ـ: «يريـد ـ والله أعلم ـ أنها مثلها في أنها خالية من كل ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لهم بأمور الدنياº كما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكثر أهل الجنةِ البُلهُ» وهو حديث صحيح. أي: البُلهُ عن معاصي الله. قال الأزهري: الأبله هنا هو الذي طُبِعَ على الخير، وهو غافل عن الشر لا يعرفه. وقال القتبي: البُلهُ: هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس»(4).

إن الصدر السليم صدر منشرح رحيب، متسع لمعاني الإسلام، مستوعب لمكارم الأخلاق، متشبع بالتراحم والتسامح، مطبوع على مصافاة المؤمنينº فهو لا ينفكٌّ في هداية إلى الفطرة الصافية، والوحي المنير، بينما يوشك الصدر المريض أن ينتهي بصاحبه إلى الضلالة والعمى. ألا ترى أن ضيق الصدر وحرجه هو أول الضلال ومنشؤه؟ قال - تعالى -: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإسلامِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجعَلُ اللَّهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ} [الأنعام: 125].

وما يضيق الصدر إلا لانشغاله بالضغائن والأحقاد، وإضمار الغل والحسد، والرغبة في التشفي والانتقام، واجترار الذاكرة لوقائع المخاصمات والمنازعات، وما يصحب ذلك ويتبعه من الغيبة والنميمة، والطعن واللعن، وإساءة الظن، وتدبير المكائد، وحبك المؤامرات.

قال العلاَّمة ابن قيم الجوزية ـ في سياق حديثه عن سلامة الصدر وبرد القلب ـ: «.. وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو ألاَّ يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوَّه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعوَن على مصالحه» إلى آخر كلامه - رحمه الله -(5).

ـ وسلامة الصدر هي أقصر الطرق إلى الجنة، وأقلها كلفة بدنية، واجتهاداً مادياً، وإن كانت كُلَفُ البدن من أعظم دعائم تلك السلامة، بل هي شرايين حياتها وإمدادها، إلا أن مجاهَدات النفس هي أصل حياتها.

روى الإمام أحمد ـ في مسنده ـ من حديث أنس ـ قال: «كنا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة». فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وَضوئه، وقد علَّق نعليه بيده الشمال. فلما كان من الغد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولىº فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبعه عبد الله بن عمرو ـ أي تبع الأنصاري.. » الحديث... إلى أن قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ـ ثلاث مرات ـ: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعتَ أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل! فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال ـ أي الرجل ـ: ما هو إلا ما رأيتَ. قال عبد الله: فلما ولَّيت دعاني فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيتَº غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق»(6).

قال مقيده: وهي التي نريد، بل نرجو، ونسأل اللهَ أن تسود بيننا.. لا حسد لمؤمن، ولا غش له، ولا بغي عليه.

فعــن عبد اللـه بـن عمـرو - رضي الله عنهما - قال: قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان». قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غِل، ولا حسد»(7).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply