عن عبادة بن الصامت أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال وحوله عصابة من أصحابه: \" بَايِعُونِي عَلَى أَن لَا تُشرِكُوا بِاللَّهِ شَيئًا، وَلَا تَسرِقُوا، وَلَا تَزنُوا، وَلَا تَقتُلُوا أَولَادَكُم، وَلَا تَأتُوا بِبُهتَانٍ, تَفتَرُونَهُ بَينَ أَيدِيكُم وَأَرجُلِكُم، وَلَا تَعصُوا فِي مَعرُوفٍ,، فَمَن وَفَى مِنكُم فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَن أَصَابَ مِن ذَلِكَ شَيئًا فَعُوقِبَ فِي الدٌّنيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَن أَصَابَ مِن ذَلِكَ شَيئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِن شَاءَ عَفَا عَنهُ، وَإِن شَاءَ عَاقَبَهُ \" فَبَايَعنَاهُ عَلَى ذَلِك. متفق عليه.
بيعة النساء، هكذا تسمى البيعة المذكورة في هذا الحديث، وليس ذلك لأنها مختصة بالنساء وحدهن، إنما لأنها ذكرت في الآية الكريمة، التي جاءت في عرض موضوع المهاجرات من النساء من مكة إلى المدينة: يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إِذَا جَاءكَ المُؤمِنَاتُ يُبَايِعنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشرِكن بِاللَّهِ شَيئًا وَلَا يَسرِقنَ وَلَا يَزنِينَ وَلَا يَقتُلنَ أَولَادَهُنَّ وَلَا يَأتِين بِبُهتَانٍ, يَفتَرِينَهُ بَينَ أَيدِيهِنَّ وَأَرجُلِهِنَّ وَلَا يَعصِينَك فِي مَعرُوفٍ, فَبَايِعهُنَّ وَاستَغفِر لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{12}
وقد ذكر كثير من شراح حديثنا هذا بأن البيعة المذكورة فيه هي التي كانت في بيعة العقبة الأولى، بينما رأى الحافظ ابن حجر العسقلاني في \"فتح الباري\"، أن هذه البيعة كانت متأخرة في المدينة، وربما كانت أكثر من مرة، أي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جددها وأكدها مع أصحابه مرة بعد مرة، وقدم الحافظ لرأيه هذا أدلة كثيرة، وحققه تحقيقا نفيسا.
والملاحظ في صيغة هذه البيعة أن جميع ما فيها من بنود هو محرمات نؤمر باجتنابها، أي هي من النواهي وليست من الأوامر، وربما نستغرب أن تكون بيعة مرتبطة بانتقال الإنسان من الكفر إلى الإسلام، أن تكون على مجرد اجتناب النواهي، ولا تشتمل على فعل أمر من الأوامر، والأوامر في شريعة الإسلام كثيرة في عددها، ومحدودة في كيفيتها، وأساسية في موقعها.
إن هذا الأسلوب – تحديد المحرمات والأمر باجتنابها- موجود كثيرا في القرآن الكريم، ولعل أوضح أمثلته ما جاء في أواخر سورة الأنعام في الآيات التي تبدأ في قوله تعالى: قُل تَعَالَوا أَتلُ مَا حَرَّمَ رَبٌّكُم عَلَيكُم أَلاَّ تُشرِكُوا بِه شَيئًا وَبِالوَالِدَينِ إِحسَانًا وَلاَ تَقتُلُوا أَولاَدَكُم مِّن إملاَقٍ, نَّحنُ نَرزُقُكُم وَإِيَّاهُم وَلاَ تَقرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ {151} ، والمحرما ت المذكورة في حديث عبادة ذكرت آيات سورة الأنعام تصريحا أو تضمينا.
وعندما تكون البيعة على اجتناب محرمات، وتكون هذه المحرمات قد وقع النهي عنها والتحذير من عقباها في كتاب الله تعالى، وارتبطت بها حدود في شريعة الإسلام، وعندما يجعل المبايع التزامه بهذه الأعمال تحت رقابة الله تعالى، واستسلاما لحكمه، ورغبة في ثوابه \" فمن وفى فأجره على الله\"، فإن ذلك سيؤكد لنا أن بنود هذه البيعة ليست مجرد أعمال نتركها، بل هي تعبر عن رؤوس فضائل الإسلام وأمهات أخلاقه، وتمثل مقاصده ومراميه، وهي حقا كذلك، فالمتأمل فيها يرى بوضوح كيف اشتملت على مقاصد الشريعة الأساسية الخمس، التي ذكرها ألشاطبي – رحمه الله -.
إن هذه البيعة تعبير عن منهج حياة يسلكه الإنسان ، ويسير عليه المجتمع، وهي بمجموعها تعبر عن خصوصية الإسلام وتميزه عن باقي الأديان، كما قال تعالى في آيات سورة الأنعام: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله {153 }، وقد نرى من جوانب هذه الخصوصية ارتباط الجزاء بالعمل، وارتباط العمل بالإيمان، وتلازم النظرة الفردية والجماعية في قيم الإسلام.
إن من بايع هذه البيعة علم أن ما عليه ليس النية على ترك هذه الأعمال فحسب ، بل عليه تجنب مجرد الاقتراب منها، وعليه فهو قد حدد بنفسه فيما يحكمه في سيرته وحياته، ففي هذه البيعة التزام فردي، يقع على المبايع وحده، وفيها أيضا التزام جماعي بحفظ هذه القيم في المجتمع.
وبعد ذلك نعلم لماذا ارتبطت هذه البيعة بانتقال الإنسان من الكفر إلى الإسلام، ونعلم لماذا ارتبطت في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – بالهجرة، ونعلم أن تجديد النبي – صلى الله عليه وسلم – لهذه البيعة مع أصحابه هو توثيق لإيمانهم، وترسيخ لبناء المجتمع المسلم، وتحقيق لعبودية الله – تعالى - .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد