بسم الله الرحمن الرحيم
قصة طالما ترددت على مسامعنا فما مللناها ولطالما أعيدت وكررت كأننا ما سمعناها، خلد التاريخ سطورها و نثر دررها ونشر نورها، والله والله والله ثلاثا كأننا ما قرأناها، هي قصة الحب والوفاء قصة التضحية والفداء قصة الصبر والشكر والإباء، قصة مضت وهي حاضرة قصة هي الأولى وهي الآخرة لم نرها ولم ندركها ولكننا آمنا بها وعشناها وترسمنا هديها واقتدينا بها واتبعناها نتـنسم ريحها ونشم عبقها نقطف من حدائقها الغناء ورودا وأزهارا ذات بهجة تعطر حياتنا ويملأ قلوبنا ريحانها و شذاها قصة الدماء والدموع - قصة الذل والخضوع - قصة الإيمان والخشوع - قصة السجود والركوع - قصة بطلها يملك الدنيا و يخرج من بيته وقد هده الجوع، فهي قصة تستحق أن تستمد منها الأجيال زاد مسيرها وأن ترد ماءها وأن تستـنشق هوائها - قصة بدأت بآية وانتهت بحديث شريف بدأت في غار وانتصفت في غار وانتهت بقبر منيف - قصة من لابد أن تحب بطلها حبا جما ولا يكفي أن تحبه بل لا بد أن يكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك ومن أبنائك وإخوانك ووالديك إن كنت ممن يحذر الآخرة ويخشاها.
قصة محمد بن عبدا لله - صلى الله عليه وسلم - ابن الذبيحين وسيد المرسلين وقائد الغر المحجلين وحامل لواء الحق - صاحب المقام المحمود والحوض المورود والشفاعة العظمى في اليوم الموعود - أمام الهدى ونبراس التقى أنيرت به حياة البشرية وأنقذت به من الشرك والجاهلية وصدق الله إذ يقول (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
أيها المسلمون: سيرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - سيرة التجارة والصناعة سيرة الحرث والزراعة كانت تجارتها أربح تجارة ففي ثلاثة وعشرين عاما تاجر صاحبها فيها تجارة ربحت أعظم أنواع الربح وصنع رجالا لم تلد الأمهات مثلهم قبلهم سوى الأنبياء والمرسلين وأما بعدهم فلم يجد التاريخ بمثلهم- فتحوا المدائن والأمصار فيكفيك تسميتهم فهم المهاجرون والأنصار كم رفعوا في سماء العزة من عمد وكم غرسوا في أرض الخير والسؤدد من وتد -رضي الله عنهم وأرضاهم. وحرث نبينا - صلى الله عليه وسلم - الأرض من جديد فزرعها وكانت صحراء مجدبة فكان بأبي هو وأمي غيثا أنبت نزوله خيرا ونماءا ومحبة وألفة ودينا وتقى وإيثارا وصبرا وشكرا و جودا وعطاءا ومالا يعد في مثل مقامي هذا من الخير بأنواعه وصدق فيه قول مرسله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ولست أريد أن أسرد قصته ولكن أذكر ببعض مواقفها مما يسمح به الوقت ويناسب المقام فمن أعظم المنن بعثته للعباد (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين), ومن أعظم المصائب موته.
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة *** عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم *** وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السماوات يومه *** ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
وهل عدلت يوما مصيبة هالك *** مصيبة يوم مات فيه محمد
وما فقد الماضون مثل محمد *** ولا مثله حتى القيامة يفقد
أخرج مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه – قال: قال أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها فلما أتيا إليها بكت فقالا ما يبكيك أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت بلى إني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معا.
أيها الأحبة أما الحب والوفاء فقد تزوج - صلى الله عليه وسلم - خديجة - رضي الله عنها - ومكث معها قرابة ربع قرن ما تزوج عليها وما تسرى بل بادلها حبا أخذ شغاف قلبه وملأ عليه جوانب حياته وبادلته حبا بحب ووفاء بوفاء
حتى أنه - صلى الله عليه وسلم - ظل يذكرها بعد وفاتها حتى قالت عائشة - رضي الله عنها - ما غرت من امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب وأنه كان ليذبح فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن أخرجه البخاري فيا لعظمة هذا الوفاء.
أيها الأحبة ومن قصص الحب والوفاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة حنين وانتصاره فيها قسم الغنائم فأعطى فلانا وفلانا من رؤساء قريش حتى شاع في الناس أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يعطي عطاء من لا يخشى الفقر فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة فانتـزعت رداءه فقال: أيها الناس ردوا علي ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا وكان هذا الحدث كفيلا بإحداث شرخ في جدار البناء إذ لم يعط الأنصار من تلك الغنائم شيئا حتى قال قائلهم - لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه- فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: (يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم فيما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد. قال: يا رسول الله! ما أنا إلا رجل من قومي – قال: فاجمع لي قومك في هذه الحضيرة فخرج سعد فجمع الأنصار فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ألم آتكم ضلالا فهداكم الله, وعالة فأغناكم الله, وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى- الله ورسوله أمن وأخير- ثم قال: ألا تجيبوني معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله! - لله ورسوله المن والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم و صدقتم أتيتنا مكذبا فصدقناك, ومخذولا فنصرناك, وطريدا فآويناك, وعائلا فآسيناك - أوجدتم يا معاشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرؤا من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار - اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار - فبكى القوم حتى أخضبوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسما وحظا.
أيها المسلمون: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبوه حبا فوق كل وصف و والله ما كانت نخامته لتقع في الأرض بل في يد أحدهم يمسح بها ما استطاع من جسمه ولقد كادوا يقتتلون على شعره بعد أن حلقه في نسكه بل منهم من شرب دمه بعد أن احتجم وبكى أبو طلحة - رضي الله عنه - فرحا حين أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصف شعره ومما فعلته إحدى محبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من غزوة أحد ودفن الشهداء ورجع إلى المدينة لقيته امرأة من بني دينار و قد أصيب زوجها وأخوها وأبوها في أحد فلما نعوا إليها قالت: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه فأظهر إليها حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
أتعجبون عباد الله من صنيع هؤلاء والله لم يكن صنيعهم بأعظم من صنيع الجذع وهو جماد فقد بكى الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتخذ المنبر فلما تركه واتخذ المنبر سمع للجذع حنين وبكاء ما سكت حتى أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمه حتى سكت.
وهذا الصديق - رضي الله عنه - يضربه المشركون وقد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرادوا النيل منه فحال بينهم وبينه فلما ضربوه ووطئوه بأقدامهم حمله بنو تميم وكان قد أغمي عليه فلما أفاق كان أول ما قال: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا خبيب - رضي الله عنه - يغدر به المشركون وبإخوانه من القراء ثم أعطي لأهل مكة ليقتلوه فلما وضعوه على الخشبة قالوا له: أتحب أن محمدا مكانك. قال: والله ما أحب أن محمدا في مكاني وتصيبه شوكة.
وها هو عثمان - رضي الله عنه - في صلح الحديبية حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - رسولا إلى قريش يفاوضهم قال المسلمون هنيئا لعثمان لعله طاف بالكعبة فلما رجع قال: والله ما كنت لأقدم على ذلك قبل أن يطوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهاهي أم حبيبة بنت أبي سفيان يقدم أبوها المدينة قبل أن يسلم فلما دخل على أم حبيبة طوت عنه الفراش وأبت أن يجلس على فراش رسول الله - صلى الله علية وسلم - وهو كافر.
وهاهو عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يسل سيفه ويقف في باب المدينة مانعا أباه من دخولها حتى يأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله حتى تعلم أنك الأذل وهو الأعز.
وهاهي أم أنس بن مالك - رضي الله عنه - وقد نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتها يقيل فعرق فجاءت بقارورة وجعلت تأخذ العرق فيها فاستيقض - صلى الله عليه وسلم - فقال يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين قالت هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو أطيب من الطيب.
هذه القصص ليست مجرد حكايات ولا يراد منها التسلية وتمضية الأوقات ولكنها عبرة للمتقين وحجة على العاملين فاعرض نفسك أخي الحبيب على قصص أولئك النفر مع الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وزنها بنفس الحدث لتعرف أأنت محب له حقا أم غير محب لتدرك أن المحبة والوفاء له - صلى الله عليه وسلم - مصداقه - صل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت واترك ما شئت - مصداقها كل مصيبة بعدك جلل - مصداقها إيثار شريعته على النفس والأهل والعشيرة - مصداقها وميزانها (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) دليل صدقها إتباعه - مصداقها معرفة منزلته فلا يرفع فوقها و لا يوضع تحتها فهو عبد الله ورسوله عبد لا يعبد ونبي لا يكذب ومن زعم محبته لا بد أن يتبع سبيل من اتبعوه وعزروه ووقروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
إن الله - تعالى - امتدح نبيه جملة وتفصيلا فامتدح وجهه الشريف فقال: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها), ووجه المدح هنا أن بمجرد تقلب وجهه الشريف أعطاه الله به ما أراد دون سؤال منه ولا كلام فكانت بركة وجهه في تقلبه معطية له ما تمناه ومنيلة له ما يرضاه - صلى الله عليه وسلم - وامتدح الله عينيه الشريفتين فقال: (ما زاغ البصر وما طغى) قال ابن كثير - رحمه الله - وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة فإنه ما فعل إلا ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطي وامتدح الله قلبه وفؤاده فقال ما كذب الفؤاد ما رأى وقال: (ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك).
وامتدح ٌخلقه فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم), وقد كان سباقا للخيرات حتى قال له ربه: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}, وكان أشد حياء من العذراء في خدرها, وكان أجود الناس يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
أيها المسلمون من أعظم دلائل البر والوفاء في قصته - عليه الصلاة والسلام - أن المصطفين الأخيار من أنبياء الله ورسله في يوم العرض المهيب بعد أن يغضب الرحمن غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وكل منهم يقول: (نفسي نفسي لا أسلك إلا نفسي حتى خليله إبراهيم وكليمه موسى وكلمته عيسى عليهم الصلاة والسلام- كل منهم يقول- نفسي نفسي إلا هو - صلى الله عليه وسلم - فيقول (أمتي أمتي) يا لعظم حبه لنا ووفائه.
أيها الأحبة إن كانت نفوسكم لتتشوق لمعرفة صفاته الخلقية - صلى الله عليه وسلم - فقد كان حبيبنا ربعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا آبق, لم يكن شعره مجعدا ولا شديد النعومة, كث اللحية أسود الشعر لم يكن في لحيته ولا في رأسه أكثر من عشرين شعرة بيضاء إذا تبسم فكأنما وجهه البدر ليلة التمام من حسنة يقول أنس - رضي الله عنه -: ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقال عنه حسان:
وأحسن منك لم تر قط عيني *** وأجمل منك لم تلد النساء
أقسم ربنا - عز وجل - بحياته فقال: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون), قال ابن عباس - رضي الله عنه -: ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد - صلى الله عليه وسلم - وما سمعت الله أقسم بحياة غيره.
إن من أهم علامات محبتك أيها الأخ الكريم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقليدك إياه في مظهره ومخبره, فمن فرط في صلاته أو تكاسل عنها فليس بصادق في محبته, ومن تخلف عن أدائها حيث ينادى بها ومن زعم محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يحلقون ثيابهم أو يسبلون ثيابهم فقد نوقضوا زعمهم.
فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على وصايا حبيبكم وترسموا خطاه فقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم), فأكثروا عليه من الصلاة والتسليم وقوفا عند أمر مليككم بذلك (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد