الشاعر الأبيوردي من نسل أبي سفيان بن حرب - رضي الله عنه -، ولهذا كان يلقب (المعاوي)، وقد أكسبه هذا النسب الأموي اعتزازاً بنفسه، فتطلع من إبداعه في الشعر إلى علم اللغة، حيث أخذه عن عبقري البلاغة \"عبد القاهر الجرجاني\" - رحمه الله -، صاحب الكتابين الشهيرين \"أسرار البلاغة\" و\"دلائل الإعجاز\". والأبيوردي من بلاد أبيود التي فتحها المسلمون في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وكان الأبيوردي طموحاً، وقد وصفه الذهبي بأنه كان ريانا من العلوم موصوفاً بالدين والورع مناصراً للسنة، جميل اللباس، له هيئة ورواء، وكان يفتخر بنسبه ويكتب اسمه أحياناً العبشمي، وتارة المعاوي.
كان الأبيوردي من أهل الدين والخير والصلاح، وقد جمع من الخلال الرضية والتبحر في علم العربية ومعرفة رجال الحديث والأنساب، والمواظبة على الشرع الشريف، ما حاز به احترام الشعراء، وله - رحمه الله - قصيدة رائعة يصف فيها الغزو الصليبي لبلاد الشام ويلوم أمراء المسلمين الذين وقفوا متفرجين وتوانوا عن نصرة إخوانهم المنكوبين، وعجزوا بتفرقهم عن استرداد ديارهم المغتصبة ومقدَّساتهم المهدرة، وفيها يقول:
مزجنا دماء بالدموع السواجم *** فلم يبق منا عرضة للمراحم
وشرّ سلاح المرء دمع يفضيه *** إذا الحرب شبَّت نارها بالصوارم
فيا أمة الإسلام إنَّ وراءكم *** وقائع يُلحقن الذرا بالمناسم
وكيف تنام العين ملء جفونها *** على نكبات أيقظت كلّ نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم *** ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
يسومهم الروم الهوان وأنتمو *** تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
فكم من دماء قد أبيحت ومن دُمى *** توارى حياء حسنها بالمعاصم
وتلك حروب من يغب عن غمارها *** ليسلم يقرع بعدها سن دم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا *** رماحهمو والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى *** ولا يحسبون العار ضربة لازم
فليتهموا إذا لم يذودوا حمية *** عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر إن حمي الوغى *** فهلا أتوه رغبة في المغانم
لقد كانت هذه القصيدة صرخة مدوية كأنها انفجار البركان، شاعت في العالم الإسلامي وأثارت عزائم، فجرت وقائع كمعركة الرها، وانتصارات نور الدين محمود، ومقدمات صلاح الدين، ثم أدت إلى أمجاد حطين، على ذكرياتها أزكى التحيات.
وامتاز الأبيوردي بذكاء خارق! وقد روي عن ذكائه أمور مدهشة، كان يسمع القصيدة الطويلة مرة واحدة فيعيدها ويرويها، ويتصفح الكتاب فليخص فوائده.
وكان عفيفاً يصون كرامته، ولشعره نغمة من الكرامة.
حجَّ - رحمه الله - فسمع منه أدباء مكة وعلماؤها. وتوفي سنة سبع وخمسمئة.
وأذكر أني كنت مولعاً بهذين البيتين في الصبر من شعره:
تنكَّر لي دهري ولم يدر أنني *** أعزّ وأحداث الزمان تهـــــون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه *** وبتّ أريه الصبر كـــيف يكــــون
رحم الله الأبيوردي شاعراً غيوراً، وهدى شعراء الحداثة إلى ساحة الشرف والحكمة!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد