وفاة الشيخ المحدث عبد القادر الأرنؤوط غياب أحد أعلام الحديث ومحققيه


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

ففي فجر يوم الجمعة الثالث عشر من شهر شوال عام 1425هـ فقدت الأمة الإسلامية أحد علمائها الأعلام وفضائلها الكرام، هو الشيخ عبد القادر الأرنؤوط خادم السنة النبوية ومحدث بلاد الشام، عن عمر يناهز السابعة والثمانين. والشيخ عبد القادر - رحمه الله - واسمه كما في هويته: قدري بن صوقل الأرنووط.

 

ولد في يوغسلافيا، وتحديدا كوسوفو، عام 1928م، ثم قدم مع أهله إلى دمشق (الشام) وعمره ثلاث سنين، فدرس في المدرسة الابتدائية، ثم عمل في مهنة الساعات بضع سنين. واتجه بعدها للعلم الشرعي ودرس على علماء بلده، ومنهم جماعة يقال لهم الألبانيون، ومنهم الشيخ سليمان الغاوجي الألباني، ودرس شيئا من الفقه على الشيخ نوح الساعاتي، والد الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -. ودرس على آخرين من علماء الشام.

ثم تقوت ملكة الشيخ العلمية من خلال بحوثه وتحقيقاته، وخاصة في مجال الحديث النبوي، حتى أخرج عددا من الموسوعات والكتب العلمية، ومن أشهرها جامع الأصول لابن الأثير، وكذلك زاد المعاد للعلامة ابن القيم، بالاشتراك مع الشيخ شعيب الأرنؤوط - حفظه الله -، وكذلك بعض مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.

 

وكان للشيخ عبد القادر - رحمه الله - عناية بالدعوة إلى الله في عدد من البلاد، في كوسوفو، وفي الشام، حيث درس في معهد إسعاف طلاب العلوم الشرعية (معهد الشيخ بدر الدين الحسني) والذي يدرس فيه طلاب من خمسة وثلاثين بلد.

وكان للشيخ - رحمه الله - صلات طيبة مع سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -، إبان قيامه على الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وما بعد ذلك. ومما ميز الشيخ عبد القادر - رحمه الله - حرصه على منهج السلف في أبواب الاعتقاد، وخاصة بعد نهله من العلم وتعمقه فيه، وهذا ما هو بين في رسالته المختصرة: الوجيز في مذهب السلف الصالح المطبوعة عام 1411ه.

وقد يسر الله لي اللقاء بالشيخ في منزله في دمشق عام 1421هـ فرأيت عليه علائم السنة، مع ما حباه الله من التواضع الجم والكرم الكبير، وهكذا ما كان يعمر به مجلسه اليومي من التوجيهات الاجتماعية والفوائد العلمية والأسانيد والتخريجات الحديثية، حيث يسوق الحديث وينسبه لمن خرجه من الأئمة، ويستقبل في بيته كل وافد إليه، وظهر لي ما كان يضطلع به الشيخ - رحمه الله - من شؤون الدعوة في بلاده.

وللشيخ - رحمه الله - ثمانية أبناء وثلاث بنات.

وقد كانت وفاة الشيخ - رحمه الله - في دمشق قبل بزوغ فجر الجمعة 13/10/1425هـ وصلي عليه عقب صلاة الجمعة، ودفن بمقبرة الحقلة، في (الميدان) بوسط دمشق، فرحمه الله رحمة واسعة، وأحسن عزاء ذويه، وأخلف على الأمة فيه خير.

 

وبعد: فلا ريب أن منزلة العلماء عظيمة، وفقدهم رزية كبيرة، ففي الحديث الصحيح عن المصطفى صلى الله علية وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر) رواه أبو داود والترمذي وغيرهم.

 

ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة.

 

ولأجل ذلك فقد زخرت نصوص الكتاب والسنة بذكر فضل أهل العلم ونوهت الشريعة ونوهت بمكانتهم، كما في قوله - تعالى -: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط..} [آل عمران: 18]، فانظر كيف استشهد الله العلماء على هذا الأمر العظيم بعد أن بدأ - سبحانه - بنفسه وثني بملائكته.

 

ومن ذلك قوله - تعالى -: {.. يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.. } [المجادلة: 11]، وقوله - تعالى -: {.. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. } [الزمر: 9]. وقوله - تعالى -: {.. إنما يخشى الله من عباده العلماء.. } [فاطر: 28]، إلى غير ذلك من النصوص التي يطول المقام بذكرها، والتي صنفت في بيانها كتب عدة. بل إن موتهم له وقعه في السماء والأرض، كما يدل عليه قوله - تعالى -في شأن هلاك آل فرعون: {فما بكت عليهم السماء والأرض.. } [الدخان: 29]، فالصالحون وخاصة العلماء العاملون تبكيهم السماء والأرض كما كانوا يعمرون حياتهم بالعبادة وبث العلم في الناس. ولأجل ذلك فإن موت العلماء والذين لهم هذه المنزلة العظيمة يؤثر على الناس بما لا يؤثر غيره، وذلك لأن موتهم يعني فقد الهداية والدلالة إلى الخير الذي حملهم الله بيانه وتبليغه للناس.

 

ومما يبين أثر موت العلماء على الأمة ما نقله المفسرون في تفسير قول الله - تعالى -: {أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها.. } [الرعد: 41]، قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - (خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها).

 

ومن جوانب النقص التي تلحق الناس بموت العلماء ما يفشو بين الناس بفقد العلم من الظلم والجور الذي يصل حتى إلى البهائم والطير، وذلك لغيبة الوازع الإيماني وخفاء ما ينبغي في ذلك وما لا ينبغي، ويشهد لهذا قول النبي صلى الله علية وسلم : (إن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض والحيتان في جوف الماء) رواه أبو داود وغيره، قال الحافظ الخطابي - رحمه الله - إن الله - سبحانه - قد قيض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان العلم على ألسنة العلماء أنواعا من المنافع والمصالح والأرزاق، فهم الذين بينوا الحكم فيما يحل ويحرم منها، وأرشدوا إلى المصلحة في بابها وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها، فألهما الله الاستغفار للعلماء مجازاة لهم على صنيعهم بها وشفقتهم عليه.

 

ومما جاء في بيان الرزية بفقد العلماء ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).

قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله - في فتح الباري: فدل هذا على أن ذهاب العلم يكون بذهاب العلماء.

قال ابن مسعود - رضي الله عنه - يوم مات عمر: إني لأحسب تسعة أعشار العلم اليوم قد ذهب.

وقيل لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس: قال: إذ هلك علماؤهم.

ونقل عن علي وابن مسعود وغيرهما قولهم: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.

وقال سفيان بن عيينة: وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهل العلم.

الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها *** متى يمت عالم منها يمت طرف

كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها *** وإن أبى، عاد في أكنافها التلف

 

إلى غير ذلك من النقول والآثار التي تبين الأثر الكبير الناشئ عن موت العلماء.

 

وهذا لا يعني القنوط والتشاؤم والتطير، فقد مات من قبل سيد العلماء وإمام الأتقياء محمد صلى الله علية وسلم، ومن بعده صحابته النجباء وأتباعهم النبلاء، ولم يزل دين الله باقيا ظاهرا، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بإذنه - تعالى -، ولكن المقصود هو بيان مكانة العلماء في الأمة وأن يعرف الناس منزلتهم عند الله وعند رسوله، وأن الخير قريب منهم ما بقوا بينهم، ليستفيدوا من هديهم وينهلوا من علمهم وينزلوهم المنزلة اللائقة بهم من التقدير والتكريم والرجوع إليهم فيما يشكل عليهم، وأن يعلموا أنهم أمنة لهم بإذن الله - تعالى -. كما أن في هذا تنبيها لطلبة العلم لأن يهيئوا أنفسهم ويعدوها لخدمة الأمة، فإن الناس بحاجة ماسة إلى من ينشر بينهم العلم ويسعى لتفقيههم في دين الله.

 

حفظ الله علماءنا ونفع بهم، ورحم أمواتهم وأموات المسلمين، ووفقنا جميعا لهداه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply