سلسلة علماؤنا ( 2- 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

سعيد بن المسيب:

رابعاً: رفضه لمقابلتهم وصلابته في ذلك.

روى ابن سعد في الطبقات بإسناد متصل جيد عن عمران بن عبد الله الخزاعي قال: \"حج عبد الملك بن مروان فلما قدم المدينة فوقف على باب المسجد أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلاً يدعوه ولا يحركه، قال: فأتاه الرسول وقال: أمير المؤمنين واقف بالباب يريد أن يكلمك، فقال: ما لأمير المؤمنين إليَّ حاجة، وما لي إليه حاجة وإن حاجته إليَّ لغير مقضية قال: فرجع الرسول إليه فأخبره فقال: إرجع إليه فقل إني أريد أن أكلمك ولا تحركه قال: فرجع إليه فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال سعيد ما قاله أولاً قال: فقال له الرسول: لولا أنه تقدم إليَّ فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول له مثل هذه المقالة؟ فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك وإن كان يريد بي غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاضٍ,. فاتاه فأخبره فقال: رحم الله أبا محمد أبى إلا صلابة\"[1].

 

وبإسناد آخر جيد يروي ابن سعد في الطبقات عن ميمون بن مهران قال: \"قدم عبد الملك بن مروان المدينة فامتنعت منه القائلة واستيقظ فقال لحاجبه: انظر هل في المسجد أحد من حُدّاثنا من أهل المدينة؟ قال: فخرج فإذا سعيد بن المسيب في حلقة له فقام حيث ينظر إليه ثم غمزه وأشار إليه بإصبعه ثم ولى، فلم يتحرك سعيد ولم يتبعه فقال: ما أراه فطن فجاء فدنا منه ثم غمزه وأشار إليه وقال: ألم ترني أشير إليك؟ قال: وما حاجتك؟ قال: استيقظ أمير المؤمنين فقال: انظر في المسجد أحد من حُدّاثي، فأجب أمير المؤمنين فقال: أرسلك إلي؟ قال: لا ولكن قال اذهب فانظر بعض حداثنا من أهل المدينة فلم أر أحداً أهيأ منك فقال سعيد: اذهب فاعلمه أني لست من حداثه فخرج الحاجب وهو يقول: ما أرى هذا الشيخ إلا مجنوناً، فأتى عبد الملك فقال له: ما وجدت في المسجد إلا شيخاً أشرت إليه فلم يقم فقلت له: إن أمير المؤمنين قال انظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي فقال: إني لست من حداث أمير المؤمنين وقال لي: أعلمه فقال عبد الملك: ذاك سعيد بن المسيب فدعه\"[2].

 

وقد تكررت له قريباً من ذلك مع الوليد كما روى ابن سعد بإسناد جيد عن عمران بن عبد الله الخزاعي قال: \"فلما استخلف الوليد بن عبد الملك قدم المدينة فدخل فرأى شيخاً قد اجتمع عليه الناس فقال: من هذا؟ فقالوا: سعيد بن المسيب فلما جلس أرسل إليه فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين فقال: لعلك أخطأت باسمي أو لعله أرسلك إلى غيري قال فأتاه الرسول فأخبره فغضب وهم به، وقال: وفي الناس يومئذٍ, بقية فأقبل عليه جلساؤه فقالوا: يا أمير المؤمنين فقيه أهل المدينة وشيخ قريش وصديق أبيك لم يطع ملكاً قبلك أن يأتيه قال فما زالوا به حتى أضرب عنه\"[3].

 

يقف سعيد من عبد الملك هذا الموقف مع أنه صديقه كما ذكر في الرواية الأخيرة وكما ذكر ذلك عبد الملك في رسالته لسعيد في كتاب المحن لأبي العرب ص 292 إذ يقول: \"إلى أخي الخاص من دون الناس\" ويبدو هذه الصداقة القديمة قد أفادته عند عبد الملك فلم يلح عليه ولم يؤذه ونفعته عند الوليد عندما ذكره جلساؤه بـها فأضرب عنه وقبل ذلك كله حماية الله له لأنه يتقرب إلى الله برفضه مقابلة هؤلاء الظلمة والنظر في وجوههم ولا تنسى أنه القائل: لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم خشية أن تحبط أعمالكم.

 

ثم تأمل في عقلية الظالم وأعوانه حيث يندهش الرسول من رفض سعيد ويصفه بالشيخ المجنون، والآخر يقول لولا أنه تقدم إليَّ لحملت إليه رأسك، فهم يتصورون أن رفض أمر الخليفة أكبر الجرائم ولا يخطر ببالهم أن أحداً يرفض هذا الشرف العظيم في رأيهم، وهذه هي عقول الظلمة وأعوانـهم منذ أن تغير نظام الحكم الراشدي وجاء هؤلاء المستبدين الذين يرون الناس عبيداً لهم. ومر بنا قول المجرم مسلم بن عقبة إلى سعيد: بل تبايع على أنك عبد ليزيد بن معاوية … وكلما ازددنا نظراً في تاريخ هؤلاء ازددنا قناعة بأن هذه هي نظرتـهم إلى شعوبـهم.

 

ومن العجيب من أمر سعيد وصبره أنه في تلك الحال الصعبة تحت الضرب والتهديد بالقتل يأتي إليه قتادة فيسأله أمام الناس فيجيبه على كل ما سأله عنه والناس ينظرون ويتعجبون[4] فانظر إلى حرص قتادة أن يأخذ عنه العلم ويقول: لئلا يفوتني، فهو يخشى أن يقتل سعيد فأراد أن يأخذ منه العلم قبل موته، ثم انظر إلى بأس سعيد، واحتسابه الأجر بالصبر والتعليم، وعدم انشغاله بنفسه في هذه الحال. وهذا درس لكل عالم وداعية إن كنا نريد الدروس والاقتداء بسلفنا الصالح، ثم إن سؤال قتادة له في هذه الحالة تحد للسلطة واضح، ولكنه لم يبال بذلك، ولم ينظر فيه، بل تجاوزه وأصر على سؤاله وهو بـهذه الحالة، ولم ينظر إلى غضب الأمير عليه حيث يسأل إنساناً سجيناً مضروباً مهدداً بالقتل مغضوباً عليه من الحاكم.

 

ولم يكتف الظلمة بما فعلوه بسعيد مما سبق ذكره، فهم أصدروا أمراً بمنع الجلوس معه وعدم السماح له بنشر العلم، فعن عبد الرحمن بن القاسم قال: \"جلست إلى سعيد بن المسيب وهو في المسجد وحده فقال لي: إنه قد نـهي عن مجالستي قلت: إني رجل غريب قال: إنما أخبرتك لئلا تصيبك معرة …\"[5]. وكذلك روى ابن سعد في الطبقات تحديَ أبي يونس القزي قال: \"دخلت مسجد المدينة فإذا سعيد جالس وحده فقلت: ما شأنه؟ قالوا: نـهي أن يجالسه أحد\"[6] وعن العلاء بن عبد الكريم قال: \"جلست إلى سعيد بن المسيب فقال: إنه قد نـهي عن مجالستي\"[7] وعن قتادة عن سعيد بن المسيب \"أنه كان إذا أراد الرجل أن يجالسه قال: إنـهم قد جلدوني ومنعوا الناس أن يجالسوني\"[8].

 

والأخبار السابقة كلها بأسانيد جيدة وأهم ما فيها هو حرص الناس على العلم، واستعدادهم لتحمل الأذى في سبيل ذلك، وعدم الالتزام بأمر الحاكم في ذلك، ثم نصح سعيد لجلسائه وإيضاحه الأمر لهم حتى يفعلوا ما يفعلونه عن بينة ويتحملون عواقبه، ولا نلمس من الروايات السابقة أنه يلتزم بذلك طاعة لولي الأمر كما يقولون، بل ينبه من يريد المجالسة على خطورة الأمر، ثم يترك له المجال ليستفيد من علم سعيد لا كما يقوله بعض الناس الآن من وجوب الالتزام بـهذا الأمر إذا صدر من الحاكم وغاب عن هؤلاء أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومنع العلم والتعليم ونشر الحق بين الناس يعتبر من معصية الله، فلا يطاع الآمر به ولو كان واجب الطاعة، فرحم الله علماء السلف فقد كانوا يفقهون هذه الأمور ويدركونـها، ولا ينبغي لأحد أن يحتج بفعل الإمام أحمد عندما منع من التحديث فإنه امتنع ظاهراً منعاً للفتنة، ولكنه كان يعلم سراً كما ثبتت بذلك الروايات، ولعله أن تأتي مناسبة ذلك فنشير إليه بالتفصيل.

 

ولعلنا نختم مواقفه مع الحكام بموقف طريف حصل له مع الحجاج ويبدو أن ذلك قبل أن يتولى الحجاج الولايات، فيروي علي بن زيد بن جدعان وهو من الرواة عن سعيد أنه قيل لسعيد بن المسيب: \"ما شأن الحجاج لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك؟ فقال والله لا أدري إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد فصلى صلاة فجعل لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفاً من حصى فحصبته بـها وقال الحجاج: فما زلت بعد ذلك أحسن الصلاة\"[9]، وراوي الخبر عن علي بن زيد هو حماد بن سلمة وهو من أوثق من روى عنه.

 

وكذلك لا بد من الإشارة إلى خبر طريف رواه ابن سعد في الطبقات وإن كان في إسناده الواقدي: فعن مسلم الخياط قال: جاء رجل إلى ابن المسيب فقال إني أرى - أي في المنام - تيساً أقبل يشتد من الثنية فقال سعيد، اذبح اذبح قال: ذبحت قال: مات ابن أم صلاء فما برح حتى جاءه الخبر أنه قد مات. قال محمد بن عمر: وكان ابن أم صلاء من موالي أهل المدينة يسعى بالناس[10].

 

ونقول اللهم اذبح السعاة بالشر على أهل الدعوة والعلم، فقد آذوا عباد الله مع زعمهم الانتساب إلى العلم والدعوة السلفية. ومع كل هذه الصلابة من سعيد ضد الحكام لأنه كان في أمره بالمعروف مع عامة الناس يأمر بالستر ويحث عليه إذا كان فاعل المعصية متخفياً بـها فيروي عبد الرحمن بن حرملة فيقول: \"خرجت إلى الصبح فوجدت سكراناً فلم أزل أجره حتى أدخلته منـزلي قال: فلقيت سعيد بن المسيب فقلت له: لو أن رجلاً وجد سكران أيدفعه إلى السلطان فيقيم عليه الحد؟ قال: فقال لي: إن استطعت أن تستره بثوبك فافعل. قال فرجعت إلى البيت فإذا الرجل قد أفاق فلما رآني عرفت فيه الحياء فقلت: أما تستحي؟ لو أخذت البارحة لحددت فكنت في الناس مثل الميت لا تجوز لك شهادة فقال: والله لا أعود أبداً، قال ابن حرملة: فرأيته قد حسنت حاله بعد\"[11].

 

ولا ينبغي عند الحديث عن سعيد بن المسيب ترك الإشارة إلى تزويجه لابنته بأحد تلاميذه الفقراء فهي مشهورة وفيها درس اجتماعي عظيم، ولها أيضاً علاقة بما سبق ذكره من إساءة حكام الأمويين إليه فبعض العلماء وهو أبو بكر بن أبي داود يرى أن ما حصل له كان بسبب رفضه تزويج ابنته من الوليد بن عبد الملك ولي العهد، ثم تزويجها لتلميذه الفقير ابن أبي وداعة المخزومي، ولا يستبعد ما ذكره ابن أبي داود فإن رفض سعيد تزويج ولي العهد يعتبر رفضاً سياسياً لا سيما وقد اجتمع مع رفضه بيعة ولي العهد مع وجود أبيه[12].

 

وكذلك تجدر الإشارة إلى موقفه إلى الصراع السياسي بين بني أمية وآل الزبير وهذا ما ذكره ابن سعد في الطبقات عن الحكم بن أبي إسحاق قال: \"كنت جالساً إلى سعيد بن المسيب فقال لمولى له: اتق الله لا تكذب علي كما كذب مولى ابن عباس على ابن عباس فقلت لمولاه: ذاك أني لا أدري ابن الزبير أحب إلى أبي محمد أو أهل الشام؟ قال فسمعها سعيد فقال: يا عراقي أيهما أحب إليك؟ قلت: ابن الزبير أحب إلي من أهل الشام قال: أفلا أخبث بك أي أمسك بك الآن فأقول هذا زبيري؟ فقلت: سألتني فأخبرتك فأخبرني أيهما أحب إليك قال: كلا لا أجيب\" [13] وتوقفه مفهوم فقد سبق معنا رفضه البيعة لابن الزبير حتى يجتمع الناس وضرب الوالي له على ذلك، وليس ذلك حباً في الأمويين ولكنه يرى الأمر فتنة فلا ينبغي له الدخول في ذلك وقد محا اسمه من الديوان في الفتنة[14].

 

ونختم الحديث عن سعيد برواية تدل على موقفه مما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم، واعتقاده الصحيح في طلحة والزبير وعلي والترضي عنهم جميعا قال علي بن زيد بن جدعان: قال لي سعيد بن المسيب قل لقائدك يقوم فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده قال فانطلق فنظر فإذا رجل أسود الوجه فجاء فقال: رأيت وجه زنجي وجسده أبيض فقال: إن هذا سب هؤلاء الرهط طلحة والزبير وعلياً فنهيته فأبى فدعوت عليه قال قلت: إن كنت كاذباً فسود الله وجهك فخرجت بوجهه قرحة فاسود وجهه\"[15] فسود الله وجه من سب أحداً من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورحم الله سعيداً وأكثر في علمائنا من أمثاله...

 

----------------------------------------

[1] الطبقات 5/129ن المعرفة والتاريخ 1/475 مع ذكر أن الذي أرسل إليه هو الوليد بن عبد الملك.

[2] الطبقات 5/130، الحلية 2/169.

[3] الطبقات 5/129-130.

[4] الحلية 2/171.

[5] المعرفة والتاريخ 1/478، الحلية 2/172.

[6] الطبقات 5/128.

[7] الحلية 2/172.

[8] الحلية 2/172.

[9] الحلية 2/165، الطبقات 5/129.

[10] الطبقات 5/124.

[11] - الطبقات لابن سعد 5/137-138 بإسناد جيد وص 134 بإسناد آخر جيد.

[12] - انظر تفاصيل تزويجه لبنته من تلميذه في الطبقات 5/138، الحلية 2/167-168، سير أعلام النبلاء 4/233-234 وعلق الذهبي على الرواية قائلاً: \"تفرد بالحكاية أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وعلى ضعف فقد احتج به مسلم\" وقال محقق الكتاب: وثقه ابن أبي حاتم إلا أنه تغير بأخره.

[13] الطبقات 5/130 بإسناد لا بأس به.

[14] المعرفة والتاريخ 1/478.

[15] الطبقات 5/136.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply