إشراقة النور الإلهي:
(بدء الوحي):
بينما كانت البشرية تعيش في دياجيير الظلمات الحالكة، وتعاني من أنماط الحياة المهلكة، حيث خيم عليها الطغيان البشري الضاغط والجهل العالمي الجاثم، والاستسلام للشهوات المنحرفة من غير رادع ولازاجر، إذا بشعاع النور الإلهي يهبط فجأة من السماء لينير جنبات الأرض، يحمله الروح الأمين - عليه السلام - فيفاجئ به سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - وهو في غار حراء، قد خلا للتأمل والتعبد بعيدًا عن جلبة الناس وضجيجهم.
وإنَّ أفضل من يحدثنا عن هذا الحادث العظيم الذي تغير له وجه التاريخ أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حيث قالت:أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه المَلَكُ فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد (1)، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: (اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن عَلَقٍ,)(اقرَأ وَرَبٌّكَ الأَكرَمُ) (العلق: 1، 2، 3) فرجع بها(2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: زَمِّلوني زِملوني، فَزَمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله لايخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وَتكسِبُ المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى ابن عم خديجة وكان امرءًا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ماشاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي فقالت له خديجة: يا ابن عمِّ اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، ياليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجيَّ هم؟ قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ماجئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم ينشب ورقة أن تُوفي، وفتر الوحي (3).
لقد كانت الأرض كلها تعيش في ذلك الزمن في ظلمات الجاهلية، فكانت بداية انطلاق النور الإلهي في تلك اللحظة التي خاطب بها جبريل - عليه السلام - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد حل ذلك النور في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تحول إلى مصباح متحرك يضيء لمن حوله، وأصبح يراه من زالت عن عينيه الغشاوة فينجذب إليه ويترقى بهديه نحو الكمال.
لقد كان وقع نزول الوحي شديدًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو واضح من هذا النص على الرغم من أنه كان أشجع الناس وأقواهم قلبًا كما دلت على ذلك الأحداث خلال ثلاث وعشرين سنة، وذلك لأن الأمر ليس مخاطبة بشر لبشر ولكنه كان مخاطبة عظيم الملائكة وهو يحمل كلام الله - تعالى -ليستقبله من اصطفاه الله - جل وعلا - لحمل هذا الكلام وإبلاغه لعامة البشر.
ولقد كان موقفًا رهيبًا ومسؤولية عظمى لا يقوى عليها إلا من اختاره الله- تبارك وتعالى- لحمل هذه الرسالة وتبليغها.
ومما يصور رهبة هذا الموقف ماجاء في هذه الرواية من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \"لقد خشيت على نفسي\" وقول عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث \"فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع\".
ومما يبين شدة نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرجه الإمامان البخاري ومسلم - رحمهما الله - من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: \"ولقد رأيته تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه لَيَتَفَصَّدُ عرقًا \" (4).
وما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: \"كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي كُرب لذلك وتربَّد وجهه\" (5).
أثر المرأة الصالحة في خدمة الدعو:ة
(إسلام خديجة بنت خويلد وجهودها في الدعوة):
من المعروف أن المجتمع مكون من الرجال والنساء، وأنه كما أن للرجال جهودًا مشكورة في خدمة الإسلام فإن للنساء جهودًا مشكورة كذلك، وإن كانت هذه الجهود قد تختلف في بعض أنواعها حسب اختلاف تكوين الرجال والنساء.
وأمامنا في هذه المرحلة التي يدور حولها الحديث مثل من جهود المرأة الصالحة في حياة زوجها الداعية.
فحينما أنزل الله - تعالى -الوحي بواسطة جبريل - عليه السلام - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجئ به كما تقدم في خبر بدء الوحي الذي أخرجه الإمام البخاري عن عائشة - رضي الله عنها -. فكان موقف خديجة - رضي الله عنها - عاليًا في تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قالت: \"والله لايخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق\" ثم في ذهابها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وعرضها الموضوع عليه رجاء أن تجد عنده ما يُسَرِّي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقوي قلبه.
وهكذا كان موقف خديجة - رضي الله عنها - الذي يدل على قوة قلبها حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر الخارق للعادة، ولعل ماكانت تسمعه من ابن عمها ورقة بن نوفل من انطباق صفات النبي المنتظر على محمد - صلى الله عليه وسلم - كان له الأثر الأكبر في ثباتها ويقينها حيث غاب عنها عامل المفاجأة واستقبلت الأمر بهدوء وسكينة، ولا أدل على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر إلى ورقة وعرض الأمر عليه.
ومن أجل هذا التصديق برسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ورقة بن نوفل ولما صدر منه من ذلك الموقف الذي ثَبَّتَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد شهد له بالجنة كما جاء في رواية أخرجها الحاكم بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين\" قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي (6).
وذكر الصالحي أن البزار وابن عساكر روياه بإسناد جيد، وقال: وروى الإمام أحمد بسند حسن عن عائشة أن خديجة - رضي الله عنها - سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة فقال: \" قد رأيته فرأيت عليه ثيابًا بيضًا، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض\" قال: وروى أبو يعلى بسند حسن عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ورقة بن نوفل فقال: \" أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس\" (7).
كما أن موقف خديجة من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها حيث قارنت بين ماسمعت وواقع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدركت أن من جُبِلَ على مكارم الأخلاق لايخزيه الله أبدًا، فقد وصفته بأنه يصل الرحم، وكون الإنسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والإحسان إلى الناس، فإن أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء أقاربه وكسبهم بماله عليهم من معروف كان حريًّا به أن ينجح في كسب الآخرين من البشر، وإن هو أخفق مع الأقربين كان إخفاقه مع الأبعدين من باب أولى.
ووصفته ببذل المعروف والإحسان حيث قالت: \"وتحمل الكَلَّ\" والكل هو العاجز الذي لايستقل بأمره بنفسه بل يحتاج لمعونة غيره.
كما وصفته بالكرم النادر المثال حيث قالت: \" وَتكسِبُ المعدوم\" يعني وتعطي غيرك المال المعدوم، أي نفائس المال التي يعدم نظيرها، والذي تسخو نفسه بنفائس المال سيعطي ماهو دون ذلك من باب أولى، وهذا من أبلغ الوصف في الكرم.
وخصَّت بالذكر إكرام الضيف وهو من الكرم لسمو من يتصف بذلك عند العرب.
ثم وصفته بالنجدة عند الشدائد حيث قالت: \"وتعين على نوائب الحق\" وهذه صفة من يعيش لغيره أكثر مما يعيش لنفسه وهي من أبرز صفات السادة النجباء.
وجاء في روايات أخرى عند البخاري: \" وَتصدُق الحديث وتؤدي الأمانة\" وهذه تكملة لسلسلة عظيمة من مكارم الأخلاق قلما تجتمع في رجل واحد.
وفي آخر هذا الخبر موقف كريم لورقة بن نوفل - رحمه الله - في آخر لحظات من عمره حيث ثَبَّتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوى قلبه بما أخبره به من أن الذي خاطبه هو صاحب السر الأعظم الذي يكون سفيرًا بين الله - تعالى -وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
ومما يدل على أثر كلام ورقة في تثبيت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وطمأنته ما جاء في رواية أخرى أخرجها ابن إسحاق وفيها: \"فرجعَت يعني خديجة - رضي الله عنها - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما قال لها ورقة فسهَّل ذلك عليه بعض ماهو فيه من الهمِّ بما جاءه\" وفي موضع آخر من الرواية: \"ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله وقد زاده الله - عز وجل - من قول ورقة ثباتًا وخفف عنه بعض ماكان فيه من الهمِّ\" (8).
ولقد كان الباعث على الاطمئنان إلى كلامه علمه السابق بكتب أهل الكتاب التي فيها وصف مفصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومبعثه.
وهكذا تبين لنا أثر المرأة الصالحة في نجاح الدعوة، وذلك في موقف خديجة - رضي الله عنها - وماقامت به من تثبيت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه الوحي لأول مرة.
وفي بيان مواقفها بعد ذلك يقول محمد بن إسحاق - رحمه الله -: وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدَّق بماجاء منه فخفف الله بذلك عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -، لا يسمع شيئًا مما يكرهه من ردٍّ, عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدِّقه وتهون عليه أمر الناس، - رحمها الله - تعالى -(9).
لقد كانت خديجة - رضي الله عنها - تثبت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسكنه وتهون عليه مخالفة الناس إياه، وكان يطلعها على جلية أمره مع المجتمع الذي يدعوه ويكابد صدوده وعداءه.
ولاشك أن الزوجة الصالحة المؤهلة لحمل مثل هذه الرسالة لها دور عظيم في نجاح زوجها في مهمته في هذه الحياة، وبخاصة الأمور التي يعامل بها الناس، وإن الدعوة إلى الله - تعالى -هي أعظم أمر يتحمله البشر، فإذا وفق الداعية بزوجة صالحة ذات كفاءة فإن ذلك من أهم عوامل نجاحه مع الآخرين.
فالإنسان يقضي مع الناس جزءًا من وقته، ولكنه يقضي في بيته الجزء الأكبر، فإذا وفق بمثل هذه الزوجة فإنه يفضي إليها بما قام به من دعوة الناس وما واجهوه من لين أو عنف، واستجابة أو امتناع ويبثها همومه ويشرح لها مشكلاته، وهي بما لديها من صلاح وكفاءة إذا وضع زوجها بها هذه الثقة ستبذل كل مافي طاقتها من تفكير ومقدرة على العمل فتبدأ أولاً بتقوية قلبه وتخليصه شيئًا فشيئًا مما يعانيه من الهم والقلق، ثم تكون عونًا له على إكمال مهمته بنجاح، إلى جانب قيامها بمهمتها في الدعوة فيما يتعلق بالنساء، وقيام زوجها بتأييدها وتثبيتها وإكمال ماتحتاج إليه لنجاحها في مهمتها، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: \"الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة\" (10).
وخديجة - رضي الله عنها - قد قامت بدور مهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية من الرحمة والحلم والحكمة والحزم وغير ذلك من مكارم الأخلاق.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى جانب ماحباه الله به من الكمالات البشرية في جميع المجالات، وإلى جانب كونه قبل ذلك محفوفًا بعناية الله - جل وعلا - وتأييده في كل خطوة يخطوها، فإن الله - تعالى -وفقه بهذه الزوجة الصالحة، لأنه قدوة للعالمين وخاصة الدعاة إلى الله - تعالى -، فقيام خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله - تعالى -لجميع حَمَلة الدعوة الإسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يهدفون إليها.
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثالاً عاليًا للوفاء ورد الجميل لأهله، فقد كان يعامل خديجة - رضي الله عنها - بغاية الإكرام والتقدير حال حياتها، وظل يذكرها ويثني عليها بعد وفاتها، كما أخرج الإمامان البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة\" (11). وبشرها - صلى الله عليه وسلم - ببيت في الجنة حال حياتها، وأبلغها سلام الله - جل وعلا - وسلام جبريل - عليه السلام - كما أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: \"أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام- أو طعام أو شراب- فإذا هي أتتك فاقرأ - عليها السلام - من ربها - عز وجل - ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب(12) لاصخب فيه ولانصب (13).
وتذكر عائشة - رضي الله عنها - وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لخديجة بعد وفاتها بقولها: \"ماغِرتُ على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ماغرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد\" (14).
بل إنه أظهر البشاشة والسرور لأخت خديجة لما استأذَنت عليه لتَذَكٌّره خديجة كما أخرج الإمام مسلم من حديث عائشة قالت: استأذَنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرف استئذان خديجة (15)فارتاح لذلك وقال: اللهم هالة بنت خويلد، فغرت فقلت: وماتذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين(16) هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرًا منها\"(17). وأخرجه الإمام أحمد بنحوه من غير ذكر هالة بنت خويلد وزاد: فتَمعَّر وجهه تمعرًا ماكنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المَخِيلة(18)حتى ينظر أرحمة أم عذاب (19).
وذكره الحافظ ابن كثير وقال: تفرد به أحمد وهذا إسناده جيد (20).
وهذا يصور مقدار غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخديجة وحفظه حقها - رضي الله عنها -.
ونجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يظهر الحفاوة بامرأة كانت تأتيهم زمن خديجة ويبين أن حفظ العهد من الإيمان، وقد أخرج خبر ذلك الحاكم من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عندي فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية، فقال: بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يارسول الله، فلما خرجت قلت: يارسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد اتفقا على الاحتجاج برواته في أحاديث كثيرة وليس له علة، وأقره الذهبي (21).
إن هذه الأخبار تعدٌّ أمثلة مهمة في الدفاع عن أهل الفضل والتقدم في حال غيبتهم، فالمسلم يُحفظ له حقه في حال حضوره وغيبته، وفي حال حياته وموته، لأن الحفاظ على ذلك ليس مبعثه محاسبة صاحب الحق، وإنما مبعثه رقابة الله - عز وجل - في حقوق المسلمين أولاً، ثم الوفاء لأصحاب المواقف العالية في بذل النفس والمال من أجل إعلاء كلمة الله - تعالى -ونصرة المسلمين.
وفي وصف عائشة - رضي الله عنها - غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشدة دليل على أن الغضب يكون محمودًا إذا انتهكت حرمات الله - تعالى -أو حرمات المسلمين، مع امتلاك النفس بحيث يتصرف المسلم بالحكمة، أما عدم الغضب والحالة هذه فإنه دليل على ضعف الإيمان، وعلى قدر الإيمان يكون التاثر والغضب فيمايتعلق بأمور الدين، بخلاف أمور الدنيا فإن الأمر يكون بضد ذلك.
هذا ومن مناقب خديجة - رضي الله عنها - أنها أول من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإطلاق، وهي أول من صلى معه.
قال ابن إسحاق: وحدّثني بعض أهل العلم: أن الصلاة حين افترضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعَقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبريل - عليه السلام -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه ليُريه كيف الطٌّهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رأى جبريل توضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصلاته، ثم انصرف جبريل - عليه السلام -.
فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة، فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، ثم صلى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صلى به جبريل، فصلت بصلاته (22).
----------------------------------
(1) الغط بمعنى الضغط و المقصود منه تنبيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولئن كانت وسائل التنبيه عند العرب تتحدد بدلالات الألفاظ كالحض والاستفهام مثل قولهم هلا أنبئك وألا أنبئك، كما تتحدد بتغيير هيئة الجلوس، فإن الوسائل التي استخدمها جبريل - عليه السلام - كانت بالضغط الشديد ثلاث مرات، وماذاك إلا لإشعار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ما هو مقدم على سماعه وتبليغه أمر في غاية العظمة، وإن تلقيه يحتاج إلى تفريغ الفكر من كل العلائق الدنيوية ليكون في غاية الاستجماع والتركيز.
(2) يعني بأول سورة العلق.
(3)صحيح البخاري كتاب بدء الوحي رقم 3، صحيح مسلم كتاب الإيمان رقم 160.
(4)صحيح البخاري كتاب بدء الوحي رقم 2، صحيح مسلم الفضائل رقم 2333.
(5)صحيح مسلم، الفضائل رقم 2334.
(6)المستدرك 2/609، وذكره الهيثمي من رواية الطبراني، قال: ورجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد 9/416.
(7)سبل الهدى والرشاد 2/244، وذكره الهيثمي من رواية أبي يعلى وقال: فيه مجالد، وهذا مما مدح من حديث مجالد وبقية رجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد 9/416.
(8)دلائل النبوة للبيهقي 1/146.
(9)سيرة ابن هشام 1/245.
(10)صحيح مسلم رقم 1467، ص 1090، كتاب الرضاع.
(11)صحيح البخاري، مناقب الأنصار، رقم 3815 (7/133)، صحيح مسلم 1886 رقم 2430، كتاب فضائل الصحابة.
(12)يعني من لؤلؤ أو ذهب.
(13)صحيح مسلم 1887 رقم 2432، كتاب فضائل الصحابة.
(14)صحيح البخاري رقم 3818، كتاب مناقب الأنصار (7/132).
(15)يعني لتشابه صوتيهما.
(16)يعني لا أسنان لها من الكبر.
(17)صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة رقم 2437 ص 1889.
(18)يعني السحاب.
(19)مسند أحمد 6/150.
(20)البداية والنهاية 3/126. وذكر نحوه الهيثمي عن الإمام أحمد والطبراني بعدة أسانيد وحسنها مجمع الزوائد 9/224.
(21)المستدرك 1/15 16.
(22)سيرة ابن هشام 1/248، وأخرجه الحافظ البيهقي من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق، وذكر نحوه دلائل النبوة للبيهقي 2/160.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد