الدعوة بالتبشير والإنذار
(الجهر بالدعوة ومخاطبة عموم قريش)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوجه في دعوته إلى أهم الدوافع التي تدفع أصحاب العقول السليمة إلى الاستجابة لدعوة التوحيد، وذلك بإثارة الاهتمام نحو مستقبل الناس بعد الموت، حيث الحياة الخالدة في الآخرة، وذلك في النعيم المقيم لمن أجاب واهتدى، والعذاب المقيم لمن عصى وغوى.
ومع تصديق الكفار له في كل أخباره الدنيوية لما تواتر عنه من الأمانة والصدق فإن أغلبهم ردَّ دعوته، وكاده بعض عشيرته الأقربين.
ومن الأمثلة التي تبين موقفه هذا وموقف قومه منه ما أخرجه الإمام البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى البطحاء فصعد إلى الجبل فنادى: ياصباحاه فاجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبِّحكم أو ممسيِّكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا تبًّا لك، فأنزل الله - عز وجل -: (تبت يدا أبي لهبٍ, وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسبَ. سيصلى ناراً ذات لهب) [المسد: 1-3] إلى آخرها.
(صحيح البخاري كتاب التفسير رقم 4971، (الفتح 8/737))
وكذلك ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) (سورة الشعراء، آية (214))دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا فاجتمعوا فَعَمَّ وخص فقال: \"يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبلها بِبَلالها\". (صحيح مسلم، كتاب الإيمان رقم 204، ص 192. )
فهاتان الروايتان مع روايات أخرى تبين لنا الموقف الصعب الذي كان يواجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قومه، وقد أمره الله - تعالى - بدعوة عشيرته الأقربين، وإن في الأمر بالبدء بدعوة الأقربين حكَمًا عظيمة، منها أن بقاء الظلام المحيط بالنور من قرب يحول دون رؤية ذلك النور بوضوح فكان تبديده عاملاً مهمَّا في انتشار ذلك النور، فالبدء بدعوة الأقربين لأنهم محل حكم الناس على الداعية فإذا لم ينجح مع أقاربه كان لذلك أثر في الصد عن دعوته، هذا إضافة إلى أن الدعوة برُّ وإحسان وأحق الناس ببر الإنسان أقاربه.
ولقد قَدَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقدمة تلزمهم بالإذعان لو كانوا متجردين من الهوى والتقليد، وذلك أنه صور نفسه نذيرًا لقومه ينذرهم من جيش قد اقترب منهم \" أرأيتم لو حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم\" فهذا يعني أنهم على استعداد لقبول إنذاره فيما يتعلق بدنياهم، فلما اطمأن إلى ذلك ذكر لهم ما جمعهم من أجله، وهو إنذارهم مما هو أجل خطرًا وأعظم عاقبة فقال: \"فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد\" يعني فكما صدقتموني في وقايتكم من مكروه الدنيا فصدقوني في وقايتكم من مكروه الآخرة الذي هو أشد وأبقى.
وفي هذا دلالة على أن من أساليب الدعوة التي سلكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستشهاد بالأمر المعلوم الذي تمت القناعة به على الأمر الجديد الذي يريد الداعية أن يدعو الناس إليه.
فأهل مكة المكرمة آنذاك كانوا يصدقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يقوله من أخبار الدنيا، ولذلك لقبوه بالأمين فاعتمد هذه القناعة الثابتة عندهم لدعوتهم إلى الإيمان بالآخرة.
كما أن في هذا دلالة على أنه مما يجب أن يتزود به الداعية الرصيد الأخلاقي الكبير الذي يجبر خصومه على الاعتراف بفضله في هذا المجال ليتوصل بذلك إلى نشر دعوته السامية.
ولكنّ أفراد عشيرته - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء صمتوا فلم يجيبوا ولم يستجيبوا لدعوته، بل إن عمه أبا لهب لم يكتف بذلك، وإنما ردّ عليه بهذا الرد القاسي السيئ.
ومع هذه المعاملة القاسية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظل صامدًا في دعوته غير عابئ بتحدي قومه ولا بصدودهم.
وإذا تأملنا دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - نجد أنه قد بدأ دعوته هذه بتذكير قومه بالنار، وحثهم على استنقاذ أنفسهم منها، وهذا دليل على أهمية هذا الجانب في الدعوة.
وقد جاءت آيات الدعوة متضمنة التحذير من النار، وأحيانًا تأتي بالجمع بين الإنذار من النار والتبشير بالجنة.
هذا وإن قيام الدعاة إلى الله - تعالى -بالتركيز على شرح محاسن الإسلام أمر حسن، ولكن يجب أن يكون المقام الأول في الدعوة الاهتمام بإيقاظ الناس، واجتذابهم عن طريق التبشير والإنذار. وقد بين الله - سبحانه - أن هذه مهمة الرسل - عليهم السلام -:
(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما)(سورة النساء، آية (165))
فمن اهتم بهذا الجانب من الدعوة كان من سالكي منهج الرسل - عليهم السلام - وحَرِيُّ به أن يستجاب له إذا خلصت نيته.
إنه لاشك أن الإسلام يصل بالفرد وبالمجتمع الإنساني إلى أعلى المستويات في جميع المجالات: الأخلاقية والتربوية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها مما تقوم عليه الحياة الكاملة لأن الإسلام دين الله - تعالى -، وهو - سبحانه - أعلم بما يصلح عباده في كل أمور حياتهم، بخلاف المناهج البشرية التي مهما علت لا يمكن أن توضع في مجال موازنة مع تشريع الله - سبحانه - خالق البشر.
وإنه من المفيد جدًّا في مجال الدعوة أن يقوم الدعاة ببيان عظمة الإسلام في كل هذه المجالات، من ناحية أثرها في إصلاح الفرد والمجتمع في هذه الحياة الدنيا، ولكن يجب أن لا يكون هذا هو الأساس الذي تقوم عليه الدعوة بحيث يُغفل الدعاة مجال الدعوة بالتبشير بالجنة والتحذير من النار، أو يقصرون في ذلك، وذلك أنه بإمكان الكفار أن يدَّعوا بأن لديهم مناهج تقوم بإصلاح الفرد والمجتمع في المجالات المذكورة، وأن يضربوا على ذلك أمثلة واقعية من مجتمعهم المتقدم نسبيًّا في هذه المجالات أو بعضها وهم لا يدركون عظمة الإسلام في هذه المجالات إلا بعد التعمق في دراسته، وقليلاً ما يتم ذلك ولكن لا يستطيعون أن يدَّعوا بأن مناهجهم تلك توصل مطبقيها إلى دخول الجنة والنجاة من النار، فتبقى مناهجهم بذلك مناهج دنيوية، ويبقى في شعور كل مفكر عاقل فراغ في التفكير فيما سيؤول إليه بعد الموت، ولن يجد في كل الحضارات المادية والأفكار البشرية إجابة على سؤاله هذا، وإنما يجده في الدين الإسلامي وحده.
إن في اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - المتكرر طوال حياته الدعوية بالتبشير بالجنة والتحذير من النار دلالة على أهمية غرس الوازع الديني في النفوس حتى يصل المسلم إلى درجة عالية من التضحية بالدنيا من أجل الآخرة، فأما حينما يكون الإعجاب بالإسلام والانجذاب إليه لكونه يحقق لمعتنقيه مناهج عالية في مجالات الحياة الدنيا فقط فإنه لا ينتظر من هؤلاء أن يضحوا بحياتهم ومصالحهم الدنيوية من أجل الإسلام.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"فإني لا أملك لكم من الله شيئًا \" دلالة واضحة على أنه لا ينجي الإنسان يوم القيامة إلا إيمانه وعمله الصالح، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينقذ من النار حتى أقرب أقاربه، فإن ذلك لا يكون لغيره من البشر مهما بلغوا من الولاية والصلاح.
وقولـه - صلى الله عليه وسلم -: \" غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها\" يعني إذا كنت لا أستطيع إنقاذكم من النار إلا بدخولكم في الإسلام فإن ذلك لا يمنعني من أن أصلكم في الدنيا لقرابتكم مني.
وهذا الاستثناء له أثره الكبير في إبقاء حبل الوصل مع عشيرته، لأنهم وهم كفار لا يهتمون إلاَّ بالحياة الدنيا، وقد أعلن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لن يتغير شيء في حياته عما كان عليه من صلة رحمه، فلعل بقاء هذا الخيط الذي يعرفونه ويقدرونه يكون سببًا في إيمانهم بما أنكروه من دعوته ولم يقدروه حق قدره.
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبقى على صلته مع أقاربه وهم كفار، فمن باب أولى لعموم المسلمين وخاصة للدعاة أن يبقوا على صلتهم بأقاربهم المسلمين وإن أنكروا منهم بعض السلوك أو جابهوهم بشيء من النفور والتحدي، من أجل أن تكون هذه الصلة سببًا بعد ذلك في عودتهم إلى الالتزام بالدين واحترام دعاته المخلصين.
وهذا لا يتعارض مع المنهج التربوي الذي سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معاملة بعض المذنبين، كما حدث مع الثلاثة المتخلفين يوم تبوك حيث كان الهجر شاملاً حتى مع أقاربهم..لا يتعارض مع ذلك لأن المقصود في الأمرين واحد وهو الدعوة.
فالإبقاء على صلة الرحم مع من وقعت منهم المخالفات الشرعية يقصد به دعوتهم إلى الهداية والاستقامة، وكذلك الهجر التربوي حينما يكون هو العلاج الناجح في تزكية النفوس وعلاجها من أدوائها فإن المقصود به دعوة أولئك المقصرين إلى الاستقامة على الصراط المستقيم، وكلا المنهجين الدعويين داخلان في الدعوة إلى سبيل الله - تعالى - بالحكمة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
شكرا الموضوع قيم ويحتاج إلى ذكر مواقف أخرى
05:32:12 2023-09-05