ابن تيمية في سجون أعدائه:
ذكرنا في المقال السابق (المحنة) أن طرفيها الشريكين فيها هما: (الدولة - المعتزلة) وكان لهما مصلحة في ذلك. وسنرى في الحديث عن محنة شيخ الإسلام ابن تيمية أن أطرافاً ثلاثة وقعوا فيها، ولكن الذي بدأها وأدارها هم (المشايخ)، أما الدولة فلم تكن طرفاً في البداية، وإن انزعجت أحياناً من مطالب ابن تيمية في الإصلاح.
ومع أن الأمة الإسلامية تتميز عن الأمم الأخرى بعلمائها لأنهم ورثة الأنبياء، في القيام بحق الدعوة وإصلاح الخلق، والعلماء العاملون كثر ولله الحمدº ولكن يوجد في كل عصر مَن تسفلُ همته فيتعلق بأذيال الدنيا، أو يأكل الحسد قلبه، فينشغل بتشويه سمعة العلماء المصلحين، ويحرض أهل الحكم عليهم، والدولة الظالمة تجدها فرصة، بل هي تنتظر مثل هذه الفرصة، ولنضرب بعض الأمثلة من العصور القريبة:
\"بعد أن تسلط (محمد علي باشا) على مصر، قلب ظهر المجن للذين ساعدوه في الوصول للحكم، وأوقع بنقيب الأشراف عمر مكرم، ولكنه لم يستطع ذلك إلا بمساعدة بعض المشايخ من الأزهر الذين كتبوا كتاباً في حق عمر مكرم ليرسله محمد علي إلى دولة الاستانة، يذكرون فيه أنه أراد إيقاع الفتن في العساكر، وأنه كاتب الأمراء المصريين ليأخذوا مصر على حين غفلة... وعندما طلبوا موافقة بعض المشايخ على كلامهم رفضوا وقالوا: هذا كلام لا أصل له، وامتنع الشيخ الطحطاوي مفتي الحنفية، يقول المؤرخ الجبرتي: \"والحاصل لهم على ذلك كله الحظوظ النفسانية والحسد، مع أن السيد عمر مكرم كان ظلاً ظليلاً عليهم وعلى أهل البلدة، ولم تقم بعد خروجه من مصر راية، ولم يزالوا بعده في انحطاط وانخفاض\"[1] وعندما وقع خلاف بين الشيخ عبد الله الشرقاوي وشيخ الأزهر وبعض المشايخ حرض هؤلاء محمد علي باشا، فألزم شيخ الأزهر البقاء في داره، لا يخرج حتى لصلاة الجمعة، يقول الجبرتي عن سبب ذلك: \"أمور وضغائن ومنافسات بينه وبين إخوانه، فأغروا به الباشا فامتثل الأمر، ولم يجد ناصراً، وأهمل أمره... \"[2].
ومثال آخر حدث مع الإمام الشوكاني، فقد اتصل هذا العالم بإمام اليمن المنصور ورغّبه في إقامة العدل ورفع المظالم والمكوس، فاستجاب بعد طول مداورة، وأصدر أمره في ذلك للقضاة والمسؤولين، يقول الشوكاني: فقامت شياطين المقلّدة، وفراعين البدوان وخونة الوزراء في وجه هذا الأمر وهذا ليس غريباً، ولكن العجب من جماعة أهل العلم المتكئين على أرائكهم، صاروا ينكرون هذا الأمر مع اعترافهم بأن هذا هو الحق، ولكنهم يتركون تدبير الشرع ويعودون لتدبير الدولة، فاجتمع من جميع ما قدمت ذكره تشوش خاطر الإمام، فتوقف الأمر[3].
والحقيقة - كما ذكرنا سابقاً - أن الدولة الفاسدة الظالمة لابد أن تستعين بأحبار السوء لضرب المصلحين، وسلب حرية الناس، وممارسة أقسى أنواع الاستبداد السياسي والفكري.
ولنعد إلى ابن تيمية لنرى ظروف المحنة، وكيف بدأت ولماذا؟.
عصر ابن تيمية:
عاش شيخ الإسلام في عصر تميز بالاضطراب السياسي وكثرة الانقلابات التي يقوم بها الحكام (المماليك) على بعضهم، وهذا لا ينسينا أنهم تحملوا عبء الدفاع عن بلاد الشام ومصر، وصد غارات المغول وإنهاء الاحتلال الصليـبي للساحل. وعاش ابن تيمية خطر المغول الذي اكتسح العالم الإسلامي، فسقطت بغداد عام 656 وسقطت معها الخلافة العباسية، وفي هذه الفترة أيضاً سيطرت الباطنية والاسماعيلية على شمالي بلاد الشام، وبثوا الرعب باغتيالهم العلماء والقادة، وسيطر النصارى على جبل لبنان وتعاونوا مع الصليبيين.
وأما من الناحية العلمية والعقدية فقد أحدث الفلاسفة (ابن سينا والفارابي وأمثالهم) اضطراباً فكرياً وعقدياً في طبقة ممن ينتحلون العلم، كما أن علم الكلام لم يقدم خيراً للمسلمين، بل جعلهم يهيمون في الجدل والمناظرات، وانحدر التصوف إلى وحدة الوجود، وتعظيم الشيوخ، وأفسدوا التربية باعتمادهم منهج الاتباع الأعمى، ورغم وجود علماء كبار في فقه المذاهب الأربعة كان لهم أثر طيب في حفظ الشريعة إلا أن التعصب المذهبي كان قد استحكم، وتقوقع كل مذهب حول نفسه، وتحول الأمر إلى خصومات ومنافرات.
تصدى ابن تيمية لكل هذا الخلل ولكل هذه الانحرافات، واعتبر الأمة في حالة خطر، فلا ينبغي النكوص والتأخر عن الميدان، وجعل همه إصلاح الأوضاع من كافة جوانبها، ففي مجال الإصلاح السياسي كتب عن واجبات الدولة المسلمة، ووظائف الحاكم، وتكلم عن الظلم الاجتماعي وحق الفقراء في أموال الأغنياء، وألف في ذلك (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) ورسالة (الحسبة) وحاول إقناع أمراء المماليك بمشروعاته عن الحكومة القوية، وكانت له صلات حسنة ببعض الأمراء، كما شارك في مقاومة الأخطار الخارجية وتعبئة الأمة للجهاد، بل نهض محرضاً الناس وذهب إلى مصر لإقناع السلطان بالدفاع عن بلاد الشام، وتوج هذا بالانتصار في معركة (شقحب) التي شارك فيها.
وفي مجال الإصلاح العقدي والتربوي والعلمي، فقد ردّ على علماء الكلام وكتب (درء تعارض العقل والنقل) ورد على الفرق المنحرفة في (منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية) وكتاب (الإيمان) وحارب خرافات الصوفية وترهاتها، وأوضح طرق تزكية النفس من الكتاب والسنة وأخلاق السلف، والخلاصة أنه - رحمه الله - كان كأنه منذر جيش، وقد سأله أحد تلامذته أن يؤلف في الفقه فقال: الفقه أمره يسير، ولكن لما رأيت اضطراب الناس في العقيدة، أحببت توضيح منهج السلف في ذلك.
كل هذا الجهد الدعوي والعلمي والتربوي كان من خلال:
1 - التدريس بالمدرسة الحنبلية في دمشق.
2 - التدريس في المساجد.
3 - كانت له حلقة في منزله.
4 - مراسلاته مع تلاميذه في كافة الأقطار فيجيب في مسائل العقيدة والسياسة والتربية والفقه.
5 - قام بدور المحتسب لمحاربة المنكرات، فكان يدور ومعه رجال على حوانيت الخمر، ويعاقب الشاربين[4]، واصطحب نفراً من أصحابه ليقطعوا صخرة كان الناس يزورونها وينذرون عندها.
هذا الهم الإصلاحي، وهذا الالتفاف من العلماء والصلحاء والجند والأمراء وسائر العامة حول الشيخ[5]، وقيامه بأعباء الدفاع عن المسلمين تجاه المغول بجرأة وشجاعة، فصار له ذِكرٌ حسن بين الناس، كل هذا حرك الحسدة من المشايخ كما حرك رؤوس الفساد الذين يبيعون الأوطان في سبيل منصب أو مال، وفي أجواء المؤامرات السياسية، والبعد عن مشاريع البناء الكبيرة، والبعد عن التجديد بشموليته، يعتاد ضعاف النفوس وضعاف العقول على الكيد والمؤامرات وخاصة إذا ظهر فيهم من يخرج عن مألوفاتهم ورسومهم وسكوتهم عن المنكرات.
وهناك طرف آخر سيذكره ابن تيمية أثناء محنته، وهذه الفئة لها صلة بالعدو الخارجي (المغول) ويعملون لصالحه ويريدون القضاء على الدولة ورجال الإصلاح فيها، ثم جاء دور الدولة التي قررت أخيراً أن تتخلص من هذا المصلح، رغم معرفتها الأكيدة أن الشيخ ليس له أغراض في (الحكم) لا لنفسه ولا لتلامذته ولكنها ضاقت ذرعاً في إحياء العدل الإسلامي.
المحنة:
اعتقل ابن تيمية للمرة الأولى عام 693 هـ في حادثة عساف النصراني من بلدة السويداء جنوبي دمشق، وقد اتهم بشتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه أنكر التهمة واستجار بأمير آل علي، ولكن ابن تيمية قاد وفداً إلى الأمير عز الدين ايبك، فكلموه وقُدم عساف للمحاكمة، وعلى أثر ذلك كتب ابن تيمية (الصارم المسلول على شاتم الرسول)[6] غير أن أعداء ابن تيمية نسبوا إليه استغلاله لهذه الحادثة لإثارة العوام، وتسببوا في سجنه.
وفي عام 698 كتب ابن تيمية جواباً على مسألة سئل عنها من مدينة حماة حول الصفات، فضاقت نفوس المتعصبين، فأخذوا الجواب وسعوا به إلى القضاة والفقهاء، واتهموه بالتجسيم[7] وهم يعلمون براءته ولكنهم لا يستطيعون اتهامه بأمور أخرى لزهده وترك المزاحمة على المناصب، وأمر قاضي الحنفية بالنداء في البلد ببطلان العقيدة التي كتبها ابن تيمية، يقول الشيخ علم الدين البرزالي: \"وتكلموا في حقه بأنواع الأذى، وبأمور يستحي الإنسان من الله - سبحانه - أن يحكيها، فضلاً عن أن يختلقها ويلفّقها، فلا حول ولا قوة إلا بالله\"[8].
هذه هي البدايات، أما التحقيق والسؤال والبحث والتنقيب ثم السجن بغير حق، فقد كان أول ذلك في سنة (705 هـ) حين جاء مرسوم من السلطان بمصر، بإحضار ابن تيمية وسؤاله عن اعتقاده، فتم ذلك بحضور القضاة من المذاهب الأربعة والمفتين والمشايخ ممن له حرمة وبه اعتداد، قال ابن تيمية عن ذلك المجلس: \"أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه سلف الأمة، ثم ذكرت لهم جملاً من العقيدة، وطلبت إحضار العقيدة الواسطية التي كتبتها قبل سبع سنوات... \"[9].
ثم كان مجلس ثان وثالث لمناقشة (الواسطية) ويبدو أن المتعصبين وزعماء الصوفية في مصر كانوا يحرضون السلطان على الشيخ، فوصل كتاب من السلطان في هذه السنة (705) بإحضار الشيخ إلى القاهرة، وقد أشار نائب السلطان في دمشق على ابن تيمية بألا يذهب إلى مصر، وهو يكاتب السلطان، ولكن الشيخ امتنع وتوجه إلى مصر لاعتقاده أن في هذا مصالح كثيرة.
وفي اليوم الثاني لوصوله القاهرة عقد له مجلس المحاكمة، وكانت التهمة مسألة الصفات (إنه يقول إن الله فوق العرش حقيقة) وعندما بدأ الشيخ بالجواب قال له القاضي: أجب، ما جئنا بك لتخطب، فقال الشيخ: من الحاكم فيّ؟ قيل: ابن مخلوف قال: كيف يحكم فيّ وهو خصمي؟ وغضب غضباً شديداً فقرروا حبسه في القلعة، وبقي فيها سنة ونصف، حتى جاء الأمير مهنا بن عيسى وأخرجه من السجن بعد أن استأذن في ذلك، وبقي الشيخ في القاهرة يلقي الدروس ويعلم الناس ولكن الصوفية الغلاة من الاتحادية وغيرهم ضاقوا ذرعاً بالشيخ، وشكوه إلى السلطان، فصدر القرار بإخراجه إلى الشام، ثم بدا لهم أن يعيدوه إلى القاهرة، ثم قرروا أن يُسجن في الاسكندرية. وبقي في سجن الاسكندرية ثمانية أشهر، وفي هذه الفترة عاد السلطان الناصر قلاوون بعد أن كان منفياً في الكرك، وكان محباً للشيخ، مكرماً له، فأخرجه من السجن واستقبله استقبالاً حافلاً في القلعة في القاهرة.
بقي ابن تيمية في مصر حتى عام (712 هـ) ثم عاد إلى دمشق ليستأنف الدروس ونشر العلم، وفي عام (718) حُذر من فتواه بشأن الطلاق (طلاق الثلاثة يعتبر واحدة) وقوله (بالتكفير عن الحلف بالطلاق) وفي عام (720) سجن في قلعة دمشق بسبب مسألة الطلاق، وفي عام (726) أثيرت مسألة شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وظفروا بجواب كان قد كتبه من سنين، وفيه المنع من شد الرحال، إلا للمساجد الثلاثة، فجاء أمر السلطان بأن يسجن في قلعة دمشق، وحبس بعض تلامذته، وأجلّهم ابن القيم - رحمه الله -، وأوذي جماعة، واختفى آخرون وبقي الشيخ في القلعة سنتين وثلاثة أشهر، كتب فيها شيئاً من تفسير القرآن، ثم مُنعت عنه الأقلام والأوراق، وأخرجت الكتب، وتوفي بعدها بقليل في ليلة الاثنين عشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، - رحمه الله - رحمة واسعة، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
هذه خلاصة موجزة وسريعة عن محنة الشيخ، ولنا معها الوقفات التالية:
أولاً: من الملاحظ أن المشايخ في الشام ومصر هم الذين كانوا يفتشون عن كلمات أو فتاوى الشيخ، ليظفروا بشيء يوغرون به صدر الدولة، ويقولون: إن هذا الشيخ يفسد العامة، وهو شخص خطير، والدولة وخاصة مثل دولة المماليك لا تعلم بموضوع (الأسماء والصفات) ولا موضوع الطلاق أو شد الرحال، ولكن بعض المشايخ لضيق صدورهم وتعصبهم لمذاهبهم العقائدية والفقهية، جعلهم لا يحتملون مخالفاً لهم، فكيف إذا كان قد أصبح محط آمال الجماهير وهو الذي يدافع عن قضاياها الاجتماعية، وهو الذي يحشد الجيوش لمدافعة التتار، ويقاتل بنفسه، فلابد أن يكون الحسد قد أخذ مأخذه بينهم، ويلاحظ على هؤلاء أنهم يبحثون عن اتهام، فيحملون كلام الشيخ ما لا يحتمل، ويقولون يقصد كذا وكذا، مثل اتهامه (بالتجسيم) وهذه تهمة تولد النفور عند بقية العلماء الذين لم يخوضوا في هذه الفتنة وكذلك الحكام عندما يظنون أن الأمر يصل إلى العامة، والتفاف الجماهير فإنهم يصدقون كل وشاية.
وهكذا يفعل أمثالهم في هذه السنوات الأخيرة، حين يبحثون عن الكتب، لعلّ فيها كلمة أو عبارة يمكن أن يتهم صاحبها، بل ويفتشون عن الكتب التي ألفها قبل عشرين سنة أو عن شريط كان قد سجل له قبل سنوات، قال فيها كلمة أخطأ أو أصاب والتهمة هنا ليس التجسيم، فالدول لا يهمها هذا، ولكن التهمة هي (الخوارج) وهم يعلمون حساسية الدول من هذه التهمة أو من تهمة (التكفير) فيتهمون دعاة علماء ظلماً وعدواناً وهم بريئون من هذه التهم بلا شك.
ثانياً: كان بعض رؤوس الدولة أرحم وأعقل من المشايخ، ففي مجالس السؤال في دمشق عام (705) حين سألوه عن (الواسطية) وفتشوا فيها كلمة كلمة، يقول ابن تيمية: \"ولما رأى هذا الحاكم العدل تمالؤهم وتعصبهم ورأى قلة المعاون منهم والناصر، وخافهم قال: أنت قد صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فنقول: هذا اعتقاد أحمد يعني: والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم، قلت: ما جمعت إلا عقيدة السلف\"[10].
فهذا الحاكم نائب السلطان في دمشق أراد أن ينهي الموضوع ويبرئ ابن تيمية، وكان الذي أخرجه من سجن مصر الأمير مهنا بن عيسى، والذي أخرجه مرة ثالثة من سجن الاسكندرية السلطان الناصر قلاوون.
ونسمع اليوم من بعض كبار موظفي الحكومات التي سُجن فيها الدعاة من يقول لهم: نحن أرحم بكم من المشايخ الذين يطالبون بقتلكم، ومن يقول: نحن نكتب تقارير عنكم إلى الدولة ولكن عندكم (خمسون شيطاناً) داخل الدعوة الإسلامية من يكتب لهم.
ولابد من القول هنا أن بعض فضلاء العلماء كذلك كانوا ممن يحاولون إبعاد ابن تيمية عن المحنة والسجون، ويحاولون نفي التهم عنه، وأعني من غير محبيه وتلامذته ممن يخالفه ولكنه يحترم العلم ويحب الإنصاف والعدل وليس عنده تعصب وحقد.
ثالثاً: يضطر العالم في مثل محنة ابن تيمية أن يبين عن نفسه وأن يُظهر أعماله، ويتكلم عما قام به من الدفاع عن الحق أمام اتهامات باطلة يقول ابن تيمية: \"أنا أعلم أن أقواماً كذبوا عليّ، وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمت بكلام احتجت إليه مثل أن قلت: من قام بالإسلام في أوقات الحاجة غيري؟ ومَن الذي أوضح دلائله وبينه وجاهد أعداءه وأقامه لما مالَ حيت تخلى عنه كل أحد؟ ولا أحد ينطق بحجة، ولا أحد يجاهد عنه، فإن كان هؤلاء يطمعون فيّ، فكيف يصنعون بغيري؟! \"[11].
وكلام الشيخ هو الواقع، وليس مدحاً لنفسه، ويحق للعلماء والدعاة الذين في السجون أن يقولوا للذين آذوهم: من وقف في وجه الرافضة والعلمانيين أيام كنتم صامتين؟ ومن وقف في وجه الانحراف العقدي أيام كنتم ساكتين، ومن الذي حمل هموم الأمة وأنتم تبحثون في الكتب عن أخطاء الدعاة؟ هلاّ فوقتم سهامكم إلى أعداء الإسلام يوماً من الدهر؟.
رابعاً: كشف ابن تيمية من خلال هذه المحنة ومن خلال مناقشاته وأجوبته عن أمور خطيرة، وهي وجود طرف آخر في المحنة له مصلحة بذلك، يقول مخاطباً أحد الأمراء: \"وكنت قد قلت له: الضرر في هذه القضية ليس عليّ، بل عليكم فإن الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه ويبغضون أولياءه، والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من التتار ونحوهم، وهم دبروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار وبعضهم مقيم بالشام وغيره، ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن أذكرها، فاستعجب وقال: يا مولانا: ألا تسمي لي أنت أحداً، قلت: وأنا لا أفعل ذلك فإن هذا لا يصلح[12].
وقلت له: هذه القضية أكبر مما في نفوسكم، فإن طائفة من هؤلاء الأعداء ذهبوا إلى بلاد التتار، قال: إلى بلاد التتار؟! فقلت: نعم، هم من أحرص الناس على تحريك الشر عليكم... \"[13]، وقلت: هؤلاء الذين بمصر من الأمراء والقضاة والمشائخ إخواني وأصحابي وما زلت محسناً إليهم، ولكن لبَّس عليهم المنافقون أعداء الإسلام، وأنا أقول لكم، إن في المؤمنين من يسمع كلام المنافقين[14].
مَن هؤلاء المنافقون الذين يذكرهم ابن تيمية؟، لابد أنهم من أبناء جلدتنا، ممن باعوا دينهم وسيخسرون دنياهم وليس عندهم مانع من بيع الأوطان وخسارة البلدان في سبيل مطامع دنيوية، ولاشك إنهم يكرهون الإسلام، فلما جاء الوقت المناسب أعلنوا ذلك، ألم يظهر الآن أناس يفضلون النصارى واليهود على المسلمين، ويحرضون أمريكا على الدعاة والعلماء، ويفرحون بإيذاء الدعاة والعلماء ويتهمونهم بالإرهاب والأصولية؟.
خامساً: ذكر شيخ الإسلام أن الظلم الذي وقع عليه لا يجوز شرعاً \"فلما ذهبوا بي إلى الحبس، حكم بما حكم به، فهل يقول أحد من اليهود أو النصارى - دع المسلمين - أن هذا حبس بالشرع، فضلاً عن أن يقال بشرع محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحاكم وذووه دائماً يقولون: فعلنا ما فعلنا بشرع محمد بن عبد الله، وهذا الحاكم مخالف لشرع الله من أكثر من عشرين وجهاً، وبأي ذنب حُبس إخوتي في دين الإسلام غير الكذب والبهتان ومن قال: إن ذلك فُعل بالشرع فقد كفر بإجماع المسلمين[15]. وفي وجه هذا الظلم الفادح الذي تعرض له ابن تيمية يتمنى أن يعامل في سجنه كما يعاملون النصارى يقول: \"ثم النصارى في حبسٍ, حسن، يشركون فيه بالله، ويتخذون فيه الكنائس، فيا ليت حبسنا كان من جنس حبس النصارى! ويا ليتنا سوينا بالمشركين وعباد الأوثان، بل لأولئك الكرامة ولنا الهوان، فهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بهذا؟ [16] أليس هذا ما يراه الدعاة في سجون الدول العربية، أن يعامل المجرمون والحشاشون والجواسيس بأفضل مما يعامل الشباب المسلم الطاهر.
سادساً: كما يشكو ابن تيمية من أنه لا يدري ما هو ذنبه، وعلى أي شيء سجن، فلم يحاكم، ولم يحضر مجلس حكم ولا ادعى عليه بشيء[17] ومع ذلك فهو يذكر في رسالة إلى نائب السلطنة في دمشق، ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله، وأنه لم يقبل شيئاً من الكسوة السلطانية، ولا تدنس بشيء من ذلك[18] وهو يعتبر هذه المحنة من سنن الله - تعالى - إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه، فيحق الله الحق بكلماته.
سابعاً: ورغم هذا الظلم، وهذا السجن المتلاحق، فإن صدر ابن تيمية كان واسعاً، وقلبه لا يحمل الحقد، فعندما لاحت له فرصة له للإيقاع بالذين أذوه وسجنوه رفض معاقبتهم وقال للسلطان: هؤلاء العلماء لن تجد مثلهم: \"وابن مخلوف لو عمل مهما عمل، والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين، والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم، فإنه - سبحانه - لا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله\"[19].
----------------------------------------
[1] - علي بن بخيت الزهراني: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين/616.
[2] - المصدر السابق/609.
[3] - المصدر السابق/619.
[4] - ابن كثير: البداية والنهاية 14/10.
[5] - ابن العماء: شذرات الذهب 8/147.
[6] - البداية والنهاية 13/335.
[7] - التهم جاهزة دائماً، وهذه كانت تهمة خطيرة يومها، وأما اليوم فالتهمة المناسبة ضد الدعاة هي (الخوارج).
[8] - العقود الدرية في مناقب ابن تيمية/202، وقارن بما يلفقه حزب (الولاة) للدعاة والعلماء العاملين من أمور من الأذى والكذب الصريح.
[9] - الفتاوى 3/161.
[10] - الفتاوى 3/169.
[11] - العقود الدرية/209.
[12] - الفتاوى 3/215.
[13] - المصدر السابق/217.
[14] - المصدر السابق/216.
[15] - الفتاوى /253 - 254.
[16] - الفتاوى 3/254.
[17] - العقود الدرية/331.
[18] - المصدر السابق/251.
[19] - الفتاوى 3/271.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد