مقدمة:
إنها زوجة الصحابي الجليل أبو الدرداء، الذي عُرف عنه الحكمة وحب الذكر والطاعة، وقد أخذت عنه حب الذكر والشغف به، حتى أصبح لِقلبها بمثابة الماء للأرض، والريِّ للظمآن، فلا تجد حياةَ فؤادها إلا حينما تذكر بلسانها أو تسمع بأذنها، وذلك كله مع حضور القلب ويقظة النفس.
قال ابن الجوزي- رحمه الله -: اعلم أن أم الدرداء اثنتان.. فالكبرى وهي الزوجة الأولى لأبي الدرداء، وتسمى خيرة بنت أبي حدرد، ولها صحبة ورواية عن النبي، ويقال إنها ماتت قبل أبي الدرداء.
التعريف بها:
وأم الدرداء الصغرى اسمها هجيمة بنت حُيي الوصَّابية، من قبيلة من حمير، وهي زوجة أبي الدرداء أيضًا، وحينما توفي عنها زوجها أبو الدرداء - رضي الله عنه- تقدم لخطبتها معاوية - رضي الله عنه - فأبت أن تتزوجه رغم ما ستكون فيه من نعمة ومال وجاهº ولكنها آثرت أن تموت وهي على ذمة أبي الدرداء حتى تلحق به يوم القيامة، وقد ذكرت في ذلك حديثًا سمعته منه في هذا الشأن، فقد قال ميمون بن مهران: \"خطب معاوية أمَّ الدرداء فأبت أن تتزوجَه، وقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: \"المرأة في آخر أزواجها\"، أو قال \"لآخر أزواجها\"، أو كما قال.. ولست أريد بأبي الدرداء بدلاً\"، وهكذا كان وفاؤها لزوجها بعد مماته، وحبها له قد دفعها إلى الرغبة في أن تكون زوجته في الآخرة كما حظيت بشرف زواجه منه في الدنيا.
وقد كانت أم الدراداء الصغرى إحدى عابدات الشام، والتي كان لها السبق في العبادة والصلاح، حتى قصدها الناس يتعلمون منها رقة القلب وخشوع الجوارح عند ذكر الله وقراءة القرآن، ولم تسمع أم الدرداء هذه من النبي- صلى الله عليه وسلم - ولكنها روَت عن زوجها أبي الدرداء حديثًا رواه عنها طلحة بن عبد الله بن كريز قال: حدثتني أم الدرداء قالت: حدثني سيدي- تعني زوجها أبا الدرداء- أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: \"من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به: ولك بمثل\"، قال أبو بكر البرقاني: وهذه أم الدرداء الصغرى، التي روت هذا الحديث وليس لها صحبة ولا سماع من النبي- صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من مسند أبي الدرداء.
حديثها عن زوجها:
وحينما حدثت أم الدرداء عن زوجها، فإنها تحدث بوقار واحترام شديد، يدل على تقواها ودينها وصلاحها، فالمرأة الصالحة توقِّر زوجها، وتتلطَّف في الحديث معه، ولا تؤذيه بلسانها، وقد ظهر هذا التوقير لزوجها الصحابي الصالح حينما كانت تحدث عنه فتقول: \"حدثني سيدي\"، والمرأة المؤمنة حينما تحترم زوجها فإنما تحترم نفسها، وتجعل لزوجها هيبةً في قلوب أبنائها، ومن ثَمَّ يستقر البيت وتنصلح الذرية، ويستجيب الأولاد لأيِّ نصح يصدر عن أبيهم، فتكون الطاعة منشؤها الاحترام وليس الخوف، وسببها الود والحب وليس السوط والعصا، والفيصل في هذا كله ما يراه الأبناء من سلوك أمهم مع أبيهم، وكيف تتعامل معه حينما تناديه وتجالسه وتأخذ مشورته وتتعامل معه في الأمور كلها.
عابدة لا تملٌّ ذكرَ الله:
عادة الإنسان أنه يحب التغيير، ويمل طول الأمد على حالة واحدة.. أما الصالحون الأبرار فلا يملون ذكر الله أبدًا، ولا تنقطع رغبتهم، ولا ينتهي نهمهم منهº لأنه حياةُ القلوب وغذاءُ الروح وشفاءُ النفوس من أمراضها وعللها.
قال عون بن عبد الله: كنَّا نجلس إلى أم الدرداء، فنذكر الله عندها، فقالوا: لعلنا قد أمللناك؟ قالت: تزعمون أنكم قد أمللتموني؟ فقد طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئًا أشفى لصدري ولا أحرى أن أصيب به الذي أريد من مجالس الذكر، وقال ميمون بن مهران: ما دخلت على أم الدرداء في ساعة صلاة إلا وجدتها مصلية، وقال يونس بن ميسرة بن حلبس: كنا نحضر أم الدرداء وتحضرها نساء متعبدات يقمن الليل كله، حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.
كم من نساء يجتمعن على لغو باطل ولهو عابث وغفلة لا خير فيهاº ولكنَّ هؤلاء النسوة قد جمعتهن الصلاة والقيام والدعاء والبكاء، هكذا فلتكن صحبة النساء، وعلى هذه الأعمال الصالحة فليكن اجتماعهن، وعلى ذلك الفكر وهذا الهم، فليكن لقاؤهن، فهذه الهمم العالية لا تجعل هناك أي ميدان للغيبة والنميمة والعشرة الفاسدة، وستغلق جميع الأبواب أمام الشيطان، فلا يجد إلى قلوبهن سبيلاً، ولا يستطيع أن يعبث بأفكارهن، ولا أن يضيع أوقاتهن، فقد عرفنَ قيمة الوقت ونفاسة الزمن وقدر العمر، فلا تضيع ساعة في غفلة، ولا يمرٌّ يومٌ بغير عمل صالح وعزمة خير.. ووصل الأمر إلى أن يستمع لها الرجال فيقرءون عليها، ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها يتفقه عليها وهو خليفة.
صبر المؤمنات:
وقال يحيى بن معين: ماتت الدرداء قبل أم الدرداء، فلما دفنتها قالت: \"اذهبي إلى ربك، وأذهب إلى ربي، فدخلت المسجد\".
إن المؤمن لا يستسلم لأحزانه، ولا يحمِّل نفسه من الآلام فوق ما تطيق، ولا يحب تجديد الأحزان حتى لا يوحي هذا بالاعتراض على القضاء والشكوى من القدر، وهكذا كانت أم الدرداء- رحمها الله - حينما أصيبت في ابنتها، فلم تملأ الدنيا صراخًا وعويلاً، ولم ترغب في اجتماع النسوة حولها للعزاء والتخفيف من المصاب الأليمº ولكنها توجَّهت إلى المحرابº حيث تأخذ زاد الصبر من الصلاة والدعاء والمناجاة: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ\" (البقرة: 135).
وكانت في نفسها متواضعة لا ترى لنفسها قدرًا ولا قيمةً، وإذا طلب أحدٌ إليها الدعاء لم ترَ أنها أهلٌ لذلك.. فقد قال إبراهيم بن أبي عبلة: قلت لأم الدرداء ادعي لنا: قالت: أوَ بلغتُ أنا ذلك؟ أي: هل بلغت درجةً يطلب مني فيها الدعاء؟
ومن كلماتها في الخشوع ووجل القلب عند ذكر الله وقبل الدعاء، ما رواه شهر بن حوشب عنها أنها قالت: إنما الوجل في قلب ابن آدم كاحتراق السعفة، أما تجد لها قشعريرة؟ قال: بلى، قالت: فادع الله إذا وجدت ذلك، فإن الدعاء يستجاب عند ذلك.
إن هذه وصفة مَن جرَّب احتراق القلب من خشية الله، فاستجاب الله له دعاءه، وهكذا كانت نصائح السلف صائبة مفيدةº لأنهم عاشوا حياة الإيمان بكل صدق وإخلاص، فذاقوا حلاوتها، فوصفوها للناس كما وجدوهاº طيبة الريح، حلوة المذاق، فيها شفاء للناس.
قلبها معلق بالقرآن:
عن أبي عمران الأنصاري قال: كنت أقود دابةَ أم الدرداء فيما بين بيت المقدس ودمشق، فقالت لي: يا سليمان، أسمع الجبال وما وعدها الله- عز وجل - فأرفع صوتي بهذه الآية: \"وَيَومَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ وَتَرَى الأَرضَ بَارِزَةً وَحَشَرنَاهُم فَلَم نُغَادِر مِنهُم أَحَدًا\" (الكهف: 47).
وقال سعيد بن عبد العزيز: أشرفت أم الدرداء على وادي جهنم- اسم وادٍ, من الأودية الصحراوية- ومعها إسماعيل بن عبيد الله، فقالت: يا إسماعيل، اقرأ. فقرأ: \"أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينَا لاَ تُرجَعُونَ\" (المؤمنون: 115).
فخرَّت أم الدرداء على وجهها، وخرَّ إسماعيل على وجهه، فما رفعا رءوسهما حتى ابتل ما تحت وجههما من دموعهما.. هكذا آيات القرآن، إذا مست قلوب المؤمنين، فإنها تهزها هزًّا، وتنفض عنها الركام الذي ران عليها، فتقشعر منه الجلودº إجلالاً لله، وتعظيمًا له، وتصديقًا بوعده ووعيده.
مواعظ أم الدرداء:
وقد كانت أم الدرداء الصغرى في مواعظها كثيرًا ما تذكر الموت، وتحذر الناس من فتنة الدنيا، وتنصح لهم بالاستعداد ليوم المعاد.. قال شيخ من بني تميم: حدثني هزان قال: قالت لي أم الدرداء: يا هزان، هل تدري ما يقول الميت على سريره؟ لا تغرنَّكم الدنيا كما غرتني، ولا تلعبنَّ بكم الدنيا كما لعبت بي، فإن أهلي لا يحملون عني من وزري شيئًا، ولو حاجٌّوني عند الجبار لحجوني، ثم قالت أم الدرداء: الدنيا أسحر لقلوب العابدين من هاروت وماروت، وما آثرها عبد قط إلا أضرعت خده (أي جعلته ذليلاً).
وقد كانت أم الدرداء حافظةً لكثير من الأحاديث التي روتها عن زوجها الصحابي أبي الدرداء، وقد روى عنها جمع غفير من رواة الحديث الذين تعلموا منها ونقلوا عنها.. قال أبو القاسم الطبري: يروي عن أم الدرداء الصغرى إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وزيد بن أسلم، وطلحة بن عبد الله بن كريز، وصفوان بن عبد الله بن صفوان، وعصمان بن حيان الدمشقي، وسالم بن أبي الجعد، ويونس بن ميسرة بن حلبس.
إن المرأة المؤمنة في الصدر الأول- زمن القرون الثلاثة الخيرة- لم يكن لها سهم واحد من أعمال الطاعةº ولكنها ضربت في كل غنيمة بسهم، فهي فقيهة في دينها.. محدثة تروي أحاديث نبيها- صلى الله عليه وسلم - وهي مضرب الأمثال في الصبر والرضا بالقضاء والقدر، وهي في صفوف المتهجِّدين بالليل والمستغفرين بالأسحار، وهي لا تفتر عن ذكر الله، ولا تمل قراءة القرآن الكريم، وهي بالنهار صائمة، وتمشي بين الناس بالنصيحة.. وهكذا فلتكن المؤمنة الصالحة الصادقة في كل زمان وكل مكان.. وهكذا فلتكن النساء:
فلو كان النساء كمثل هذي *** لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب *** ولا التذكير فخـرٌ للهـــلال
رحم الله أم الدرداء برحمته الواسعة، ورضي عنها وأرضاها..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد