كان الشيخ \"سيد سابق\" - رحمه الله - لا يمل من تذكير المسلمين بموقعهم بين الأمم، وأنهم يجب عليهم الأخذ بزمام الحياة ليسعدوا ويسعدوا غيرهم، فيقول في إحدى اللقاءات معه: \"إن هذه الأمة تقوم مقام النبوة، وأنتم معشر المسلمين والمؤمنين تمثلون الأنبياء في تبليغ الرسالة. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي\"، ولكي نصل إلى هذا المستوى لا بد من مجاهدة النقائص داخل المجتمع في جميع الأوساط، وعلى كل المستويات حتى تصبح الدولة مثلاً أعلى، والمدرسة مثلاً أعلى، والبيت مثلاً أعلى، حتى الشارع يجب أن يكون مثلاً أعلى، ويجب ألا يصدر عنها جميعاً إلا الكمال وإلا الفضائل. ولن يتحقق الأدب الرفيع والخلق المنيع..الخلق العالي، إلا بجهاد النقائص بجانب جهاد النفس الذي يبدأ من الفرد، حيث إنه محور وأساس التوجيه.ثم يأتي دور الأمة كأمة مسلمة يجب أن تبقى حرة مستقلةº لأن لها عقائدها ولها مُثُلها، ولها القيادة والريادة والسيادة، فهي أمة محمد - عليه الصلاة والسلام -، وعليها أن تعد نفسها للجهادº لأن الباطل لن يكف عن مناوأة الحق، والصراع بين الحق والباطل قائم منذ قابيل وهابيل، بل منذ أن دخل إبليس على أبينا آدم وأخرجه من الجنة\".
ولد الشيخ \"سيد سابق\" - رحمه الله - عام 1915م بمصر وتوفي بها عام 2000م، وكان أحد علماء الأزهر الأجلاء الذين تخرجوا في كلية الشريعة، واشتغل بالفقه أكثر مما اشتغل غيره من الدعاة الأزهريينº فقد بدأ حياته يكتب في المجلات الموجودة وقتها، مثل مجلة \"الإخوان المسلمون\" الأسبوعية التي كان يكتب بها مقالة مختصرة في فقه الطهارة، معتمداً على كتب \"فقه الحديث\" وهي التي تعنى بالأحكام، مثل \"سبل السلام\" للصنعاني، وشرح \"بلوغ المرام\" للحافظ ابن حجر، ومثل \"نيل الأوطار\" للشوكاني، وغيرها.
وقد اعتمد الشيخ سيد - رحمه الله - منهجاً يقوم على طرح التعصب للمذاهب مع عدم تجريحها، والاستناد إلى أدلة الكتاب والسنة والإجماع، وتبسيط العبارة للقارئ، بعيداً عن تعقيد المصطلحات، وعمق التعليلات، والميل إلى التسهيل والتيسير على الناسºحتى يحب الناس الدين ويقبلوا عليه، كما يحرص على بيان الحكمة من التكليف، اقتداء بالقرآن في تعليل الأحكام.
أصدر الشيخ سيد الجزء الأول من كتابه الذي اشتهر فيما بعد\"فقه السنة\" في أواسط الأربعينيات من القرن العشرين الميلادي، وهو رسالة صغيرة الحجم، من القطع الصغير، وكان في \"فقه الطهارة\"، وقد صدره بمقدمة من الشيخ الإمام حسن البنا، تنوه بمنهج الشيخ في الكتابة، وحسن طريقته في عرض الفقه، وتحبيبه إلى الناس.
ظل الشيخ سيد يوالي الكتابة في الفقه بعد ذلك، ويخرج في كل فترة جزءاً من هذا القطع الصغير حتى اكتمل أربعة عشر جزءاً، ثم صدر بعد ذلك في ثلاثة أجزاء كبيرة. واستمر تأليفه نحو عشرين سنة كما يذكر ذلك العلامة الشيخ يوسف القرضاوي.
وعن هذا الكتاب يقول القرضاوي: \"سَدَّ كتاب الشيخ سيد سابق فراغاً في المكتبة الإسلامية في مجال فقه السنة الذي لا يرتبط بمذهب من المذاهب، ولهذا أقبل عليه عامة المثقفين الذين لم ينشأوا على الالتزام بمذهب معين أو التعصب له، وكان مصدراً سهلاً لهم يرجعون إليه كلما احتاجوا إلى مراجعة مسألة من المسائل.
وقد انتشر الكتاب انتشاراً، وطبعه بعض الناس بدون إذن مؤلفه مرات ومرات، كما يفعلون مع غيره من الكتب التي يطلبها الناس. ربما انتقد \"فقه السنة\" بعض المذهبيين المتشددين في اتباع المذاهب، والذين اعتبروا الكتاب داعية إلى ما سموه \"اللامذهبية\"، وهي ـ كما قالوا ـ قنطرة إلى \"اللادينية\"!
وأنا اعتقد (الكلام للقرضاوي) أن مؤلف الكتاب - وإن لم يلتزم مذهباً بعينه - لا يُعَدٌّ من دعاة \"اللامذهبية\" لأنه لم يذم المذاهب، ولم ينكر عليها. كما أعتقد أن مثل هذا النوع من التأليف ضرورة للمسلم الجديد، الذي يدخل في الإسلام الواسع دون التزام بمدرسة أو مذهب، وكذلك المسلم العصري الذي لا يريد أن يربط نفسه بمذهب معين في كل المسائل، بل يأخذ بما صح دليله، ووضح سبيله.
كما انتقد الكتاب بعض العلماء الذين يرون أن الشيخ ـ وقد تحرر من المذاهب- لم يعطِ فقه المقارنة والموازنة حقها، في مناقشة الأدلة النقلية والعقلية، والموازنة العلمية بينها، واختيار الأرجح بعد ذلك على بينة وبصيرة.
والجواب عن ذلك: أن الشيخ لم يكتب كتابه للعلماء، بل لجمهور المتعلمين، الذين يحتاجون إلى التسهيل والتيسير، سواء في الشكل أم المضمون، وتوخى طريقة التسهيل والتبسيط، وكل ميسر لما خلق له.
وممن انتقد الكتاب: المحدث المعروف الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - وقد ألف في ذلك كتاباً أسماه (تمام المنة بالتعليق على فقه السنة) وقد رددنا على الشيخ ناصر قوله بالأدلة الناصعة في كتابنا (المرجعية العليا للقرآن والسنة)\".
وكان الشيخ سابق - رحمه الله - يدعو إلى اجتماع الأمة ووحدة الصف، محذراً من التفرق الذي يصيبها بالضعف، ومن ثم الزوال، فيقول: \"الأب الشرعي للضعف والضياع والذهاب هو تفرق الأمة {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلٌّ حِزبٍ, بِمَا لَدَيهِم فَرِحُونَ}، {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يكشف لهذه الأمة عن هذه السنة الاجتماعية، ويبين أن الهلاك الطبيعي نتيجة حتمية للتفرق. والإسلام يحاول ما استطاع أن يعالج الصلات حينما تتعرض للوهن، ومن بداية الأمر، فلا ينبغي أن يترك أمر الأمة حتى يستفحل الخلاف، بل لا بد من علاج أسباب الخلاف، وقد دعانا القرآن الكريم إلى ذلك، قال الله في محكم كتابه: {فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ, فَرُدٌّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً}. وقد حذرنا القرآن الكريم من الأساليب التي يلجأ إليها الأعداء، ولعل أمضى سلاح في يدهم هو إيجاد الخلاف بين الأمة الإسلامية\".
كما كان يؤكد - رحمه الله - على ضرورة تهيئة شباب الأمة رجالاً ونساء لاتخاذ الأسباب اللازمة لاتقاء أعداء الإسلام بالعمل والوعي والتبصر بشؤون الحياة والأخذ بزمامها وفهم القرآن والسنةº لئلا يقعوا فريسة للأعداء، وكان يدعو لوجود دعاة يتفهمون متطلبات العصر، ويعرفون كيف يديرون الصراع مع الأعداء الذين لا يدخرون جهداً في التدبير لنا لتشكيكنا في عقيدتنا. فها هو يسوق قصة على ذلك فيقول:
\"إن إسرائيل عدو المسلمين اللدود، الذي يناصبنا ونناصبه العداء المستمر، تعد الآن الدعاة لبث سمومها بين الشباب المسلم، فقد قابلت مرة أحد الإخوة الفلسطينيين الذين يعملون في حقل التعليم فقال لي: لقد لقيت مرة يهودياً منكباً على حفظ كتاب الله وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسألته: لم تقوم بهذا العمل؟ فقال لي: لكي نحاججكم به، فأنتم عاطفيون تتحكم فيكم عواطفكم، فعندما نجادلكم سنلجأ إلى الاستشهاد بما جاء في القرآن وبما قال نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونذكر لكم بعض الأمثال العربية التي تؤيد قضيتنا فتستسلمون عندئذ لدعوانا وتؤمنون بصحتها\".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد