الفقيد العلامة الشيخ محمود محمد شاكر - رحمه الله -


 

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليك - أبا فهر - ورحمة الله وبركاته، جزاء وقوفك طول عمرك، مدافعاً عن الإسلام، ولغته، وثقافته، وأحلك الله لأجل ذلك دار كرامته {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه، نورهم يسعى بين أيديهم، وبأيمانهم، يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا، إنك على كل شيء قدير}.

 

لقد أديت أمانة القلم في عصر هانت فيه الأهداف، وكثرت فيه الفتن، واستؤجرت فيه الأقلام لتحطب في حبال أهل \"التبشير\" و \"التغريب\" وليكون أناس من بني جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا أشد نكاية من جحافل الغزاة المستعمرين. وأزلفت إلى ربك شاهداً على نفسك وعلى قومك وعلى عصرك، وتركت سيرتك وأعمالك وتلاميذك معالم للسائرين، ومنارات للقابسين.

 

يتلفت المرء حوله فيكاد يوقعه ما يرى في براثن اليأس والإحباط، وذلك حين يشاهد هذه المعركة القائمة التي لا تهدأ على ثقافة العرب وعلوم الإسلام، حيث تكاد لغة العرب تصبح لغة ثانية أو ثالثة بين أبنائها، وبخاصة ونحن نعاني من نوع من الاستعمار جديد، هو الاستعمار الأمريكي، استعمار \"ريموت كونترول\" إن صحت التسمية.

 

ولكن الناظر في صفحات حياة العلامة محمود محمد شاكر يستعيد الأمل، ويحيا بين جنباته العنفوان الذي تحاول أن تميته الأحداث المحيطة، فيزداد إيماناً بما في أمته من عوامل البقاء، وما عندها من عناصر المجالدة والمجاهدة.

 

إن صاحبت محمود محمد شاكر في ما كتب فأنت معه في جِدِّ جادٍّ,، حتى وهو يسخر ويضحكº فأنت واجد في ضحكه القوة المدوية التي تتردد بين القمم الشواهق، لا في الدهاليز السرية المنقطعة التي لا يدري بها إلا بعض من يعيشون بطبع الخفافيش. اسمعه يصف نفسه بكلمات قليلة هي الصدق كله:

 

\"... منذ كنت على هذه الأرض، لا أطيق أن أسلك إلا السبل الواضحة البارزة، ولا ألوذ بالظلال المظلمة متخفياً إلى غاية أريدها، فذلك شيء أعافه وأنزه نفسي عنه في خاصِّ أموري وعامها، هكذا عشت، وأسأل الله أن يسددني على ذلك ما بقي فيَّ نَفَس يتردد\" [أباطيل وأسمار/322].

 

وقد صدق، فهكذا عاش، بعيداً كل البعد عن النفاق والمجاملة، نائياً بنفسه عن هذا الداء الذي يضرب كثيراً من أهل العلم وحملة الأقلام في هذا العصر، فيحملهم على تمطيط الكلام واللعب بمدلولاته، مما يسفر عن تضليل جماهير كثيرة من الناس ومن ليس عنده الحصانة العلمية من الأجيال المتعاقبة.

 

إن جزءاً كبيراً وممتعاً من التراث الذي خلفه محمود محمد شاكر يدور حول هؤلاء المسمين بالمثقفين وليسوا بهم، \"ولكنهم - إذا حصلت ما في صدورهم وقلوبهم وعقولهم - أصحاب ثرثرة وترترة وبربرة (وهي ثلاثة ألفاظ متقاربة في معاني الَّلغَط والإكثار والهذر، بيد أن الفروق بين ثلاثتها تدل على أن هذه اللغة الشريفة غاية في براعة التصوير بألفاظها الجامعة). وهم أيضاً، في حقيقة أمرهم مزامير مزعجة مختلطة الأصوات في المجالس، أو شجر مرٌّ الثمر مزروع على قوارع الطرق، أو أحلاسٌ مرذولة لكهوف المقاهي المظلمة أو المضيئة، ولكنها، على ذلك كله، أحلاس ذات فحيح أو ذات جعجعة، ثم لا شيء وراء ذلك، إلا ما قدَّر المقدِّر من تكاثرها وانتشارها وشيوعها في زماننا، بأسباب يعجب المرء كيف جاءت، وَلِمَ اتفقت؟ فإذا هي في زيّ أستاذ، أو مفكر، أو فيلسوف، أو أديب، أو شاعر، أو كاتب، أو فنان، أو ما شئت مما تعلم وترى وتسمع\". [أباطيل وأسمار/321].

 

حينما عثرت فجأة على اسم وأسلوب محمود محمد شاكر في أواخر الستينيات صغَّر لي أكثر من كنت قد قرأت لهم من الكتاب والمحققين، وزرع في نفسي أن لا أركن إلى كل ما يصادفني من قراءات ركون المسلِّم الضعيف، فأي أسلوب شامخ، وأي تتبع دقيق، وأي حرص على فائدة القارئ وإمتاعه، وأي إعجاب بلغة القرآن يثيره في نفسك وهو يتصرف بك بين تفصيل، وتبيين، واختيار، وتعليق، واستثارة لمكامن الجمال المطمورة في لغة العرب التي قيّض الله لها هذا المنقِّب الطٌّلَعة ينفض عنها غبار الإهمال، ويزيح عنها أطباق الجهل الذي تتعاوره الصحف والمجلات والمؤلفات في هذا الزمان.

 

هذا هو محمود محمد شاكر \"ناصر العربية\" في القرن العشرين وداحر أعدائها من المبشرين وتلاميذهم من الموتورين والجهلة.

 

وعلى الرغم من المعارك التي خاضها من أجل دينه وتراث قومه، والجراحات التي أصابته من ذلك، والكيد الظاهر والخفي الذي لجأ إليه هؤلاء الأعداء، والتجاهل الممقوت الذي لقيه هو و تلاميذه ومحبوه من أجهزة الدعاية والنشرº لكنه لم تلن له قناة، ولم تَهُن له عزيمة، ولم يجمجم أو يتلجلج في حجة، ولا أَبَهَ بعسف السلطات التي يتدرع بها أهل الباطل، ولا تردد عند التعبير عما في صدره مما يؤمن به. لقد تشبع من لغة العرب، وتضلع من أدبها، وفوق هذا وذاك انصبغت نفسه بشجاعة نادرة، وفروسية باذخة لعلها تحدرت إليه من (جبال الشعر العربي وقممها الشوامخ) (1).

 

لله دره، وما أصدق انطباق أبيات \"قيس بن رفاعة\" - وهي من هذه الأنغام المتحدرة من تلك القمم، والتي قالها مفتخراً - عليه:

 

مَن يَصلَ ناري بلا ذنبٍ, ولا تِرَةٍ, *** يصلى بنارِ كريمٍ, غيرِ غدَّارِ

 

أنا النذيرُ لكم مني مجاهرةً *** كي لا أُلامَ على نَهيٍ, وإِنذارِ

 

فإن عصيتم مقالي اليومَ فاعترِفُوا *** أَن سوفَ تَلقَونَ خِزياً ظاهِرَ العار

 

لَتَرجِعُنَّ أحاديثاً مُلَعَّنَةً *** لَهوَ المقيمِ وَلَهوَ المدلجِ الساري

 

مَن كانَ في نفسهِ حَوجَاءُ يطلُبها *** عندي فإني لَهُ رَهنٌ بإِصحارِ

 

أُقيمُ عَوجَتَهُ إِن كَانَ ذا عِوَجٍ, *** كما يُقَوِّمُ قِدحَ النبعةِ الباري

 

وصاحبُ الوِترِ ليسَ الدهرَ مُدرِكَهُ *** عندي، وإِني لَدَرَّاكٌ بأَوتَارِ

 

 

 

ولد العلامة محمود محمد شاكر في الإسكندرية في 10 محرم سنة 1327 للهجرة، الموافق أول فبراير سنة 1909 الميلادية.

 

انتقل إلى القاهرة عام 1909 عندما عين والده وكيلاً للأزهر. تلقى أول مراحل تعليمه في القاهرة، وفي سنة 1921 دخل المدرسة الخديوية الثانوية.

 

حضر دروس الشيخ سيد بن علي المرصفي في جامع السلطان برقوق، ثم قرأ عليه في بيته \"الكامل\" للمبرد، و \"حماسة أبي تمام\"، وشيئاً من \"الأمالي\" للقالي، وبعض أشعار الهذليين.

 

حصل على شهادة البكالوريا (القسم العلمي) عام 1925 م، التحق في سنة 1926 بكلية الآداب في الجامعة المصرية (قسم اللغة العربية) واستمر بها إلى السنة الثانية، حيث نشب خلاف شديد بينه وبين أستاذه طه حسين حول منهج دراسة الشعر الجاهلي، فترك الدراسة الجامعية.

 

هاجر عام 1928 إلى الحجاز فأنشأ بناء على طلب من الملك ابن سعود مدرسة جدة الابتدائية، وعمل مديراً لها، ولكنه ما لبث أن عاد إلى القاهرة أواسط عام 1929 م، حيث انصرف إلى الأدب والكتابة فكتب في مجلتي: \"الفتح\" و \"الزهراء\" لصاحبهما الأستاذ محب الدين الخطيب.

 

كان على صلة بالعلماء منذ كان صغيراً في بيت أبيه، فعرف السياسيين والعلماء الذين كانوا يترددون على والده، كما اتصل مباشرة بعلماء العصر أمثال: محب الدين الخطيب، وأحمد تيمور باشا، والشيخ محمد الخضر حسين، وأحمد زكي باشا، والشيخ إبراهيم اطفَيش، ومحمد أمين الخانجي، وغيرهم، كما تعرف على الشاعر أحمد شوقي. وكان على صلة خاصة بالكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي الذي بدأت علاقته به منذ بدأ مراسلته وهو في المدرسة الثانوية، وظلت هذه الصلة وثيقة إلى وفاة الرافعي عام 1937، وخير ما يعبر عن مكانة الرافعي عند محمود محمد شاكر مقدمته لكتاب محمد سعيد العريان عن حياة الرافعي.

 

وكان محمود محمد شاكر صاحب فكرة \"جمعية الشبان المسلمين\" ولكنه تركها حين رأى الصورة التي صارت إليها. كتب في كبريات الصحف والمجلات التي كانت تصدر حينذاك مثل: \"المقتطف\" و \"الرسالة\" و \"البلاغ\" و\"اللواء الجديد\"، وساهم في اختيار وترجمة مواد مجلة \"المختار\".

 

انقطع عن الكتابة في الصحف والمجلات بعد إغلاق الرسالة في سنة 1952، وتفرغ للعمل بالتأليف والتحقيق، فنشر ستة عشر جزءاً من تفسير الطبري، و \"طبقات فحول الشعراء\" لابن سلاّم الجمحي، و \"جمهرة نسب قريش\" للزبير بن بكار، وشارك في إخراج: \"الوحشيات\" لأبي تمام، و \"شرح أشعار الهذليين\".

 

نشر في عام 1952 قصيدته الرائعة: \"القوس العذراء\". وله كتاب: \"أباطيل وأسمار\" وهو مجموعة مقالات نشرت في مجلة الرسالة الجديدة تعليقاً على ما نشره لويس عوض في ما كتبه في جريدة الأهرام بعنوان: \"على هامش الغفران\" فبين محمود محمد شاكر تهافت كلام لويس عوض وجهله وافتراءه، وتكلم عما حل بالثقافة العربية الإسلامية على أيدي مرتزقة الغزو الفكري ودهاقنة التبشير.

 

ومن كتبه المهمة كتابه عن \"المتنبي\" ومقدمته الرائعة \"لمحة من فساد حياتنا الأدبية\"، وله مجموعة مقالات، نشرها في مجلة \"المجلة\" من نيسان 1969 - نوفمبر 1969 في مصر بعنوان \"نمط صعب... ونمط مخيف\" دراسة وشرحاً لقصيدة الحماسة:

 

إن بالشعب الذي دون سلع لقتيلاً دمه ما يُطلٌّ

 

وبين فيها منهجه في دراسة الشعر بعامة، والشعر الجاهلي بخاصة.

 

كان بيته موئلاً لدارسي التراث العربي والمعنيين بالثقافة الإسلامية يختلفون إليه من كافة أرجاء العالم الإسلامي، ويأخذون عنه، ويفيدون من علمه ومكتبته الحافلة التي يسَّرها للدارسين والباحثين.

 

أسس عام 1957 مكتبة دار العروبة لنشر كنوز الشعر العربي، ونوادر التراث، ووضعت هذه المكتبة تحت

الحراسة عندما اعتقل هو وشريكاه عام 1965.

 

اعتقل مرتين في عهد عبد الناصر، الأولى لمدة تسعة أشهر عام 1959، والثانية من 31 آب 1965 - 30 كانون الأول 1967.

 

كرمته الدولة، فمنحته \"جائزة الدولة التقديرية\" في الآداب عام 1981

 

 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

(1) - هذه إحدى عباراته التي كان يحلو له تردادها.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply