نظرة في البرامج الدينية للفضائيات: مطابق للمواصفات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 استدراج

لم يبرح يلح على خاطري سؤال مؤداه: هل يحرص المعنيون في منابرنا الإعلامية ـ فيما يختص بالإسلاميات ـ على تقديم المضامين الشرعية مجردة عن الميول الفكرية الخاصة، محررة من الإملاءات الفوقية الضاغطة؟ أو حتى بقدر من الحيادية وتكافؤ الفرص بين أطراف التنوع الفكري الكائن في الساحة الإسلامية دون تغليب لفكر تيار بعينه؟

وبصيغة أخرى: ألا تروا أن الفضائيات ـ في إسلامياتها ـ باتت تمثل تياراً ذا مواصفات محددة، تكاد لا تخطئها عين متابع؟

فالطابع العام لبرامجها الدينية اتخذت له قوالب مخصوصة فالتزمها، وحرمت عليه محرمات فاجتنبها، وحُدَت له حدودٌ فلا يقربها، وسُكِتَ عن أشياء عفواً أو غفلة أو إهمالاً غير نسيان، فتورع عنها، من باب أن \".. من وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه\" ومن باب \"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك\"!! إلا ما رحم ربي.

فكأني بها ـ في برامجها تلك ـ صارت بمثابة أصول فكرية ذات ملامح مخصوصة، ومنهجية مقصودة، وأهداف محددة مرصودة، وإلا ما كان لمضامينها أن تمضي مندفعة في اتجاه واحد هكذا اتفاقاً أو خبط عشواء، بل كلنا يلحظ تلك الانتقائية المتبعة والقائمة على أحادية في النظر والتقويم، ولست أغفل أن ثمة ضغوطاً ـ أقر بأنها هائلة ـ يُراد من ورائها أن يختزل الإسلام في أضيق نطاق ممكن، ذلك مع ما لاتجاهات بعينها من سطوة ونفوذ داخل مراكز صنع القرار، بل وداخل الفضائيات نفسها.

وبإطلالة مكوكية سريعة على عموم البرامج الدينية في قنواتنا العربية يمكن أن نرصد ملامحها البارزة ذات التحديد الدقيق المسبق كما أسلفت، ومن ثم لا يسمح فيها إلا لمن وما كان مطابقاً للمواصفات.

 

فما هي تلكم المواصفات؟

إنه النمط الدعوي الجديد الذي يراد تعميمه وفرضه كأنموذج لـ\"الداعية المعاصر\"، الذي لو رآه من لا يعرفه، أو شاهده من يشاهده غير محتف بقرائن الحال إسلامية السمت والفحوىº لما اعتقد رائيه أن من أمامه ينتسب إلى العلم والدعوة!!

وأعجب ما في داعية أن يبتدئ كلامه بقوله: \".. وخير الهدي هدي محمد\"، وليس في مظهره ما يمت إلى هدي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بصلة! فمن يا ترى محمد الذي يعني؟ قال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفعَلُونَ كَبُرَ مَقتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفعَلُونَ) (الصف: 3).

أما مضامين برامج الفضائيات، فلها شروط ومواصفات يمكن إجمالها فيما يلي:

1ـ يمنع انتقاد الشخصيات العامة.

2ـ يمنع التعرض لسياسات الدول فضلاً عن دولة الموطن.

3ـ يمنع تناول الأنظمة الحاكمة بغير ما أنزل الله على جهة التعيين الحُكمي والإسقاط الفقهي الواقعي والحكم عليها طبقاً للتكييف الشرعي بحسب ذلك.

4ـ يمنع انتقاد المعاهدات المبرمة مع أعداء الأمة مهما كانت مجحفة مبرمة من وراء ظهور الشعوب.

5ـ يُمنع تأييد فصائل المقاومة الإسلامية (اللهم إلا الفلسطينية وبشكل جزئي) وإن كانت تقاوم عدواً معتدياً غشوماً يهلك في بلادنا الحرث والنسل، وينشر الخراب والدمار.

6ـ يُمنع القنوت (الدعاء في الصلاة) على أعدائنا، وإن أذاقوا إخواننا في الدين والوطن صنوف القهر والغصب والإهلاك والشرور المستطير.

7ـ تُمنع الدعوة إلى اجتماع الشعوب على موقف إسلامي موحد حيال القضايا والأزمات العقدية والمصيرية (كما في المقاطعة لمن أساءوا إلى ذات النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -) إلا بإذن ولي الأمر!!..

هذه مواصفات من وما يسمح لهº فإما أن تَكُونَهُ وإلا.. فلا..

قال - تعالى -: (وَإِن كَادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ لِتفتَرِيَ عَلَينَا غَيرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (الإسراء: 73). (قُل مَا يَكُونُ لِي أَن أُبَدِّلَهُ مِن تِلقَاء نَفسِي إِن أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِن عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَومٍ, عَظِيمٍ,) (يونس: 15) (وَدٌّوا لَو تُدهِنُ فَيُدهِنُونَ) (القلم: 9). (وَلاَ تَركَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن أَولِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) (هود: 113).

وكذلك ينبغي أن تتوفر تلكم المضامين \"الإسلامية\" (الفضائية) على مستحبات ومندوبات، من نحو:

 

* اعتماد منهجية الترخص والتساهل والتمييع في أخذ الأحكام الشرعية وتمثلها والإفتاء بها.

* إتباع نمط البرامج المرئية الغربية، من حيث: الاختلاط بين الفتيان والفتيات، مصافحة الرجال للنساء، استخدام الخلفيات الصوتية الموسيقية، التصفيق عند التشجيع والتحية، التقليل من شأن الهدي الظاهر للمسلم وإيثار المظهر الغربي في اللباس وحلق اللحية وطريقة الحديث وما يرافقها من إشارات وإيماءات وتعوجات.

* تجنب إيراد الأحكام والفتاوى والآراء الموصومة بالإرهاب والتطرف والأصولية، وإن كان وصمها بذلك يتم لصالح جهات رسمية، أو على ألسنة من يرون القرآن نفسه إرهاباً.. فلا يوردونها إلا على سبيل التبرؤ والنقد والهمز واللمز، والطعن على أصحابها، وهي الضريبة الواجبة لمن شاء أن يُمنح لقب \"معتدل\".

* إبداء أكبر قدر من التسامح مع الأعداء المعتدين، والطغاة الظالمين، والعتاة الجلادين، والكتاب المارقين، والفساق الماجنين.... إلخ... ومخاطبة ودهم، والحرص على التواصل معهم، وفي المقابل لا نجد معشار ذلك يبذل لمن خالفهم الرأي من أهل الإسلام!!

أسمعت أن إسلامياً واحداً مخالفاً لهم حاز خانة واحدة من جداول حواراتهم وتقاربهم مع الآخر؟ أم أن \"الآخر\" في اصطلاحهم يستوعب أهل كل ملة وهوية ومذهب... إلا أن يكون مسلماً لا يمنحهم الولاء الحزبي، مهما كان قلبه فياضاً بمحبة صالحيهم، ومهما حمد لهم كل خير هم فاعلوه، وهو ـ على كل حال ـ من يرى نفسه معهم في خندق واحد شاءوا أو أبوا؟!

أهي انتكاسية التصور؟ أم هي ازدواجية المعايير التي ننكرها على غيرنا، ونحن بتركها أولى؟!

* تغليب العامية الدارجة ـ في أحاديثهم ـ على لغة القرآن، حتى انسحب ذلك الالتواء اللساني على نطقهم للآيات القرآنية أحياناً. وهو تطبيق عملي لدعوة مشبوهة قادها قديماً أحمد لطفي السيد، وتبعه عليها قوم آخرون، ولكن ظل هؤلاء ـ وهم علمانيون على كل حال ـ محصورين بدعوتهم الواهنة في نطاق \"أدبي\" وصحفي ضيق، حتى جاء إخواننا هؤلاء فجعلوها لغة الوعظ الديني ذاته!!

* ابتكار بدائل \"إسلامية\" لكل ما هو مطروح في شتى المجالات، وكأن الإسلام مطالب بمسايرة كل أنماط التطور من حولنا وإن كانت نابعة من تصورات البشر عن الكون والحياة والإنسان، أو تلك المتفشية في مجتمعات الترف والبذخ والتبذير المنفلتة بسعارها المجنون إلى هوس الاقتناء والاستهلاك.

الفقراء في وادٍ,.. والقوم في وادٍ, آخر...

 

* ظهور النساء (داعيات، ومقدمات برامج، وضيفات) في كامل زينتهن، بل وبقدر مبالغ فيه، مسترضيات ضمائرهن بأنماط من اللباس يقال لها \"حجاب\"، وهي إنما تزيدهن إبداءً لزينتهن وفتنة على فتنتهن، وعسى أن يكون ذلك القدر محض اجتهاد منهن، أو ضعفاً في إيمانهن، وليس زياً رسمياً تقتضيه الوظيفة ويلزمهن به القائمون على الفضائيات!!

 

تعليل وتفسير:

إذا كان ذلك كذلك.. عرفنا سر إقبال قطاع كبير من الجمهور على مشاهدة تلك البرامج، وتقبلهم لما يروج فيها من أفكار وتصورات شديدة الاختزال للإسلام... فما أسعد الناس ـ في زمن الفتنة وغلبة المادية ـ بتدين فضفاضي مريح، لا يحول دون النفوس ودون ما درجت عليه وألفته من سيء العادات وما تلهث خلفه من الرغبات والشهوات، مع ما يوفره الشعور بالتدين من تسكين للضمير، وتخدير للوم النفس، ومن ثم يصفو التمتع بمباهج الحياة (بحسب المفهوم المادي الغالب) من ذلك التعكير النكد، المسمى الشعور بالذنب.

أضف إلى ذلك: تبني أراء من شأنها الإراحة من مشقات التكليف بواجبات الوقت والآن، في إطار من التكييف الفقهي ذي الصبغة الشرعية، وبتبرير سلبي يؤثر السلامة والدعة على تمثل أوامر الله - تعالى -بالصدع بالحق وتحمل تبعات إقامته، ذلك تحت دعاوى التعقل وضبط النفس، وتلفعاً باعتبار المآلات والعواقب...

ولا اعتراض لنا على الانضباط بتلك الاعتبارات، إن التزم بأصل معناها الشرعي، ودون الميل مع هوى النفس إلى ترجيح اعتبار بعينه على اعتبارات أخر، ولكن بالتزام التوسط في ذلك بما لا يخل بالموازنة الواجبة بين طرفي كل متقابلين..

ولا اعتراض لنا على التزام سنة التطور والتدرج، ولكن على أن لا نهمل عامل الوقت، الذي إن أهمل جرنا إلى تسويف لا يؤخر معالجة أدوائنا ومحاصرة وتقليل أضرارها وحسب، بل قد تبلغ بنا المماطلة في مداواة تلكم الأدواء إلى حد استفحالها واستعصائها على المعالجة، نظراً لطول الأمد في التعايش معها، وتمكنها من نفوس المتعايشين المخدرين.

 

وما لِجُرحٍ, بِمَيتٍ, إيلام

ترى.. هل هذا التصور (وهو جانب واحد مما يجب قوله) مرعي في تعاطي برامجنا الدينية مع الظواهر غير الصحية التي تعانيها مجتمعاتنا، أم أننا لا نريد لساحتنا الإسلامية إلا أن تكون شتاءً سرمداً كلها إلى أجل غير مسمى أو إلى لا أجل، فلا تصب سُحُبُها إلا ماءً بارداً أو بَرَداً أو ثلوجاً؟ أم أنه استمراء الطقس البارد، والاستنامة إلى دفء السلامة والعافية، ما يحملنا على ترك المغامرة بالتعرض لأشعة الشمس ووهجها، بل الملموس أنه ليس في ترتيباتنا ـ ولو على الأمد البعيد ـ التهيؤ لأن تطلع لنا شمس، فكأننا نرجو لها أن تبقى محجوبة، خشية أن تظهر فتبعث دفئها في أوصالنا، فيتدفق الدم الحار في عروقنا من جديد، وربما لا تعود الشتاء المريحة إلا بعد أمد مديد؟!

يا إخوة الإسلام.. لئن بقيت الشمس محجوبة سرمداًº فلا أمل في أن تشتد أعواد تلك الفسيلات التي نغرسها، بينما نبرر إصرارنا على ديمومة شتائها بدعوى إطالة موسم الغرس.

أنغفل أن عدونا هو الآخر يغرس، ويشجر، ويمد لغرسه وشجره جذوراً في قلب تربتنا، بينما يحصرنا في نطاق محدود، لا نغرس إلا في إطاره، ثم هو يجتهد كل الاجتهاد أن لا يبلغ غرسنا تمامه، وأن لا يؤتي أكله إلا قليلاً، ومن أسف أن كثيراً من ذاك القليل تمت هندسة جيناته طبقاً لـ\"المواصفات\" تبعاً للخطاب الديني الجديد؟!

فلولا أدركوا ذلك...

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply