المشهد الأول:
\"سعيد بن جبير قائم يصلي في المسجد، ويطيل في القيام والركوع والسجود وفي الجلوس بين السجدتين.. كأحسن ما تكون الصلاة.
يجلس على بُعد أمتارٍ, منه مجموعة من الناس، منهم المنهال بن عمرو، وعمرو بن العلاء، ووفاء بن إياس، وإسماعيل بن عبدالملك.
رجل غريب يقترب منهم ينظرون إليه وهو يصلي.. \".
الرجل: من هذا الشيخ الأسود الذي يصلي هذه الصلاة الخاشعة.
المنهال: يبدو أنك غريبٌ يا أخي؟
الرجل: نعم.. أنا تاجرٌ، وعابرُ سبيلٍ,.. فمن هذا الرجل الأسود؟
عمرو: هذا هو العالم الجليل سعيد بن جبير بن هشام، أحد أعلام التابعين في الكوفة.
الرجل: ما أحسن صلاته!
عمرو: كيف لا يحسن صلاته هكذا؟ وهو تلميذ عبدالله بن عباس- رضي الله عنهما- وتلميذ عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما؟
المنهال: قال له أستاذه العباس يومًا: حدِّث، فقال له سعيد: أأحدِّث وأنت هاهنا؟
عمرو: فقال له ابن عباس: أليس من نعمة الله عليك أن تحدِّث وأنا شاهد، فإن أصبتَ فذاكَ، وإن أخطأتَ علَّمتك.
الرجل: هنيئًا له، فقد أحسن اختيار مشايخه: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، - رضي الله عنهم - جميعًا.
عمرو: ولمّا عمي عبد الله بن عباس، صار سعيد يكتب في الفتيا.
المنهال: وكان سعيد قد أخذ الكثير من العلوم عن ابن عباس، أخذ القراءة، وسمع منه التفسير، وأكثر من الرواية عنه.
الرجل: هنيئًا له.
المنهال: وأنا رويت القراءة عنه.
عمرو: وأنا كذلك، فهو أستاذي وأستاذ المنهال هذا، وأخذ عنه العلم خلقٌ كثير.
المنهال: وأخذوا عنه الزهد والتقى والورع والصدق أيضًا.
عمرو: ولكنهم لم يبلغوه فيها، فهو يحبّ مكارم الأخلاق، ويتخلق بها، وأين نحن منه.
عمرو: (ينظر إلى وفاء بن إياس ويقول له): لماذا لا تتكلم يا وفاء؟ أليس لك من اسمك نصيبٌ؟
وفاء: بلى... قال لي سعيد في رمضان: أمسك عليّ القرآن، فما قام من مجلسه حتى ختمه.
إسماعيل: وأمَّنا سعيد بن جبير في شهر رمضان، فقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبدًا.
الرجل: ما شاء الله!.
وفاء: وسمعت سعيدًا يقول: قرأت القرآن في ركعة في البيت الحرام.
الرجل: الله أكبر!.
إسماعيل: وسأل رجلٌ سعيد بن جبير أن يكتب له تفسير القرآن، فغضب سعيد وقال له:
لأن يسقط شِقّي أحبٌّ إليَّ من ذلك.
الرجل: لماذا؟
المنهال: لشدّة خشيته من الله، أن يقول في كتابه ما ليس بحق.
عمرو: قال العلماء:
كان من أعلم التابعين بالطلاق: سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالحجّ: عطاء.
وأعلمهم بالحلال والحرام: طاووس.
وأعلمهم بالتفّسير: أبو الحجاج مجاهد بن جبر.
وأجمعهم لذلك كله: سعيد بن جبير.
الرجل: ما شاء الله.. ما شاء الله.
المنهال (للرجل): اسمع يا أخي التاجر مقولة سعيد.
عندما كان سعيد بن جبير في أصبهان، كانوا يسألونه عن الحديث، فلا يحدّث، فلمّا رجع إلى الكوفة حدّث، فقالوا له: يا أبا محمد، كنتَ بأصبهان لا تحدّث، فما بالك الآن وأنت في الكوفة تحدّث؟
فقال لهم سعيد: انشر بَزَّكَ حيث يُعرَف.
الرجل (صائحًا): لقد صدق سعيد.. انشر بزَّك حيث يُعرف.. صدق.
المنهال (للرجل): اخفض صوتك، فأنت في المسجد.
الرجل: وسعيد ما يزال في صلاته.. لقد صدق (بصوت خفيض): انشر بزَّك حيث يعرف.
المشهد الثاني:
\"سعيد بن جبير بين عدد من تلاميذه طلبة العلم الشرعي: القاسم الأعرج، ووهب بن إسماعيل، وداوود بن أبي هند، وسواهم.. \".
سعيد: (كأنه يتابع حديثه) فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: \"سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله\" (أخرجه الحاكم)، أقول: عندما قال الرسول هذا الكلام المزلزل، لم يقله عبثًا، وحاشاه من العبث، وما ينبغي له أن يعبث وهو معلم البشرية وهاديها في ظلمات الحياة، وما ينبغي لنا أن نأخذ كلامه - عليه الصلاة والسلام - من أجل أن نتعلمه ونحفظه ونعلّمه الناس، ونماري به العلماء، ونباهي به في المجالس، ثم لا يكون له ظلّ في واقعنا وفي حياتنا المعيشة.
القاسم: نحن لم نقل هذا يا شيخنا، وما ينبغي لنا أيضًا أن نتركه يمرّ بخيالنا لحظة، إننا نتعلم حديث الرسول القدوة لنقتدي به، ونعمل بمقتضى كلامه، ولكن..
سعيد: (مقاطعًا) ولكن ماذا يا بني؟
وهب: إنه الحجاج يا سيّدنا!..
سعيد: (بصرامة وقوة) وليكن.. فما يجوز للحجاج ولا لسواه من الطغاة أن يعطّل هديًا من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
القاسم: ولكن الحجاج يا مولانا ليس كسائر الطغاة.. إن سيفه دائمًا يسبق لسانه.
سعيد: لا يا أبنائي.. الله أكبر من الحجاج ومن طواغيت الأرض جميعًا.. ولو أن كلّ امرئ خاف على حياته من سيف الطاغية، لتعطلت الحياة، وانحجب النور، وعمّ ظلام الطغيان.. الله أكبر من كل كبير يا أبنائي، ?وَمَا كَانَ لِنَفسٍ, أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذنِ اللهِ كِتَابًا مٌّؤَجَّلاً? (آل عمران: 145).
داود: نحن معك يا شيخنا في كل ما تقول، ونحن طوع أمرك، فمرنا بما تشاء، ولسوف ترانا نتسابق على تنفيذه، لا يتخلف منَّا رجلٌ واحد.
القاسم: إنما قلت ما قلت أنا خوفًا على حياتك يا سيدي.
سعيد: ?إِذَا جَاءَ أَجَلُهُم فَلاَ يَستَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَستَقدِمُونَ? (يونس: 49).
الجميع: صدق الله العظيم.
داود: إننا ما نزال نحفظ قول عنترة الذي طالما كرّرتَه على مسامعنا في دروسك يا سيّدي:
تأخّّرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجد *** لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدّما
سعيد: بارك الله فيكم يا أبنائي، فهذا ظني بكم، وأنا أعرف ما كنتم تقصدون بكلامكم.. إنه خوفكم عليّ، وإشفاقكم من سيف الحجاج أن يقطع عنقي.. ولكنني أردت أن أقول لكم: إنني أقلٌّ من أن أكون شهيدًا، فهذه منزلة لا يرقى إليها إلا العُبّاد الصالحون، وأين أنا منهم.
وهب: أنت منهم يا سيّدي.. أنت سيد التابعين.
سعيد: أستغفر الله يا بنيّ.. أنا أَعرَفُ بنفسي منكم.. ثم إذا كنتُ كذلك، فلِمَ تستكثرون عليّ الشهادة؟ اللهم إلا إذا كنتم تَرَونَني غيرَ أهلٍ, لها.
القاسم: مَعاذ الله يا سيّدي..!
وهب: أستغفر الله يا سيّدي..
داود: أنت سيّد العُبّاد والزّهّاد يا سيّدي.
سعيد: إذن فاسمعوا ما أقوله لكم..
إن طغيان الحجاج قد تجاوز الحدود، وصار واجبًا على كلِّ قادرٍ, على حمل السلاح أن يحمل السلاح في وجهه.. وها هو ذا عبد الرحمن بن الأشعث قد أعلن الثو
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد