كان \"عبد القادر الحسيني\" - رحمه الله - من طلائع المجاهدين الذين تيقنوا من ضرورة مواجهة الزحف الصهيوني على تراب فلسطين، وكان من الداعين إلى ردعه بقوة السلاح قبل أن يثبت أقدامه في الحرم القدسي الشريف، واستنجد أثناء معركته المشهورة \"القسطل\" بالقادة العرب وبالجامعة العربية، ولا من يلبي، فصرخ صرخته الشهيرة في أذن الجامعة العربية \"تركتم جنودي دون عون أو سلاح\".
من هو؟
ولد \"عبد القادر بن موسى بن كاظم الحسيني\" في استانبول في عام 1908مº حيث كان والده يشغل عضوية مجلس \"المبعوثان\" في الدولة العثمانية، ولما دعي والده إلى القدس بعد أن انتهت خدمته كان \"عبد القادر الحسيني\" في الثامنة عشرة من عمره.
عاش عبد القادر في بيتٍ, علم وجهاد، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في القدس، وتلقى تعليمه العالي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وعندما أقامت الجامعة الأمريكية حفلاً لخريجيها في عام 1932م، وقف شاب صغير لم يتجاوز الرابعة والعشرين خطيباً أمام المدعوين، فقال ما لم يكن يخطر ببال أحد، قال: \"إن هذه الجامعة تظهر أمام الناس في مظهر المدرسة العلميةº لكنها في الحقيقة تعمل لإفساد العقائد\"، وقد طالب المصريين بمقاطعة الجامعة..وفي إثر ذلك قامت ضجة كبيرة، واضطرب نظام الحفل، وكان بطل هذا اليوم هو \"عبد القادر الحسيني\"، الذي قدر له أن يقود حركة \"الجهاد المقدس\" في فلسطين.
اشتغل عبد القادر بالصحافة فترة قليلة، ثم تفرغ بعد ذلك للجهاد، وكان على رأس مجلس قيادة التنظيم السري الذي أعد لثورة فلسطين الكبرى عام 1936م.التي استمرت لأكثر من خمسة أشهر، وخاض \"الحسيني\" معارك ضد الصهاينة اليهود، وفي إحدى معاركه أُصيب بجرح بالغ وتلقى العلاج في دمشق.
اشترك \"الحسيني\" في ثورة \"رشيد عالي الكيلاني\" عام1941م، وتعرض للاعتقال في بغداد عدة سنوات حتى أفرج عنه عام 1943م، وبعد الإفراج عنه توجه إلى المملكة العربية السعودية ليقيم بها فترة، ثم انتقل إلى القاهرة.
قاد \"الحسيني\" معارك عديدة ضد الصهاينة اليهود، وحقَّق انتصارات باهرة، وحاول الحصول على أسلحة كافية من جامعة الدول العربيةº لكنه لم يجد ما كان يرجوه ويأمله.
التفرغ للجهاد
استقال \"عبد القادر الحسيني\" من وظيفته ليتفرغ للجهاد، والإعداد للثورة الكبرى عام 1936م، وكان على رأس مجلس قيادة التنظيم السري للثورة، الذي يعد لاشتعال ثورة عارمة تزلزل الأرض تحت أقدام المحتلين. وكانت نقطة البداية في مايو 1936م، حين أعلن ورفاقه الثورة، ولجؤوا إلى الجبال، وخاضوا أول معركة بأن هاجموا ثكنة بريطانية ببيت \"سوريك\" شمالي غربي القدس، وتحركت خلايا الثورة في كل مكان على أرض فلسطين، واتخذ \"الحسيني\" بلدة \"بير زيت\" مقراً لقيادته، وقسم فلسطين إلى مناطق، وجعل على كل منطقة منها قائداً من قادته.
وبلغت الثورة أوج قوتها في يوليو 1936م، بعد أن انضم إليها من بقي من رفاق الشهيد \"عز الدين القسام\"، وكانوا من أخلص الناس وطنيةً وأشدها عزيمةً وإصراراً، ولما ترامت أنباء هذه الثورة سارع كثير من المجاهدين العرب إلى الانضمام إليها ومساندتها، وكان من أثر ذلك أن خاض الثائرون معارك هائلة مع قوات الاحتلال البريطاني وحلفائهم من اليهود الغاصبين، في القدس ورام الله، وبيت لحم والخليل ونابلس وغيرها.
توقف الثورة:
وخاض \"الحسيني\" أعظم معاركه في وقعة \"الخضر\" في أكتوبر 1936مº وهي المعركة التي استشهد فيها المجاهد السوري \"سعيد العاص\"، وقد أُصيب \"الحسيني\" إصابةً بالغة، وتمكنت القوات البريطانية من أسره، ونقله إلى العلاج في المستشفى العسكري بالقدس، ثم محاكمته بعد أن يتم شفاؤه، لكن رفاقه من المجاهدين هاجموا القوات البريطانية التي تحرس المستشفى في جرأة مدهشة أربكت الأعداء، وتمكنوا من حمل القائد الجريح والتوجه به إلى دمشق لاستكمال العلاج، ثم لم تلبث أن توقفت الثورة الكبرى بعد قتال دام مئة وستين يوماًº استجابةً للنداء الذي أصدرته اللجنة العربية الأولى لفلسطين في 13 من أكتوبر 1936م.
العودة إلى فلسطين:
وبعد أن تماثل \"الحسيني\" للشفاء، واسترد كثيراً من عافيته، عاود الجهاد، ومقاومة المحتلين، فرجع إلى فلسطين، وتسلم قيادة الثورة، وأعلن استئنافها من جديد، وقاد عدة معارك ضارية في القدس وبيت لحم، والخليل، وأريحا، ورام الله، وبير السبع، وجنين، وبيسان، وحيفا، ويافا، وطولكرم، وكبَّد قوات الاحتلال البريطاني خسائر فادحةً في الأرواح والمعدات.
وكانت أهم المعارك التي خاضها \"الحسيني\" في هذه المرحلة هي معركة \"بني نعيم\" في الخليل في يوليو 1938م، ولم يكن معه من المجاهدين سوى ألف يواجهون أكثر من ثلاثة آلاف جندي من القوات البريطانية المزودة بالمصفحات والمدافع والرشاشات الثقيلة، وكانت المعركة غير متكافئةº لكن \"الحسيني\" ومن معه خاضوها بكل بسالة وشجاعة، ودامت المعركة نحو أربعين ساعة، سقط خلالها كثير من الشهداء الأبرار، وعجز الثوار عن الاستمرار في القتال بعد أن تعززت قوات الاحتلال أكثر من مرة بالمؤن والسلاح، فانسحبوا من أرض المعركة، تاركين خلفهم شهداءهم وجرحاهم، وكان من بين الجرحى \"الحسيني\" نفسه، فنقله زملاؤه إلى المستشفى الحكومي في الخليلº حيث قُدمت له الإسعافات الأولية، ثم نقلوه إلى دمشق لإتمام علاجه.
قائد الجهاد المقدس:
ولما أصدرت الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين في 29 من نوفمبر 1947م قررت \"الهيئة العربية العليا\" تشكيل منظمة \"الجهاد المقدس\" المسلحة، واختارت \"عبد القادر الحسيني\" قائداً عاماً لقوات الجهاد المقدس، فاستجاب \"الحسيني\" لهذا التكليف، وعاد إلى فلسطين، واختار بلدة \"بئر زيت\" بالقرب من \"رام الله\" مركزاً للقيادة العامة، وقام بالاتصال بقادة الجهاد في المناطق المختلفة، وتنظيم السرايا والخلايا الفدائية وفرق القناصة، وبعد أن اطمأن على الأوضاع أعلن الثورة والجهاد المقدس على المحتلين، وأقبل عليه المجاهدون من كل أراضي فلسطين للدفاع عنها.
وعلى الرغم من قلة الأسلحة التي كانت في أيدي المجاهدين، فإنهم حققوا انتصارت باهرة، ونصبوا كمائن ناجحة للقوات الصهيونية، ونسفوا بعض المؤسسات التي يمتلكها اليهود، مثل: مقر \"الوكالة اليهودية\" بالقدس، و\"دار الصحافة الصهيونية\"، وتمكنوا من السيطرة على منطقة القدس، والتحكم في طرق المواصلات التي تربط بين أغلب المستعمرات الصهيونية في فلسطين.
سقوط القسطل:
ولما كان من الصعب على \"الحسيني\" أن يستمر في القتال دون عون ومساندة من الدول العربية، اتجه إلى دمشق التي اتخذتها اللجنة العسكرية للجامعة العربية مقراً، وطلب منها تزويده بالسلاح الكافي من مدافع ورشاشاتº حتى يتمكن من مواجهة اليهود الذين يزدادون قوة على قوة كل يوم، وحاول بكل الطرق استنهاض حماسة أعضاء اللجنة وإيقاظ وعيهم بخطورة الموقف في فلسطينº لكن محاولاته لم تجد تجاوباً كافياً.
وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بسقوط قرية \"القسطل\" في أيدي العصابات الصهيونية، وهي تتحكم في طرق المواصلات، ويهدد سقوطها مدينة القدس نفسها، وقد أبلى المجاهدون الفلسطينيون بلاءحسناً في الدفاع عنه العدة أيامº لكن قلة السلاح ونفاد الذخيرة، وتقاعس الجيش الأردني عن المساندة - وكان قريباً من ميدان المعركة - أدى إلى سقوط القرية الباسلة.
ولما علم \"الحسيني\" بهذه الأنباء المحزنة، وجه كلامه إلى \"طه باشا الهاشمي\" - المشرف العام على جيش التحرير- وعلى تلك اللجنة قائلاً: \"يا باشا، إن القسطل حصن منيع، ليس من السهل استرجاعها بالبنادق الإيطالية والذخائر القليلة التي بين أيدينا، أعطني السلاح الذي طلبته منك وأنا أستردها، ولقد كانت خطتي إلى الآن أن أحاصر القدس والمستعمرات اليهودية وباب الوادي، وأن أمنع عنهم وصول الإمدادات العسكرية والمؤن، ونجحت خطتي حتى اضطر اليهود أن يمونوا رجالهم بالقدس وفي المستعمرات بالطائرات، أما الآن فقد تطور الحال، وأصبح لدى اليهود رجال وطائرات ومدافع، وليس باستطاعتي أن أحتل \"القسطل\" إلا بالمدافع، أعطني ما طلبت وأنا كفيل بالنصر\".
لكن ما طلبه القائد الفلسطيني لم يجد استجابة عند هؤلاء، وأدرك أنه يخاطب قوماً لا يقدرون مسؤولياتهم الوطنية، فقال لهم في غضب: \"أنتم خائنون، أنتم مجرمون، سيسجل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين، (سأسترد) القسطل، وسأموت أنا وجميع إخواني المجاهدين\".
الحسني شهيداً:
وعاد \"الحسيني\" ومعهم ستون بندقية إنجليزية قديمة، وعشرة مدافع، وبضعة قنابل، هي كل ما استطاع انتزاعه من الجامعة العربية ولجنتها العسكرية، وتوجه مع عدد من رفاقه الأبطال لاسترداد \"القسطل\" من أيدي اليهود.
وقبل أن ينتصف ليل 7 أبريل 1948م شن \"الحسيني\" ومَن معه هجوماً على الاستحكامات المحتلة، حتى دخلوها فاتحين.
ووسط هذا النصر كانت المفاجأة في صباح اليوم التالي، فقد عُثر على \"عبدالقادر الحسيني\" ملقى شهيداً عند أول بيت من بيوت القرية.. ووقعت المفاجأة على المجاهدين كالصاعقة، فزلزلت أقدامهم، وذهبت بثباتهم، فلم يبقَ المجاهدون في القرية سوى ساعات قليلة، تمكن الصهاينة بعدها من احتلال القرية مرة أخرى.
وفي اليوم التالي 9 أبريل 1948منقل جثمان البطل الشهيد، ودفن جنب أبيه في الضريح الكائن بين \"باب القطانين\" و\"باب الحديد\".
رحم الله عبد القادر الحسيني وجميع شهداء فلسطين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد