الاجتماع السياسي عند العلامة ابن خلدون


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يصادف هذا العام الذكرى المئوية السادسة لوفاة العلامة ابن خلدون، الذي يعتبر ممثل النص المؤسس لعلم الاجتماع وفلسفة العمران البشري، فهو من أهم المفكرين الذين تصدوا لتفسير نشأة الأمم وبناء الدول وقيامها واضمحلالها.

وُلد أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي في تونس سنة 1332 وتوفي سنة 1406. تلقى علوم الشريعة واللغة والأدب في سن مبكرة، حيث حفظ القرآن الكريم، ودرس العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه، كما درس العلوم اللسانية من لغة ونحو وصرف وبلاغة وأدب، ثم انتقل بعد ذلك لدراسة المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية، إضافة إلى أنه جمع العلوم التي كانت سائدة في عصره من تاريخ وسياسة وغيره.

 

علم الاجتماع والعمران عند ابن خلدون

لقد وَضع ابن خلدون أول كتاب يعرض لعلم السياسة كعلم مستقل ذي كيان خاص، ليس بمعنى الأحكام السلطانية أو فلسفة المدينة الفاضلة، بل بالمعنى الاجتماعي الحديث، فلم ينتهج نهج الفكر التبريري، ولم يجنح نحو الفلسفة الطوباوية المثالية. فمهد لبحوثه التاريخية بمقدمته الشهيرة التي احتوت على أهم اجتهاداته ودراساته التي انتهت به إلى تأسيس علم مستقل بنفسه مستحدث الصنعة لم يقف لأحد قبله على كلام فيه، كما يؤكد ذلك بنفسه: \"وكأن هذا علم مستقل بنفسه. فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى. وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقليا. واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص\"[1].

 

لقد شكل المجتمع الإنساني، وما يعرض له من ظواهر وتحولات، المادة الأساسية والموضوع المحوري لبحوث ودراسات ابن خلدون، لذلك جاءت نظرته إلى موضوعه الاجتماعي منطلقة من أفق واسع ساعده - وخاصة أنه اتخذ من التاريخ أداة لتأييد وتوثيق آرائه - على معالجة أبحاث علم السياسة بشكل مستفيض في سلك منتظم من الروابط والشواهد. لذلك فقد كان ابن خلدون الاستثناء، ربما الوحيد، للفكر التبريري للواقع، من ناحية، والكتابات الفلسفية المثالية، من ناحية أخرى، إذ انه اهتم بتوصيف الواقع السياسي وتطوره، وربطه بالبناء الاجتماعي القائم، مستخلصاً عبر ذلك القوانين العامة لحركة وسير المجتمعات ولنشأة وتطور الدول، فكانت هذه القوانين، في كثير منها، صالحة لتوصيف الكثير من المجتمعات الإنسانية والدول التي جاءت بعد ابن خلدون حتى عصرنا الراهن، وهذا ما حدا بالدكتور محمد عابد الجابري إلى اعتبار أفكار ابن خلدون بأنها تمس الكثير من قضايانا المعاصرة، وإلى النظر إلى الخلدونية \"كعناوين لواقع نعيشه ولا نتحدث عنه\"[2].

وبما أن المجتمع الإنساني كان مركز اهتمام ودراسة ابن خلدون فإضافة لما تعرض إليه في مقدمته من العمران وطبيعة الاجتماع وضرورته، وكيفية تنوعه، وما يؤثر عليه، من العوامل وأثر الطبيعة في أخلاق البشر وألوانهم وأحوالهم، كانت الدولة والسلطة والشؤون المتعلقة بهما من أهم محاور بحثه الأساسية، فأشار إلى قيام الدولة بالقبيلة والعصبية، وبين خصائصها وأشكالها وأسباب سقوطها، وتحدث عن تحول الدول من عهد البداوة إلى عهد الحضارة، وعن الملك وأصنافه، وعن الإمامة والخلافة، وما يتعلق بالخلافة من بيعة وولاية عهد، وعن القضاء، وعن الإدارة والوزارة والدواوين، وعن الشرطة والجيش، وعن الجزية والخراج، وعن الحروب ومذاهبها، وعن التجارة والصناعة والعلوم.

 

أما بالنسبة للسلطة فقد فرق ابن خلدون بين الملك والسياسة والخلافة، فعرف الملك الطبيعي على أنه \"حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة\"، فيكون الملك عند ابن خلدون مبنياً دائماً على الغلبة والقهر، ثم بين أن \"السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار\"، وعلى هذا فإن السياسة ترتبط بالحكمة والتجرد من المصالح الذاتية، أما بالنسبة للخلافة فهي في نظر ابن خلدون \"حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به\"، وبذلك تكون الخلافة أعم وأشمل من السياسة الدنيوية، إذ أنها تتضمن مصالح الدنيا والآخرة[3].

وقد اعتبر ابن خلدون الحكومة من المصالح العامة التي فوض الله أمرها إلى الأمة، وهو يرى أن مقصد الشارع أن يكون للمجتمع نظام عادل يصون وحدته ولحمته الداخلية ويحميه من هجمات العدو الأجنبي، لذلك فإن الشرع لم يحدد شكل الحكومة سمعاًº أي بالنص. وبما أن أحكام الشريعة الإسلامية هي الأساس في محتوى النظام وضوابط العلاقات الاجتماعية في المجتمع الإسلامي، فإن النظام الذي يحقق غايته ضمن محتوى الشريعة لا يتعارض، كما أكد ابن خلدون، مع الإسلام، فالإمامة أو الخلافة عند ابن خلدون من القضايا المعقولة ولم تثبت تعيينا بنص شرعي. وإذا ما كان نصب الإمام واجباً شرعياً بالإجماع، فإن هذا الإجماع حصل بناءً على حاجة عقلية ولم يكن مبنياً على نص شرعي: \"ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - وتسليم النظر إليه في أمورهم. وكذا في كل عصر من بعد ذلك. ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار. واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام. وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه قالوا وإنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض\". [4] وحول كيفية نصب الإمام يقرر ابن خلدون أن ذلك \"من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحل فيتعين عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعاً طاعته\"[5].

ختاماً، على الرغم من أن ابن خلدون يعتبر أول من تناول العلوم الاجتماعية والسياسية بشمولية واسعة ومنهجية دقيقة واضحةº وهو أمر يفترض أن يكون فاتحة للمزيد من التأمل والبحث في واقع الأمة المتدهور من سيئ إلى أسوأ، إلا أن الفكر السياسي الإسلامي في الوقت الذي كان فيه الغرب يشهد بداية نهضته العلمية والفكرية والسياسية - دخل بعده (أي ابن خلدون) حالة جمود وركود، لم يشهد مثلها من قبل، استمرت حتى العصر الحديث، الذي شهد ظهور العديد من الحركات الإسلامية الإصلاحية والتجديدية والصحوية.

 

------------------------------------------------------------   

[1] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ص 38.

[2] الجابري، د. محمد عابد، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، دار الطليعة، بيروت، 1980.

[3] ابن خلدون، المقدمة، مصدر سابق، ص 191.

[4] المصدر السابق، ص 191-192.

[5] المصدر السابق، ص 193.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply