بني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَر حول مسجده الشريف، لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترفع عن الدنيا وزخارفها، وابتغى الدار الآخرة، فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد، وكانت صغيرة الفناء قصيرة البناء ينالها الغلام الفارع بيده، قال الحسن البصري- وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة-: «قد كنت أنال أول سقف في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي»، وهكذا كانت بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غاية البساطة، بينما كانت المدينة تشتهر بالحصون العالية التي كان يتخذها علية القوم تباهيا بها في السلم واتقاءً بها في الحرب، وكانوا من تفاخرهم بها يضعون لها أسماء كما كان حصن عبد الله بن أبي ابن سلول اسمه مزاحماً، وكما كان حصن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - اسمه فارعاً.
ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى بيوته بذلك الشكل المتواضع، وكان باستطاعته أن يبني لنفسه قصورًا شاهقة، ولو أنه أشار إلى رغبته بذلك- مجرد إشارة- لسارع الأنصار في بنائها له، كما كان بإمكانه أن يشيدها من أموال الدولة العامة كالفيء ونحوه، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ليضرب لأمته مثلاً رفيعاً وقدوة عالية في التواضع والزهد في الدنيا، وجمع الهمة والعزيمة للعمل لما بعد الموت.
ثانياً: الأذان في المدينة:
تشاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه لإيجاد عمل ينبه النائم ويذكر الساهي، ويعلم الناس بدخول الوقت لأداء الصلاة، فقال بعضهم: ترفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فاعترضوا على هذا الرأيº لأنها لا تفيد النائم، ولا الغافل، وقال آخرون نشعل ناراً على مرتفع من الهضاب، فلم يقبل هذا الرأي أيضاً. وأشار آخرون ببوق، وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم، فكرهه الرسول - صلى الله عليه وسلم -º لأنه يجب مخالفة أهل الكتاب في أعمالهم، وأشار بعض الصحابة باستعمال الناقوس، وهو ما يستعمله النصارى، فكرهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا، وأشار فريق بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فَقُيل هذا الرأي. وكان أحد المنادين عبد الله بن زيد الأنصاري، فبينما هو بين النائم واليقظان، إذ عرض له شخص، وقال: ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟ قال بلى: فقال له: قل: الله أكبر، مرتين، وتشهد مرتين، ثم قل: حي علي الصلاة مرتين، ثم قل: حي على الفلاح مرتين، ثم كبر مرتين: ثم قل: لا إله إلا الله. فلما استيقظ توجه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخبره خبر رؤياه فقال: «إنها لرؤيا حق» ثم قال له: «لقن بلالاً فإنه أندى صوتاً منك»، وبينما بلال يؤذن للصلاة بهذا الأذان جاء عمر بن الخطاب يجر رداءه فقال: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله. وكان بلال بن رباح أحد مؤذنيه بالمدينة، والآخر عبد الله بن أم مكتوم، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين وأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وكان يؤذن في البداءة من مكان مرتفع ثم استحدث المنارة (المئذنة).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد