بسم الله الرحمن الرحيم
في معيشته - رحمه الله -:
فكان - رحمه الله - يصون نفسه عما عند الناس، فكان يتاجر ويرسل من يشاركه في التجارة، ولا يستشرف لأحد.
زهده وورعه:
لقد تبوَّأ سفيان مكانة في الزهد عجيبة، أذهل بها أهل زمانه ومن بعدهم، كيف بحال رجلٍ, توضع الدنيا بين يديه، وهو يقول لها: إليك عني، إليك عني.
وكيف برجل يأتيه الخليفة، فيضع مفاتيح الخلافة بين يديه، والدنيا عند قدميه، وهو يقول له: إليك عني، إليك عني.
بل كيف برجل كان يرى الآخرة رأي العين، وكان يبول الدَّم لذكر الموت.
لقد تعجب منه أهل زمانه، وتندَّر به خلانه وأقرانه، وهم يقولون: من يطيق فعل سفيان!
قال أبو داود الحفري: رأيت سفيان الثوري يوما، وقد اضطجع على شقه الأيمن، ويقول: هكذا نكون في القبر.
قال يحيى بن اليمان: كثيرا ما كنت أرى سفيان الثوري، مقنع الرأس يشتد في أثر جنازة العبد والأَمة.
وكان - رحمه الله - يرى أن الزهد ملازمة التقوى.
فعن يوسف بن أسباط قال: كان سفيان إذا كتب إلى رجل كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من سفيان بن سعيد إلى فلان بن فلان، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا اله إلا هو، وهو للحمد أهل،- تبارك وتعالى -له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، أما بعد: فإني أوصيك ونفسي بتقوى الله العظيم، فإنه من يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، جعلنا الله وإياك من المتقين.
زهده في امرأة ذات حسب ونسب.
وكان - رحمه الله - يَزهَدُ في كل ما يشغله عن الآخرةº حتى ولو كان الشيء محببا إليه.
قال منصور بن سابق: ألحَّ على سفيان رجلٌ من إخوانه من أهل البصرةº في التَّزويج، فقال له: فزوجني. فخرج سفيان إلى مكة، وأتى الرجلُ البصرة فخطب عليه امرأة من كبار أهل البصرة، ممن لها المال والشرف، فأجابوه، وهيأت قطارا من الحشم والمال، حتى قدمت مكة على سفيان، فأتى الرجلُ سفيان فقال له: أخطب عليك؟ فقال: من؟ قال: أبنت فلان -أحد الأشراف والوجهاء بالبصرة، فقال: مالي فيها حاجة. إنما سألتك أن تزوجني امرأة مثلي. قال فإنهم قد أجابوا، فقال له: مالي فيها حاجة. قال: تفضحني عند القوم، قال: مالي فيها حاجة، قال: فكيف أصنع؟ قال: ارجع إليهم فقل لهم: لا حاجة لي فيها. فرجع فأخبرهم، فقالت المرأة: فبأي شيء يكرهني؟ قال: المال! قالت: فإني أخرج من كل مالٍ, لي وأصبر معه. فجاء الرجل فرِحاً نشيطا فأخبره. فقال: لا حاجة لي فيها، امرأةٌ نشأت في الخير مَلِكَةً! لا تصبر على هذا. فأبى أن يقبلها فرجعت.
لم يكن يخشى الفقر!
وكان - رحمه الله - يخشى من انبساط الدنيا لهº لما يعلم أنه بقدر تعلٌّق القلب بها، بقدر صرفه عن طاعة ربه ومولاه.
فعن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان يقول: المالُ داءُ هذه الأمة، والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جرَّ العَالِمُ الدّاء إلى نفسه، فمتى يبرئ الناس؟.
قال أبو نعيم: أمر أمير المؤمنين المهدي لشريك، ولابن حي، ومسعر، وسفيان، بألفين ألفين، فقبلها مسعر وابن حي وشريك، وأَبَى سفيان أن يقبلها، فَكُلِّمَ فيها بعد لأخيه مباركº فأخذها، وكان سفيان لا يقبل من أحدٍ, شيئا، وإن أُعطِي شيئاً يقسمه ولم يقبله.
قال يحيى بن يمان: سمعت سفيان يقول: بالفقر تخوفوني إنما يخاف سفيان أن تصبَّ عليه الدنيا صبا.
وعن حميد بن عبد الرحمن قال: كان سفيان إذا بلغه شيءٌ هرب إلى مسجدٍ, فخلا فيه، فكنا نجتمعُ إليه، وكان ذُكِر له أنه أُنفذ إليه مال، فقام فخرج على وجهه.
وعن إبراهيم بن سعد قال: كنت مع سفيان الثوري في المسجد الحرامº فكوم كومة من الحصا فاتكأ عليه، ثم قال: يا إبراهيم هذا خير من أسِرَّتِهِم.
قال ابن يمان: ما رأيت مثل سفيان، أقبلت الدنيا عليه فصرف وجهه عنها.
ومن آدابه وشمائله:
كان - رحمه الله - مثلا فريدا يُحتَذى به في حسن خلقه وصلاح حاله، فما عُرف عنه إساءة لأحد ولا فضول كلام، محببا لإخوانه لا يَمَلٌّون من مجالسته.
قال عبد الرزاق: كنت إذا لقيت الثوري لم أستوحش إلى أحد.
عن حفص بن غياث قال: كنا نتعزى بمجلس سفيان الثوري عن الدنيا.
عن علي بن ثابت قال: ما رأيت سفيان الثوري في صدر مجلسه قط، إنما كان يقعد إلى الحائط ويجمع بين ركبتيه.
قال سلمة بن كلثوم: جاء سفيان الثوري فدخل على الأوزاعي، فجلسا من الأولى إلى العصر، قد أطرق كل واحد منهماº توقيرا لصاحبه.
وعن فضيل بن عياض قال: قال سفيان الثوري: إني لأريد شرب الماء فيسبقني الرجلُ إلى الشٌّرب فيسقينيها، فكأنما دقَّ ضلعا من أضلاعي، لا أقدر له على مكافأة بفعله.
وعنه قال: إني لألقى الرجل أبغضه، فيقول: كيف أصبحتº فيلين له قلبي، فكيف بمن آكل طعامهم.
من تواضعه - رحمه الله - وسلامة صدره:
كان - رحمه الله - سليم الصدر لا يحمل غشا ولا غلا لأحدٍ, من المسلمين، يدفع السيئة بالحسنة، خافض الجناح، لا يتكبر على أحد.
عن أبي خالد الأحمر قال: مررت أنا وسفيان الثوري بمنزل داود الطّائي فقال لي: سفيان أدخل بنا نسلم عليه، فدخلنا عليه فما احتفل لسفيان ولا انبسط إليه، فلما خرجنا، قلت: يا أبا عبد الله غاظني ما صنع بك! قال: وإيش صنع بي؟ قلت: لم يحفل ولم ينبسط إليك! قال: إن أبا سليمان لا يُتَّهم في مودته، أما رأيت عينيه! هذا في شئ غير الذي نحن فيه.
وعن وكيع بن الجراح قال: اعتل سفيان الثوري فتأخرت عن عيادتهº ثم عدته فاعتذرت إليه، فقال لي: يا أخي لا تعتذر! فَقَلَّ من اعتذر إلا كَذَب، واعلم أن الصَّديق لا يُحَاسِبُ على شيء، والعدو لا يُحسَبُ له شيء.
شدة خوفه - رحمه الله -:
لقد بلغ به الخوف أمرا عظيما عرفه كل من اتصل به، وأحسه كل من عرفه حتى كأنه - رحمه الله - أُوقف للحساب.
عن أبي أسامة قال: كان من يرى سفيان الثوري، يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق، أكثر ما تسمعه يقول: يا رب سلِّم سلِّم.
وحكى عنه أنه صلى خلف المقام ركعتينº ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غُشي عليه.
وكان دائم الوجل، عظيم الخوف، مطرق الرأس، كأنه يحمل هم أمة.
وقال عصام بن يزيد: وكان سفيان يأخذ في التفكر، فينظر إليه الناظر، فيقول: مجنون.
قال ابن مهدي: كنا نكون عنده، فكأنما وُقِّف للحساب.
عن عبد الله بن المبارك قال سفيان: كان يقال: ذكر الموت غنى، وما أطاق أحد العبادة إلا بالخوف.
وسمعه عثام بن علي يقول: لقد خفت الله خوفا، عجبا لي! كيف لا أموت؟ ولكن لي أجل وددت أنه خُفِّف عني من الخوف، أخاف أن يذهب عقلي.
وعن يحيى بن اليمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: لقد خفت الله خوفا وددت أنه خُفِّف عني.
عبادته:
لقد ضرب سفيان المثل في العبادة، حتى ترأس على أهل زمانه - رحمه الله -. فلقد كان عابدا متنسكا، قائما بأمر الله، لا يعيقه عائق، ولا يخشى في الله لومة لائم.
قال سفيان بن عيينة: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري.
وعن أبي عاصم النبيل قال: سمعت سفيان يقول: كان الرجل إذا أراد أن يطلب العلمº تعبد قبل ذلك عشرين سنة.
وقال قبيصة: ما جلست مع سفيان مجلسا إلا ذكرت الموت، ما رأيت أحدا كان أكثر ذكرا للموت منه.
وعن ابن مهدي قال: بات سفيان عنديº فجعل يبكي، فقيل له بكاؤك هذا خوفا من الذنوب؟ فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا - ورفع شيئا من الأرض - إني أخاف أن أُسلب الإيمان قبل أن أموت.
وكان - رحمه الله - كثيرَ التأمل، دائمَ التفكر، وربما يطول به ذلك مما لا يطاق.
فعن يوسف بن أسباط، قال: قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه، ووضع يساره على خدِّه، فبقي مفكرا ونمت، ثم قمت وقت الفجر، فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت هذا الفجر قد طلع، فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة.
وربما يجلس - رحمه الله - مع أصحابه من أهل الحديث، لا يتكلم بشيء فلا يملٌّونه، ولا يتركونهº بل يجلسون معه. إن تكلم وإلا لزموا معه الصمت.
وكان - رحمه الله - يحب قدوم الليل لما فيه من خلوةٍ,، واستجماعٍ, للقلب، وانتظار النزول الإلهي.
فعن أبي نعيم قال: سمعت سفيان يقول: إني لأفرح بالليل إذا جاء.
وعن زائده قال: قال سفيان: إذا جاء الليل فرحت، وإذا جاء النهار حزنت.
قال إسحاق بن إبراهيم الحُنَيني: كنا في مجلس الثوري وهو يسأل رجلا رجلا عما يصنع في ليله، فيخبره، حتى دار القوم، فقالوا: يا أبا عبد الله! قد سألتنا فأخبرناك، فأخبرنا أنت كيف تصنع في ليلك؟ فقال: لها عندي أول نومة تنام ما شاءت لا أمنعها، فإذا استيقظت فلا أقيلها والله.
وعن يزيد بن توبة قال: قال لي سفيان: إني لأفرح إذا جاء الليل، ليس إلا لأستريح من رؤية الناس.
أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
لقد اجتمعت في سفيان ملكة عجيبة!! لا يعرف التجمل في الحق، وكان لا يخشى في الله لومة لائم، فالغني والفقير، والشريف والوضيع، والإمام والرعية، والعالم والمتبوع، عنده سواء. لا يسكت عن منكر مهما كان فاعله، ومن ثم كانت جرأته في الحق سببا في زوال كثير من المنكر، وهيبة الناس له - رحمه الله -.
عن سفيان قال: إني لأرى الشيء يجب عليّ أن أتكلم فيهº فلا أفعل فأبول دما.
وقال يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية: ما رأيت أحدا أصفق وجها في ذات الله من سفيان.
وعن عبد العزيز بن أبي خالد قال: مرَّ سفيان الثوري بالقاضي وهو يتكلم ببعض ما يُضحِكُ به الناس، فقال له: يا شيخ! أما علمت أن لله يوما يحشر فيه المبطلون! فما زالت تعرف في وجه القاضيº حتى لقي الله - عز وجل -.
قال شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيانº فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا.
مواقفه مع ولاة الأمور من الخلفاء والأمراء.
لقد كان سفيان لا يرى الخروج على ولاة الأمر أصلاº ما داموا مقيمين للملة، ولكن كان ينكر عليهم ما يقع من مخالفات، ويرفض السٌّكوت على ذلك، يريدهم أن يتمثلوا بمن قبلهم من الخلفاء الرّاشدين، وضرب المثل بعمر بن عبد العزيز الذي قلَّ معينهº ورغم ذلك أقام العدل على نفسه وعلى الناس.
فعن سفيان الثوري قال: قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: إن الولاة جعلوا العُيون على العوامِّ، وإني أجعلك عيناً على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها، أو فعلا لا تحبه، فعظني عنده ونبهني عليه.
ولذلك امتنع من الدنو منهم، رغم محاولاتهم في تقريبه وإدنائه.
بل كان - رحمه الله - ينكر على من يَحكُم على الأمراءِ الظَّلمة وأهل الجور بالنار.
عن أبي أسامة قال رجل لسفيان: أشهد على الحجّاجِ، وعلى أبي مسلم([5]) أنهما في النار، قال: لاº إذا أقرّا بالتّوحيد.
قال الذهبي - رحمه الله -: وكان ينكر على الملوك ولا يرى الخروج أصلا.
وكان - رحمه الله - لا يرى لأي أحد أن يُنكر على السٌّلطانº حتى لا يفتح على المسلمين باب فتنة.
عن الوليد بن مسلم قال سفيان الثوري: لا يأمر السٌّلطان بالمعروف إلا رجلٌ عالم بما يأمرº عالم بما ينهى، رفيق فيما يأمرº رفيق فيما ينهى، عدل فيما يأمر عدل فيما ينهى.
وعن عبد الرحمن يعنى ابن مهدى قال: ما سمعت سفيان يسب أحدا من السلطان قط في شِدَّتِهِ عليهم.
وعن عبد الرحمن بن مهدى أيضا قال: سمعت سفيان يقول: إني لأدعو للسٌّلطان يعنى بالصلاح، ولكن لا أستطيع أن أذكر إلا ما فيهم.
مواقفه مع أبي جعفر.
لقد كان سفيان يرى من الواجب عليه أن يأمر الخلفاء وينهاهم، ويرى عدم السٌّكوت على أي مخالفة تظهر منهمº لما أخذ الله من العهد والميثاق على العلماء من بيانٍ, وعدم إخفاءٍ, لأمر الله.
ولقد كان لسفيان مواقف عجيبة مع الخليفة أبي جعفر المنصور منها:
قال محمد بن يوسف الفريابي: سمعت سفيان يقول: أُدخلت على أبي جعفر بمنى، فقلت له: اتق الله فإنما أُنزلت في هذه المنزلة، وصرت في هذا الموضع، بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعا! حجَّ عمر فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا، وكان ينزل تحت الشجر. فقال: أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا، ولكن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه. فقال له: اخرج.
وقال سفيان الثوري مرة لأبي جعفر المنصور: إني لأعلم رجلا إن صَلُحَ صَلُحَت الأمة. قال: ومن هو؟! قال: أنت.
وعن النضر بن زراره قال: طلب أبو جعفر سفيانَ الثوري، حتى قَدِم عليه، فأدخل عليه، فأقبل على سفيان بالملامة، فقال: تبغضنا وتبغض دعوتنا وتبغض عِترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثوري يقول: سلام، سلام. ثم رفع الثوري رأسه فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أَلَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبٌّكَ بِعَادٍ, (6) إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ (7) الَّتِي لَم يُخلَق مِثلُهَا فِي البِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخرَ بِالوَادِي (9) وَفِرعَونَ ذِي الأَوتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوا فِي البِلادِ (11) فَأَكثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيهِم رَبٌّكَ سَوطَ عَذَابٍ, (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرصَادِ (14)} [سورة الفجر 89/6-14] فنكس أبو جعفر رأسه، وجعل ينكت بقضيبٍ, في يده الأرض، فقال سفيان: الوضوء الوضوء، ثم قام فخرج عنه.
وعن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: ما يريد مني أبو جعفر؟ فو الله لئن قمت بين يديه لأقولن له قم من مقامك، فغيرك أولى به منك.
وربما كان يُظهر بعض الأشياء كأنَّ بعقله شيئا حتى لا يُوكلوا إليه أمراً من أمورهم.
كرامة ثابتة لسفيان.
والذي يتتبع سيرة هذا العالم الفذ الفريد من نوعه يرى أن حفظ الله كان ملازما له، يرى منه عن الله رضاً، ورضا الله عنه، أعجز الخلفاء والأمراء، حاولوا معه بالمنصب والجاه والسلطان والمال، ولكن كان حفظ الله له أعظم من تدبيرهم له. وإليك هذه الكرامة الثابتة عنه - رحمه الله -، حينما أهدر الخليفة أبو جعفر دمه!! وأرسل من يقوم بصلبه.
قال عبد الرزاق: بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة، وقال: إن رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه، فجاء النجّارون ونصبوا الخشب، ونودي عليه، فإذا رأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر ابن عيينه، فقيل له: يا أبا عبد الله اتق الله! لا تشمت بنا الأعداء، فتقدَّم إلى الأستار، ثم أخذه، وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر. قال: فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكة، فأُخبر بذلك سفيان، فلم يقل شيئا! قال الذهبي: هذه كرامة ثابتة، سمعها الحاكم من أبي بكر محمد بن جعفر المزكي، سمعت السراج، عنه.
مع عم الخليفة
فعن مفضل بن مهلهل قال: حججت مع سفيان، فوافينا بمكة الأوزاعي، فاجتمعنا في دارٍ,، وكان على الموسم عبد الصمد بن علي عمّ الخليفة، فدق داق الباب، قلنا من ذا؟ قال: الأمير. فقام الثوري فدخل المخرج، وقام الأوزاعي فتلقاه، فقال له: من أنت أيها الشيخ؟ قال: أنا الأوزاعي. قال: حياك الله بالسلام، أما إن كتبك كانت تأتينا فنقضي حوائجك، ما فعل سفيان؟ قال: فقلت: دخل المخرج. قال: فدخل الأوزاعي في إثره، فقال: إن هذا الرجل ما قصد إلا أنت! فخرج سفيان مُقَطِّبا، فقال سلام عليكم كيف أنتم؟ فقال له عبد الصمد: أتيت أكتب عنك هذه المناسك، قال سفيان: أولا أدلك على ما هو أنفع لك منها؟! قال: وما هو؟ قال: تدع ما أنت فيه، قال: وكيف أصنع بأمير المؤمنين؟ قال: إن أردت كفاك الله أبا جعفر. فقال له الأوزاعي: يا أبا عبد الله! إن هؤلاء ليس يرضون منك إلا بالإعظام لهم. فقال: يا أبا عمرو! إنّا لسنا نقدر أن نضربهم، وإنما نؤدبهم بمثل هذا الذي ترى. قال مفضل: فالتفت إليّ الأوزاعي، فقال لي: قم بنا من هاهنا، فإني لا آمن أن يبعث هذا من يضعُ في رقابنا حبالا، وإن هذا ما يبالي.
وقيل: إن عبد الصمد - عمّ المنصور - هذا، دخل على سفيان يعوده وهو مريض، فحول سفيان وجهه إلى الحائط ولم يرد - عليه السلام -، فقال عبد الصمد: يا سيف! أظن أبا عبد الله نائما. قال أحسب ذلك - أصلحك الله -فقال سفيان: لا تكذب! لست بنائم. فقال عبد الصمد: يا أبا عبد الله! لك حاجة؟ قال: نعمº ثلاث حوائج: لا تعود إليّ ثانية، ولا تشهد جنازتي، ولا تترحم علي.
فخجل عبد الصمد وقام، فلما خرج، قال: والله لقد هممت أن لا أخرج إلا ورأسه معي.
إظهار الشَّماتة لأحد أعوان الظلمة.
وربما كان يظهر الشماتة لهؤلاء الظلمة عند تغير الحال بهم.
فعن زيد بن أبي الزرقاء قال: رأيت سفيان الثوري ببغداد وقد نظر إلى شيخ جلّاد يطلب الصّدقة وقد ذهب بَصَرُهُ، فحمل قطعة خبز فأعطاهº ثم قال له: ليست هذه صدقة عليك، هذه شماتة بك.
عداؤه للبدع وأهلها.
وقد يزداد العداء بين سفيان وأهل البدع لدرجة التحذير الدائم والحمل عليهم في المجالس كلها.
فكان دائم التحذير من البدع وأهلها، شديدا عليهم في الأمور كلها.
فعنه: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه.
وذلك لأن للبدعة خفاء على كثير من عامة الناس وربما يظهر من بعض المبتدعة بعض صلاح فيغتر بهم الناس.
وعن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا أحببت الرجل في الله ثم أحدث حدثا في الإسلامº فلم تبغضه عليه فلم تحبه في الله.
عن شعيب بن حرب قال: سمعت الثوري يقول: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة. ومن أقواله أيضا: من يسمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم.
وعقب الذهبي على هذا الكلام بقوله، قلت: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشٌّبه خطّافة.
لا تكثرن من الأصحاب.
وعن يوسف بن أسباط قال: قال سفيان: كثرة الإخوان من سخافة الدين.
يقصد بهذا أنهم يشغلوه عن طاعة ربه ومولاه، لما في ذلك من القيام بحقهم ومؤانستهم والتودد إليهم.
وعن سفيان قال: إني لألقى الأخ من الإخوان اللقاءةº فأكون بها غافلا شهرا.
وعن عبد العزيز بن أبى عثمان قال: قال سفيان الثوري: لا تتعرف إلى من لا تعرف وأنكر معرفة من تعرف.
وعن وكيع قال: سمعت سفيان يقول: لا تجيبوا دعوةً! إلا دعوة من ترون أن قلوبكم تصلح على طعامه.
قال معدان: زاملت سفيان الثوري من الكوفة إلى مكة فلما جعل الكوفة بظهرهº قال: ما خلفت خلف ظهري من أثق بهº ولا أقدم علي من أثق به في الدين.
وعن يحيى بن يمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: ما بالكوفة رجل أثق به في قرض عشرة دراهمº إلا رجل إن أعطانيها نوَّه باسمي فيها.
وعن عطاء بن مسلم الخفاف قال: قال لي سفيان: يا عطاء إحذر الناس واحذرني، فلو خالفت رجلا في رمّانة، فقال: حامضة وقلت حلوة، أو قال حلوة وقلت: حامضة لخشيت أن يشيط بدمي.
وعن يوسف ابن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري يقول: من لم يكن معك فهو عليك. قال: وسمعت سفيان الثوري يقول: ما خالفت رجلا في هواه إلا وجدته يغلي عليَّ، ذهب أهل العلم والورع.
ومن نصائحه - رحمه الله - لإخوانه:
كتب مبارك بن سعيد -أخو سفيان - إلى سفيان يشكو إليه ذهاب بصره، فكتب إليه سفيان: أتاني كتابك تُكثر شكاتك لربك، فاذكر الموت يهون عليك ذهاب بصرك.
وقيل إن سفيان الثوري مر في زقاق عمرو بن حريث ومعه رجل، فجعل الرجل ينظر يمنة ويسرة إلى تلك الفواكه، فلما وصل إلى باب موسى بن طلحة، لقي أحمرة عليها عذرة [6]، فقال له سفيان الثوري: إن ذاك الذي كنت تنظر! إلى هذا يصير.
موته - رحمه الله -
عبد الرحمن بن مهدي قال مات سفيان الثوري عندي، فلما اشتد به جعل يبكي، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب، فرفع شيئا من الأرض، فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت.
وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: لما أن مات سفيان أخرجناه بالليل من أجل السلطان، فحملناه بالليل فما أنكرنا الليل من النهار. قال: وسمعته يقول في علته -وكان به البطن: ذهب التستر ذهب التستر.
وعن ابن المهدي، قال: مرض سفيان بالبطن فتوضأ تلك الليلة ستين مرة، حتى إذا عاين الأمر، نزل عن فراشه فوضع خده بالأرض، وقال يا عبد الرحمن! ما أشد الموت. ولما مات غمضته، وجاء الناس في جوف الليل، وعلموا.
تاريخ وفاته:
قال الذهبي: الصحيح موته في شعبان سنة إحدى وستين ومائة.
[انتهى ملخصا من كتاب الشيخ \"سفيان الثوري\" طبعة دار السلام]
----------------------------------------
5 - من أمراء الجور.
6 - غائط الإنسان.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد