سلسلة علماؤنا (1 - 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

سعيد بن المسيب:

هو سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي سيد التابعين، جاء جده حزن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ما اسمك؟ قال: حزن قال: بل أنت سهل، قال: يا رسول الله اسم سماني به أبواي فعرفت به في الناس قال: فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فقال سعيد بن المسيب: فما زالت تعرف الحزونة فينا أهل البيت[1].

ولد لأربع مضت من خلافة عمر أو لسنتين مضتا من خلافته - رضي الله عنه - وتوفي سنة 94 هـ وقد ثبت سماعه من عمر رضي الله عنه بإسناد صحيح ولا عبرة بمن نفى ذلك، وروى عن جلة من الصحابة الموجودين في ذلك الوقت، وأكثر عن أبي هريرة لأنه زوج ابنته ولكثرة مرويات أبي هريرة - رضي الله عنه - من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد له ابن عمر بأنه أحد المفتين[2]، وقال فيه قتادة ومكحول والزهري وغيرهم: \"ما رأيت أعلم من سعيد بن المسيب\" وقال ابن المديني[3]: \"لا أعلم في التابعين أحداً أوسع علماً من ابن المسيب، هو عندي أجل التابعين\" [4] وقال عن نفسه: \"ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر مني\" قال يزيد قال مسعر \" وأحسبه قال وعثمان ومعاوية\" [5]، ويقال عنه \"فقيه الفقهاء\" و \"عالم العلماء\" و \"راوية ابن عمر\" [6] وانظر إلى شهادات العلماء فيه ومنهم علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم - في الطبقات[7] وكان يفتي مع وجود الصحابة وقد رأينا شهادة ابن عمر فيه.

 

وقد اشتهر عنه متابعة الصوم[8] ويقول عن نفسه \"ما فاتتني صلاة الجماعة منذ أربعين سنة\". قال برد مولاه \"ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد\" وقال: \"ما فاتتني تكبيرة الإحرام منذ خمسين سنة وما نظرت في قفا رجل منذ خمسين سنة\" [9] وعن عبد المنعم بن إدريس عن أبيه قال: \"صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة\" [10] وحج أربعين سنة وكان يكثر من قول: \"اللهم سلم سلم\" [11] ورأى بكر بن خنيس شباباً يكثرون من العبادة فتمنى مثلهم وقال ذلك لسعيد بن المسيب \" فقال: يا ابن أخي إنـها ليست بعبادة فقلت له: فما التعبد يا أبا محمد؟ قال: التفكر في أمر الله والورع عن محارم الله وأداء فرائض الله\" [12].

 

وقال عن نفسه \"قد بلغت ثمانين سنة وما شيء عندي أخوف من النساء\" وقال: \"ما أيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء\" [13] ويقول هذا الكلام وقد بلغ أكثر من ثمانين سنة وقد كاد يفقد إبصاره بعينيه فإذا قالوا له: \"إنك رجل لا تريد النساء ولا تريدك النساء قال: هو ما أقول لكم\" [14] فتأمل ذلك وتأمل تساهل الناس في هذا الجانب بل إن بعض المحسوبين على الدعوة والخير يثق بنفسه كثيراً في هذا الجانب ويتجاوز الحدود الشرعية، كل ذلك بدعوى مسايرة العصر وعدم الظهور بمظهر المتشدد، فالله المستعان، وقد رأينا أحد المحسوبين على الدعوة بل أحد كبار الدعاة وصاحب مدرسة فكرية متميزة وصاحب مؤلفات كثيرة في التربية والتوجيه يوصي الدعاة في بلاد الغرب بأن لا يصرفوا أبصارهم عن النساء لأن هذا يعد في تلك البلاد من قلة الذوق، والداعية في زعمه يجب أن يتألف الناس ولا ينفرهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله! وكيف ينصر قوم هذه موازينهم.

 

نظرته إلى حكام زمانه:

كما هو واضح فقد عاش سعيد في العصر الأموي بل في قوة خلفاء بني أمية وكانوا من الحكام المجاهدين في سبيل الله وحصل على أيديهم خير كثير وأخطاؤهم بالنسبة لغيرهم تعتبر قليلة ولا تنس أنـهم عاشوا في خير القرون القرن الأول كما قال - صلى الله عليه وسلم -. ومع هذا كله فقد تجافى عنهم سعيد، وأظهر غضبه عليهم، وانتقدهم علناً أمام الناس، وذلك لظلمهم للناس وتقصيرهم في بعض الأمور. فلنقف على بعض أخباره معهم لنرى

كيف يتعامل علماء أهل السنة مع الحكام:

أولاً: كان لا يأخذ العطاء منهم، مع أنه من حقه الواضح الذي شارك فيه بقية المسلمين، وليس شيئاً خص به هو من دون الناس، فقد أخرج ابن سعد بإسناد جيد: قال: كان لسعيد بن المسيب في بيت المال بضعة وثلاثون ألفاً عطاؤه، فكان يدعى إليها فيأبى ويقول: لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان\" [15].

 

وحدث الإمام مالك فقال: \"إن غلاماً لبعض العمال بعث إلى سعيد بن المسيب بخمسة آلاف درهم فقال له الرسول: بعث إليك بـهذا أصلحك الله لتنفقها وتجعلها في حاجتك، قال: وسعيد جاد مجد يحاسب غلاماً له في نصف درهم يدعيه قبله والغلام يقول: ليس لك عندي شيء، قال سعيد للرسول: اذهب إلى عملك، ثمعرضها عليه الرسول أيضاً فقال: اغرب عني وأبى أن يأخذها …\" [16].

 

وروى مالك أيضاً: \"كان سعيد بن المسيب يماري غلاماً له في ثلثي درهم، وأتاه ابن عمه بأربعة آلاف درهم فأبى أن يأخذها\" وقال في رواية المعرفة والتاريخ: \"هذا النصف درهم أحب إلي منها\" [17].

 

وهذا هو مسلك من لا يريد لهؤلاء فضلاً عليه ولا منة، ولذلك نجده يدعو إلى حفظ المال وتثميره للاستغناء عن هؤلاء وأمثالهم لئلا يستعبدوه، اسمعه يقول: \"لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله يعطي منه حقه ويكف به وجهه عن الناس\" وروي عنه هذا القول: \" لا خير فيمن لا يحب هذا المال يصل به رحمه، ويؤدي به أمانته، ويستغني به عن خلق ربه\" [18]. وروى يحي بن سعيد عن سعيد \"أنه ترك ألفين أو ثلاثة آلاف دينار بعد موته وقال في مرض موته \"ما تركتها إلا لأصون بـها ديني وحسبي\" [19].

 

ولذلك نجده لما سجن في المدينة كما سنذكر فيما بعد يرسل إليه أهله في السجن بأطايب الطعام فقال للراوي وهو مولاه برد وناقل الطعام إليه \"اذهب إلى ابنتي فقل لها لا تعودي لمثل هذا أبداً، فهذه حاجة هشام بن إسماعيل والي المدينة يريد أن يذهب مالي فأحتاج إلى ما في أيديهم، وأنا لا أدري ما أحبس يريد الوقت فانظري إلى القوت الذي كنت آكل في بيتي فابعثي إلي به…\" [20] وهذه الرواية وإن كان فيها محمد بن عمر الواقدي إلا أنه يؤيدها رواية أخرى في المعرفة والتاريخ عن الإمام مالك قال: \"بلغني أن ابن المسيب لما جلس أي في السجن بعث إليه أهله بطعام صنعوه له فلما أتي به قال سعيد: لا أذوقه، انظروا الأقراص الأربعة التي كنت آكلهم بالزيت في البيت فابعثوا بـهن إلي…\" [21].

 

ولعل من المفيد التذكير هنا أن الوظائف الحكومية أصبحت غلاً في أعناق الدعاة إلى الله جعلتهم لا يبحثون عن وسائل أخرى لطلب الرزق تحررهم من هذه العبودية للظلمة، أما آن لهم أن يدركوا ذلك ويعتمدون على أنفسهم بعد الله في طلب أرزاقهم، وسيبارك لهم في ذلك إن شاء الله.

 

ثانياً: دعاؤه عليهم وإظهار عدم الرضا بواقعهم:

اشتهر عن سعيد بن المسيب قوله \"لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة\" [22] وقد كرره سفيان الثوري - رحمه الله -، وكان كثير الاعتناء بأخبار سعيد، وهذا يدلك على موقف علماء السلف من هؤلاء الظلمة والإنكار عليهم بالقلب والقول، وعدم الرضا بمسلكهم فما بالك بمن يتزلف إليهم ويمدحهم بما ليس فيهم، ويجعل همه الأول في هذه الحياة إظهار ذلك والدندنة حوله؟ أتراه موافقاً لعلماء السلف الذين يدعي الانتساب إليهم؟.

 

وكان سعيد يستنكر الدعاء لهم على المنابر ويعرض عن ذلك، يقول ضمام أحد الرواة \"فبلغني أن هشام بن إسماعيل والي المدينة كان إذا خطب الناس يوم الجمعة يحول إليه سعيد وجهه ما دام يذكر الله، حتى إذا رفع يمدح عبد الملك ويقول فيه ما يقول تحول عنه سعيد بوجهه، فلما فطن له هشام أمر حرسياً أن يحصب وجهه إذا تحول عنه ففعل ذلك به فقال سعيد لهشام وأشار إليه بيده هي ثالث فما مرّ به إلا ثالثة أشهر حتى عزل\" [23] وضمام هو ابن إسماعيل الحواري اختلف فيه والأكثرون على توثيقه، بل كان يدعو عليهم في صلاته دائماً، قال علي بن زيد بن جدعان: قلت لسعيد بن المسيب: يزعم قومك أنه ما منعك من الحج أنك جعلت لله عليك إذا رأيت الكعبة أن تدعو الله على بني مروان، قال: \"ما فعلتُ وما أصلي صلاة إلا دعوت الله عليهم، وإني قد حججت واعتمرت بضعاً وعشرين سنة وإن كتبت علي حجة واحدة وعمرة وإني أرى أناساً من قومك يستدينون فيحجون ويعتمرون ثم يموتون ولا يقضى عنهم ولجمعة أحب إلي من حج أو عمرة تطوعاً\" [24].

 

وروى الإمام مالك \"أن سعيد بن المسيب غضب على الإمام الزهري وقال: ما حملك على أن حدثت بني مروان حديثي؟ فما زال غضبان عليه حتى أرضاه بعد\" [25] وكان الإمام الزهري مشهوراً بالاتصال ببني أمية، فلم يرض ذلك سعيداً ولا أرضاه أن يروي حديثه في مجالسهم، وغاضبه زماناً حتى استرضاه. ويروي يوسف بن يعقوب الماجشون وهو ثقة عن المطلب بن السائب قال: \"كنت جالساً مع سعيد بن المسيب بالسوق، فمر بريد لبني مروان فقال له سعيد: من رسل بني مروان أنت؟ قال: نعم. قال: فكيف تركتهم؟ قال: بخير قال: تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب؟ قال: فاشرأب الرسول فقمت إليه فلم أزل أرجيه أو أزجيه حتى انطلق ثم قلت لسعيد: يغفر الله لك تشيط بدمك بالكلمة هكذا تلقيها، قال: اسكت يا أحيمق، فوا الله لا يسلمني الله ما أخذت بحقوقه\" [26]. وقال الإمام الذهبي - رحمه الله - \"كان عند سعيد بن المسيب أمر عظيم من بني أمية وسوء سيرتـهم وكان لا يقبل عطاءهم\" [27].

 

وكل ما مضى يؤكد مواقف علماء سلفنا - رحمهم الله - تعالى - من الحكام حتى لو كانوا من الحكام الشرعيين الذين لم يرتكبوا مكفراً يخرجهم من الملة، وهم بـهذه الحال طاعتهم واجبة، ولكن علماؤنا فرقوا بين الطاعة وبين النقد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الرضا بالواقع السيئ، فهل يفعل ذلك بقية العلماء وطلاب العلم في هذا العصر، فيؤدون دورهم الحقيقي في الإصلاح ورفض الواقع بالأساليب المناسبة؟!.

 

ثالثاً: رفضه لأوامرهم إذا كانت تخالف الحق وما ترتب على ذلك من الأذى الشديد له.

 

لم يكتف سعيد بن المسيب - رحمه الله - تعالى - بالنقد العلني لحكام زمانه والدعاء عليهم وإظهار عدم الرضا عنهم، بل تعدى ذلك إلى مواقف عملية اصطدم فيها بـهؤلاء الحكام، وعرض نفسه لأذاهم، ولم يخف في الحق لومة لائم، وقام بواجبه واجب العالم الكبير الجليل الذي لا يساير الواقع بل يقف في وجهه.

 

ولنبدأ الحديث عن هذا الأمر برواية عمران بن عبد الله الخز اعي وكان أحد جلسائه عن نظرة سعيد إلى نفسه في سبيل الحق، يقول عمران كما ورد في الحلية بإسناد جيد: \"إن نفس سعيد كانت أصون عليه في ذات الله من نفس ذباب\" [28]. وكان أول صدام له مع جابر بن الأسود الزهري والي عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على المدينة، فإنه دعا الناس إلى بيعة ابن الزبير فقال سعيد بن المسيب: لا، حتى يجتمع الناس فنضربه ستين سوطاً، فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إلى جابر يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد، دعه[29].

 

وسبق ذلك صدامه مع المجرم مسلم بن عقبة المري الذي قاد جيش يزيد بن معاوية إلى المدينة، وتولى كبر مذبحة الحرة فقد روى إبراهيم بن سعد الزهري قال: \"لما بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري على المدينة ليالي الحرة أمره أن يسمع من سعيد بن العاص ولا يخالفه، فأتى سعيد بن المسيب وهو على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: بايع، فقال له سعيد بن المسيب: هلم المصحف أبايعك على ما فيه، فقال له: بايع على أنك عبد ليزيد بن معاوية فقال: بل أبايعك على ما في المصحف وأني حر مسلم، قال مسلم بن عقبة: اضربوا عنقه فقال سعيد بن العاص ما تصنع؟ فإني رأيته صريعاً عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كنت لأكلمه أبداً\" [30]. وهكذا كان ظلمة ذلك الوقت يرون الناس عبيداً لهم ولأسيادهم، فلم ينج سعيداً من هذا المجرم إلا بادعاء أنه مصاب بالجنون أو الصرع.

 

ولعل أبرز مواقفه مع ولاة عصره موقفه من بيعة ولي العهد في عهد عبد الملك ابن مروان فقد تشدد فيها وتحمل فيها الضرب والسجن والتهديد بالقتل، وأصر على رأيه، ولم يتراجع عنه، والروايات في ذلك كثيرة متداخلة نختار أفضلها وأصحها أسانيد وأكثرها اختصاراً.

 

قال رجاء بن جميل الأيلي: \"قال عبد الرحمن بن عبد القارئ لسعيد بن المسيب حين قدمت البيعة للوليد وسليمان بالمدينة بعد موت أبيهما: إني مشير عليك بخصال ثلاث، قال وما هي؟ قال: تعتزل مقامك فإنك هو وحيث يراك هشام بن إسماعيل، قال: ما كنت لأغير مقاماً قمته منذ أربعين سنة، قال: تخرج معتمراً قال: ما كنت لأنفق مالي وأجهد بدني في شيء ليس لي فيه نية، قال فما الثالثة؟ قال: تبايع، قال: أرأيت إن كان الله قد أعمى قلبك كما أعمى بصرك فما علي؟ قال: وكان أعمى، قال رجاء: فدعاه هشام إلى البيعة فأبى، فكتب فيه إلى عبد الملك فكتب إليه عبد الملك: ما لك ولسعيد ما كان علينا منه شيء نكرهه، فأما إذ فعلت فاضربه ثلاثين سوطاً، وألبسه تبان شعر، وأوقفه للناس لئلا يقتدي به الناس. فدعاه هشام فأبى، وقال: لا أبايع لاثنين وفي رواية أخرى: لا أبايع لاثنين ما اختلف الليل والنهار قال: فضربه ثلاثين سوطاً وفي رواية خمسين سوطاً وفي الرواية الأقوى: مائة سوط. قال رجاء: حدثني الإيليون الذين كانوا في الشرط بالمدينة قالوا: علمنا أنه لا يلبس التبان طائعاً، قلنا له يا أبا محمد: إنه القتل فاستر عورتك قال: فلبسه فلما ضرب قلنا له إنا خدعناك قال: يا معجلة أهل أيلة لولا أني ظننت أنه القتل ما لبسته\" [31].

 

وفي رواية أخرى أن الذي دخل عليه هم سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله بن عمر: فلم يقبل منهم ما عرضوه عليه، وهو يشبه ما عرضه عليه عبد الرحمن بن عبد القارئ، فلعلهما حادثتان منفصلتان لنفس القضية، وكذلك دخل عليه وهو في سجنه أبو بكر بن عبد الرحمن وعكرمة بن عبد الرحمن فقالا له: \"اتق الله فإنا نخاف على دمك فقال: يا إخوتي أتراني ألعب بديني كما لعبتما بدينكما\" [32].

 

وفي رواية أخرى \"أن أبا بكر بن عبد الرحمن دخل على سعيد في السجن فجعل يكلم سعيداً ويقول: إنك خرقت به أي استهنت بالوالي فقال: يا أبا بكر اتق الله وآثره على ما سواه، فجعل أبو بكر يردد: إنك خرقت به ولم ترفق، فجعل سعيد يقول: إنك والله أعمى البصر أعمى القلب، قال: فخرج أبو بكر من عنده وأرسل إليه هشام بن إسماعيل فقال: هل لان سعيد بن المسيب منذ ضربناه؟ فقال أبو بكر: والله ما كان أشد لساناً منه منذ فعلت به ما فعلت فاكفف عن الرجل [33].

 

وقد حصل له قريب من ذلك من والي المدينة طارق بن عمرو مولى عثمان بن عفان، وكان والياً عليها إلى سنة 74 يقول الليث: \"دخل علي بن الحسين على طارق بن عمرو فقال طارق: لأرسلن إلى سعيد بن المسيب، فإما أن يبايع، وإما أن أضرب عنقه قال: فانصرف علي بن الحسين ومر على أبي بكر بن عبد الرحمن فأخبره فذهبا إلى سعيد فقالا له: تبايع؟ قال: لا ألعب بديني كما لعبتما بدينكما قالا له: فاخرج إلى البادية لعله ينساك، فقال: لا، فقالا: فتجلس في بيتك فقال: أسمع المنادي يدعو إلى الفلاح فما أجيبه قالا: فتحول عن موضعك فإنه مقابل له فإذا خرج رآك قال: أ أتحول إلى مكان غيره؟ هذا موضع نحن نجلس فيه من كذا وكذا، فلما خرج طارق أي بعد عزله تبعه عمرو بن عثمان بن عفان فقال له: جزاك الله خيراً فيما فعلت وخاصة في شيخنا سعيد فقال: والله ما ذكرته وما انفلت مني إلا النسيان\" [34].

 

وقضية ولاية العهد التي ابتدعت في العصر الأموي، زادها عبد الملك فجعلها لاثنين من بعده، وبالغ بعض خلفاء بني العباس فجعلوها لثلاثة من بعدهم، وحصل بسبب ذلك من الفتن الشيء العظيم، ويكفي في ذلك الفتنة بين الأمين والمأمون والحرب الأهلية التي استمرت أربع سنوات خسر فيها المسلمون الكثير، ودمرت بغداد تدميراً شديداً. وسعيد يعترض عليها لهذا السبب ولسبب آخر أكبر من ذلك وهو أنه لا تجوز البيعة لاثنين بل إنـها لواحد فقط هو الخليفة القائم، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - \"إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما\" وهو في صحيح مسلم فسعيد يرى أن البيعة لولاية العهد تعارض هذا الحديث لأنـهما بيعتان للخليفة ولولي عهده ولا يجوز ذلك بل إن هناك رواية في كتاب المحن لأبي العرب[35] تذكر أنه أرسل رسالة إلى عبد الملك يطلب منه أن يخلع نفسه من الخلافة لتصح بيعة من بعده وليس بالضرورة أنه ولي عهده فهو يذكر في هذه الرسالة أن هناك غيرك يصلح لها كابن عمر وغيره، ولم أذكر هذه الرواية بتفاصيلها لعدم التحقق من إسنادها. فالقضية عند سعيد بن المسيب قضية شرعية مبدئية لا يجوز التهاون فيها، ولذلك اشتد في رفضه وعرض نفسه للأذى الشديد بل لخطر القتل وما كان أهونه على أولئك فهو في بعض الروايات يتوقع القتل ويسميه شهادة فهو يقول: \"أين تريدون أن تذهبوا بي؟ قالوا نقتلك قال: إني إذا لسعيد كما سمتني أمي\" [36] ومع ذلك يصر على موقفه، ولا يستطيعون الحصول منه على أي تنازل فلا يستطيع جابر بن الأسود ولا طارق بن عمرو ولا هشام بن إسماعيل زحزحته عن موقفه خطوة. وإنك لتجد في ردوده القاسية مع علماء عصره كأبي بكر بن عبد الرحمن وعبد الرحمن بن عبد القارئ وغيرهم غضبه الشديد على هؤلاء واستياءه من موقفهم الذي يرى فيه المداهنة، فيشدد عليهم بأمثال هذه الكلمات القاسية التي لا تعبر عن حقيقتهم وواقعهم فهم علماء أجلاء ولكنه أجل منهم وأقوى منهم في الحق.

 

ومن اللافت للنظر في هذا الأمر أن عبد الملك كما تذكر بعض الروايات اعترض على ضرب سعيد وكتب إليه يسترضيه ويتبرأ من ضربه وإهانته، وأرسل إلى واليه يعاتبه في ذلك وفي بعض الروايات أنه عزله وقال له: والله لا تلي لي عملاً أبدا. وهذه الروايات أسانيدها ليست جيدة وهي تتعارض مع روايات أخرى تظهر دوره في الأمر، وأمره به، وهذا هو الذي يتفق مع تيار السياسة السائد في ذلك الوقت. وكذلك فالخليفة مسؤول عن ولاته وأعمالهم، ومحاسب عليها، إلا إذا أقاد من الظالم وأنصف منه، وماذا يقال فيمن الحجاج سيئة من سيئاته نسأل الله العفو والعافية...

 

----------------------------------------

[1] طبقات ابن سعد 5/119 وأخرجه البخاري 10/273-274 باب الأدب.

[2] سير أعلام النبلاء 4/222.

[3] سير أعلام النبلاء 4/222.

[4] المصدر السابق.

[5] الطبقات 5/120 وإسناده جيد.

[6] المصدر السابق.

[7] الطبقات 5/121-122.

[8] الحلية 2/163.

[9] الحلية 2/163.

[10] المصدر السابق.

[11] - المصدر السابق 2/164.

[12] الحلية 2/161-162.

[13] المصدر السابق 2/166.

[14] الطبقات 5/136.

[15] الطبقات 5/128، الحلية 2/166 بأسانيد جيدة.

[16] المعرفة والتاريخ 1/474-475.

[17] المعرفة والتاريخ 1/475 والحلية 2/166.

[18] الحلية 2/173.

[19] الحلية 2/173، الطبقات 5/143.

[20] الطبقات 5/127.

[21] المعرفة والتاريخ 1/474.

[22] الحلية 2/170.

[23] المعرفة والتاريخ 1/474.

[24] الطبقات 5/128، الحلية 2/167، المعرفة والتاريخ 1/474. مدار الرواية في الكتب الثلاثة على علي بن زيد بن جدعان وإن كان فيه ضعف إلا أن الأسانيد إليه كلها جيدة وهو شاهد عيان لا سيما والراوي عنه حماد بن سلمة وهو من أقوى من روى عنه وكان يدافع عنه ويرى قبول حديثه.

[25] تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 81-100 هـ ص 372.

[26] المصدر السابق ص 374 وتذكرة الحفاظ 1/55 وكتاب المحن لأبي العرب ص 398.

[27] السير 4/228.

[28] الحلية 2/164، المحن لأبي العرب ص 298 والطبقات 5/127 بإسناد جيد عن عمران.

[29] الطبقات 5/122-123 مع الإسناد فيه إلى الواقدي وكتاب المحن لأبي العرب ص 291.

[30] كتاب المحن لأبي العرب ص 300-301 وفي رواية جيدة في نفس الكتاب أن الذي شهد عليه بالجنون لإنقاذه هما عمرو بن عثمان بن عفان ومروان بن الحكم.

[31] الحلية 2/170-171 ومصادر أخرى.

[32] المحن لأبي العرب ص 300 بإسناد لا بأس به.

[33] الطبقات 5/127.

[34] المعرفة والتاريخ 1/472.

[35] ص 292-293.

[36] المعرفة والتاريخ 1/478.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply