سلسلة علماؤنا سعيد بن جبير ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

قصته مع الحجاج بن يوسف:

هرب سعيد بن جبير من وجه الحجاج بعد نـهاية حركة ابن الأشعث التي شارك فيها، إلى أصبهان ثم إلى أذربيجان ثم إلى مكة حيث قبض عليه. واستمر هذا الهرب والتخفي كما مر معنا وقتاً طويلاً ما بين عامي 82 هـ وهو انتهاء الحركة وسنة 95 هـ وهي سنة قتله عن عمر يقارب الستين عاماً، فهو يقول عند بكاء ابنه بعد القبض عليه: \"ما بقاء أبيك بعد سبعة وخمسين عاماً\" [1]. وهو يقول كما مر معنا \"لقد فررت حتى استحييت من الله\" [2]، وفي رواية ضعيفة يقول عندما سئل عن اختفائه \"خرجت وامرأتي حامل، فجاء الذي في بطنها وقد خرج وجهه\" [3].

بدأ القبض عليه بتوجيه من الوليد بن عبد الملك وبتحريض من الحجاج، فقد ورد بإسناد صحيح في أنساب الأشراف عن عمرو بن قيس الملائي قال: كتب الحجاج إلى الوليد \"إن قوماً من أهل الشقاق والنفاق قد لجأوا إلى مكة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فيهم\" فكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري فيهم، فأخذ عطاء وسعيد بن جبير ومجاهداً وطلق ابن حبيب وعمرو ابن دينار. فأما عطاء وعمرو فخليا وأما الآخرون فبعث بـهم إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق وحُبس مجاهد حتى مات الحجاج وقتل سعيد بن جبير\" [4]. وهذا يرد على بعض الروايات الضعيفة التي تقول إن الحجاج قتل طلق بن حبيب وكذلك الروايات التي تنسب إلى الحجاج أنه قال: لعن الله ابن النصرانية خالد القسري هل يظن أني لا أعرف مكانه؟ ـ يعني سعيداً بلى والله، والبيت الذي هو فيه\" [5]. وتأمل قول هذا الظالم الطاغية: إن قوماً من أهل الشقاق والنفاق، فما أشبه الليلة بالبارحة، وسهام النقد الجارح تنطلق من طواغيت هذا الزمان وأذنابـهم من الأدعياء، باتـهام الدعاة بالنفاق والخارجية والشقاق والتهييج السياسي.

كان سعيد يتوقع أن يقتل، فهاهو يقول ـ كما مر ـ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة، وكذلك فهو يقول لأبي بشر: \"إن الحجاج قاتلي، قال قلت: ولم ذاك؟ قال: رؤيا رأيتها\" [6]. ومع توقعه للقتل فقد كان صابراً محتسباً متحملاً ما أصابه في سبيل الله، فعن أبي مريم صاحب الدستوائي قال: رأيت سعيد بن جبير مقيداً بمكة، واستأذن خالد بن عبد الله في توديع البيت، فأذن له، فطاف أسبوعاً (يعني سبعاً) وهو مقيد وقد اتكأ عليَّ ـ أو قال: على رجل ـ فقال: اللهم إن كنت قضيت للحجاج قتلي فاجعل ذلك كفارة لذنوبي\" [7].

وقد ورد بأسانيد جيدة عن الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد ابن جبير حين جيءَ به إلى الحجاج، وهو موثق، فبكيت، فقال لي: ما يبكيك؟ قلت: الذي أرى بك، قال: فلا تبك، إن كان هذا في علم الله - عز وجل - أن يكون، ثم قرأ: ]ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها[ الآية[8]. فانظر إلى قلق الناس وحزنـهم عليه وهدوئه واستقراره النفسي وتسليمه لقدر الله - عز وجل -، وانتبه إلى سهولة الدخول عليه مع عظيم ذنبه عند الحجاج، وقارن ذلك بإغلاق سجون الظلمة في زماننا، واعرف الفرق جيداً.

وورد بإسناد ضعيف في أنساب الأشراف يقويه إسناد آخر في الحلية عن أبي بكر بن عياش، قال: قيل ليزيد بن أبي زياد: هل كان سعيد يحدث؟ قال: نعم، ويضحك غير أني رأيت ابنة له جاءت فجلست في حجره فسمعت حركة القيود فبكت، فقال: مه. وفي رواية فقال سعيد: اسكتي يا بنية لا تغمي أباك، فهذا أكثر ما رأينا منه\" [9]. وهذا شبيه بقوله لابنه، فعن عروة بن سعيد قال: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دُعي ليقتل فجعل ابنه يبكي قال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة\" [10]. ففي كل هذه المواقف العاطفية المؤلمة لا نرى منه إلا الصبر والهدوء الذي سيستفيده غيره منه، ولعله كان أحوج إلى أن يثبّت ويصبّر ولكنه كما رأيت يُصَبر غيره ويثبته، فهل من معتبر.

وقد قبض عليه في مكة ووضعت القيود في رجليه وطاف في قيوده، فعن هشام الدستوائي قال: رأيت سعيد بن جبير يطوف بالبيت مقيَّداً ورأيته دخل الكعبة عاشر عشرة مقيدين\" [11]، وإسناده لا بأس به. وسمع خالد بن عبد الله القيود فقال: ما هذا؟ فقيل له: سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابـهما يطوفون بالبيت، فقال: اقطعوا عليهم الطواف\" [12]، وإسناده جيد.

فانظر إلى ظلم الظلمة مع هؤلاء العلماء، فتوضع القيود في أرجلهم وينقلون إلى العراق على هذا الحال، ثم انظر إلى جبروت خالد القسري - ابن النصرانية - حيث قطع عليهم الطواف. وقد مرت رواية أخرى تذكر أنه استأذن في الطواف فأذن له، ولا تعارض بين الروايتين، فلعلهم قطع عليهم الطواف ثم استأذنوه مرة أخرى فأذن لهم أو أنـهم أذن لهم ثم تراجع عن رأيه خوفاً من تأثير وجودهم بـهذه الحالة على الناس وإثارتـهم لهم وهو الأقرب.

ونستمر مع رحلة سعيد من مكة إلى العراق حتى خرج من الكوفة إلى واسط مركز الولاية، فيقول يزيد بن أبي زياد ـ راوي القصة في تاريخ الطبري وغيره ـ بإسناد لا بأس به \"فاتبعناه نشيعه فانتهينا به إلى الجسر فقال الحرسيان: لا نعبر به أبداً حتى يعطينا كفيلاً، نخاف أن يغرق نفسه، قال قلنا: سعيد يغرق نفسه!! فما عبروا به حتى كفلنا به\" [13] وفي رواية: فكنت فيمن كفل به.

وإننا لنلحظ حذر الحرس وخوفهم من أن يغرق نفسه في النهر ودهشة الناس من تفكير هؤلاء الحرس، وننظر إلى أساليب الطغاة في سجونـهم في وقتنا الحاضر فنجد نفس الحذر ونفس التخوف ºغافلين أن هذا الصنف من الناس لا يفكر هذا التفكير.

ثم إن الإنسان ليتساءل: هل يستطيع الناس في زماننا هذا تشييع أحد المعتقلين والدخول عليهم والكلام معهم؟ هذا غير ممكن على الإطلاق، ولكنه في زمن الحجاج الظالم الطاغية كان ممكناً.

بعد تلك الرحلة الطويلة أُدخل سعيد على الحجاج فماذا كان موقفه في هذا اللقاء؟، رأينا أنه وطن نفسه للقتل ورأينا وصايا العلماء له بالصلابة معهم وأنـهم لن يستحيوه، ورأينا يقينه وصبره وثباته، ثم هاهو يسحب من سجن الحجاج (الديماس) لمقابلة الحجاج ثم القتل، يقول أبو الجهم: دخل علينا سعيد بن جبير (الديماس)[14] ولم يكن لكل واحد منا فيه مقعد الا قدر ما يمد رجله، فأوسعت له إلى جنبي، فلما كان يوم أخرج ليُقتل قال لي: شد عليّ ثيابي، قال: فشددت عليه بركتي[15] قباء كان عليه من خلفه، وخرج به وقتل[16]. وإسناده لا بأس به. وهذا الخبر يعطينا صورة لسجون الحجاج وظلمتها وضيقها، مما يذكر بسجون الظلمة التي يتناوب السجناء على النوم فيها من ضيق المكان، فالزنازين المعدة لعشرة أشخاص يحشر فيها أكثر من خمسين شخصاً وكل التقارير الحيادية تتكلم عن سوء السجون وضيقها وانتشار الأمراض فيها.

وتعددت الروايات عن مقابلة سعيد - رحمه الله - للحجاج، وفيها أخبار مكذوبة وحوار لم يحصل، ولذا فإننا نكتفي بما هو مقبول من أخبار هذه المقابلة. وهناك رواية مطولة نسبياً أوردها أبو نعيم في الحلية عن الحسن البصري وإسنادها لا بأس به، قال: لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال: أنت الشقي بن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير، قال: بل أنت الشقي بن كسير، قال: كانت أمي أعرف باسمي منك، قال: ما تقول في محمد؟ قال: تعني النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قال: سيد ولد آدم النبي المصطفى خير من بقي وخير من مضى، قال: فما تقول في أبي بكر؟ قال: الصديق خليفة رسول الله مضى حميداً وعاش سعيداً، مضى على منهاج نبيه - صلى الله عليه وسلم - لم يغير ولم يبدل. قال: فما تقول في عمر؟ قال: عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله مضى حميداً على منهاج صاحبيه، لم يغير ولم يبدل. قال: فما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلماً، المجهز جيش العسرة، الحافر بئر رومة، المشتري بيتاً في الجنة، صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنتيه، زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من السماء. قال: فما تقول في علي؟ قال: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأول من أسلم، وزوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين. قال: فما تقول في معاوية؟ قال: شغلتني نفسي عن تصريف هذه الأمة وتمييز أعمالها. قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أعلم بنفسك. قال: بت بعلمك، قال: إذاً يسوؤك ولا يسرك، قال: بت بعلمك. قال: اعفني، قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك، قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله - تعالى -، ترى من نفسك أموراً تريد بـها الهيبة وهي تقحمك الهلكة، وسترد غداً فتعلم. قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك، ولا أقتلها أحداً بعدك. قال: إذاً تفسد عليّ دنياي وأفسد عليك آخرتك، قال: يا غلام، النطع والسيف، قال: فلما ولى ضحك، قال: أليس قد بلغني أنك لم تضحك؟ قال: وقد كان ذاك. قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: من جراءتك على الله ومن حلم الله عنك. قال: يا غلام.. اقتله، فاستقبل القبلة وقال: \"وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين\" فصرف وجهه عن القبلة، قال: \"فأينما تولوا فثم وجه الله\" قال: اضرب به الأرض، قال: \"منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى\"، قال: اذبح عدو الله، فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم [17].

والحوار السابق واضح الدلالة على استفزاز الحجاج لسعيد، وبحثه في أمور متعددة، ومحاولة إحراجه ليجيب بما في نفسه ويكون ذلك سبباً في قتله، فهو يسأله عن الماضين، ثم يسأله عن نفسه، ويلح في ذلك، فلا يملك سعيد إلا أن يقول كلمة الحق \"إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله\" وفي إجابته تحليل جيد لسياسة الحجاج الظالم \"ترى من نفسك أموراً تريد بـها الهيبة وهي تقحمك الهلكة\" وهذا من أكبر أسباب ظلم الحجاج بل وظلم الظالمين في التاريخ كله. ولابد من التذكير بسوء أدب الحجاج عندما سأله عن \"محمد\" هكذا مجرداً من صفته والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدل على جفائه وغلظة طبعه، ثم نلاحظ وضوح معتقد أهل السنة والجماعة في إجابات سعيد عن الخلفاء الراشدين ووضعهم في مواضعهم.

وقد وردت عدة روايات تثبت أن الحجاج كان يجبر محاوريه من الذين خرجوا عليه مع ابن الأشعث بالحكم على أنفسهم بالكفر بخروجهم عليه، وإلا قتلهم فلم يستجب سعيد لذلك. قال سليمان التيمي: \"كان الشعبي يرى التقية، وكان ابن جبير لايرى التقية، وكان الحجاج إذا أتي بالرجل ـ يعني ممن قام عليه ـ قال له: أكفرت في خروجك علي؟ فإن قال: نعم، خلّى سبيله. فقال لسعيد: أكفرت؟ قال: لا، فقال: اختر أي قتلة أقتلك، قال: اختر أنت، فإن القصاص أمامك\" [18]. وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: حدثنا عبد الواحد بن أيمن قال قلت لسعيد بن جبير: ما تقول للحجاج؟ قال: لا اشهد على نفسي بالكفر[19]، وعبد الواحد ثقة روى عنه أبو نعيم وهو ثقة أيضا، وورد قريباً من ذلك بإسناد ضعيف في أنساب الأشراف[20]. وجاء في أنساب الأشراف عن عمرو بن هشام قال قيل لسعيد بن جبير: إن الحجاج إذا أخذ رجلاً كان مع ابن الأشعث فأقر له بالكفر خلّى سبيله، وإن الحسن قال: يدفع عن نفسه، فقال سعيد بن جبير: يرحم الله أبا سعيد، لا تقية في الإسلام[21]، وإسناده ضعيف، ولكن يقويه ما ورد عن أبي الصهباء قريباً منه في طبقات ابن سعد[22]، وقد مر ذكره في أول البحث.

وهذا تحكم من الحجاج وجبروت، فهو بطريقته تلك يريد إذلال هؤلاء أو قتلهم، فلم ير سعيدٌ أن يذل لهذا الظالم المتجبر، فرفض أن يشهد على نفسه بالكفر مع جواز ذلك له، يقول الله - تعالى -: [إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان]فرأي الحسن البصري والشعبي صحيح وإن كان خلاف الأولى، فالصبر والثبات في مثل هذه الأحوال هو الأولى والأفضل والأجمل بعلماء الإسلام ودعاته.

وقد ورد حوار آخر بينه وبين سعيد بأسانيد صحيحة، فعن جرير بن حازم قال: سمعت الفضل بن سويد يحدث وكان في حجر الحجاج وكان أبوه أوصى به إلى الحجاج، قال: بعثني الحجاج في حاجة، فقيل: قد جيء بسعيد ابن جبير فرجعت لأنظر ما يصنع به فقمت على رأس الحجاج، فقال له الحجاج: يا سعيد ألم أستعملك؟ ألم أشركك في أمانتي؟ قال: بلى، قال حتى ظننت أنه سيخلي سبيله، قال: فما حملك على أن خرجت عليّ، قال: عزم عليّ، قال: فطار الحجاج شقتين غضباً، قال: هيه أفرأيت لعزيمة عدو الرحمن عليك حقاً ولم تر لله ولا لأمير المؤمنين ـ ولا لي ـ عليك حقاً؟ اضربا عنقه، فضربت عنقه، قال: فندر رأسه في قلنسية بيضاء لاطية كانت على رأسه\" [23].

وقد يفهم من الحوار السابق - وقد ورد في مصادر كثيرة بزيادة أو نقص- أن سبب قتل سعيد هو قوله \"عزم عليّ\" و \"بيعة كانت له في عنقي\" أي لابن الأشعث، وأنه كان من الواجب على سعيد أن لا يستفز الحجاج مما يدعوه إلى قتله، ولكن المتأمل في هذه الروايات والروايات الأخرى التي مر ذكرها، يجد أن الحجاج قد عزم على قتل سعيد حتى لو لان له، وهذا ما أشار به عليه سراً إبراهيم النخعي كما مر معنا \"إن القوم لن يستحيوك فاصلب لهم\" ثم ما ثبت من أنه يطلب من هؤلاء أن يحكموا على أنفسهم بالكفر. فهذا الحوار إذاً كان البداية ولا ينفي أن حواراً آخر قد دار بينهما.

وقد ثبت ذلك في نفس المصادر وبأسانيد جيدة، ثم إن ما حصل من سعيد لا يدعو إلى قتله، لا سيما وقد انتهت القضية منذ زمن طويل، وهؤلاء غاية ما يقال فيهم أنـهم من البغاة، وهؤلاء لا يقتل مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا تغنم أموالهم، ولكنه الحكم الطاغوتي البعيد عن حكم الله، وقارن بين فعل الحجاج المتجبر الطاغية وبين فعل الخليفة الراشد أمير المؤمنين علي بن أبى طالب - رضي الله عنه في مخالفيه في الجمل وصفين تجد الفرق الكبير بين حكم الإسلام وحكم الطاغوت.

ثم تأمل هذا الثبات وهذا القلب الجسور الذي يحاور ويرد ويتحدى والموت ماثل أمام عينيه، وقد ورد في رواية سبق ذكر جزء منها وإسنادها صحيح \"فلما قتل سعيد بن جبير خرج منه دم كثير حتى راع الحجاج فدعى طبيباً وقال له: ما بال دم هذا كثير؟ قال: إن أمنتني أخبرتك، فأمنه، فقال: قتلته ونفسه معه\" [24]. وقد ورد في عدة روايات أسانيدها ضعيفة أن رأسه استمر في ترديد الشهادة مرتين بوضوح ولم يفصح في الثالثة وذلك بعد ضرب عنقه\" [25]. ومع كل ما قاله سعيد وجرأته في وجه الظالم وصدعه بالحق فإن عاصم بن بـهدلة يقول: \"ما تكلم سعيد بشيء وذلك أنه كره المثلة\" [26]، والإسناد لا بأس به. ولكن هل يريد عاصم نفي قوله أي شيء أو أنه لم يتشدد في حواره مع الحجاج؟ وعلى كل حال فعاصم سيء الحفظ.

وتكثر الروايات المكذوبة حول ما حصل للحجاج بعد قتله لسعيد - رحمه الله - تعالى -، وأقرب الروايات إلى القبول ما أورده أبو نعيم في الحلية ونقلها عنه الذهبي في السير عن يحيى بن سعيد عن كاتب للحجاج يقال له يعلى، قال مالك: هو أخ لأبي سلمة الذي كان على بيت المال، قال: كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام حديث السن يستخفني ويستحسن كتابتي فأدخل عليه بغير إذن، فدخلت عليه يوماً بعدما قتل سعيد بن جبير وهو في قبة لها أربعة أبواب فدخلت عليه مما يلي ظهره فسمعته يقول: مالي ولسعيد بن جبير، فخرجت رويداً وعلمت أنه إن علم بي قتلني، فلم ينشب الحجاج بعد ذلك إلا يسيراً حتى مات \" [27]، ومع هذا فهذا الإسناد فيه مجهول وهو كاتب الحجاج. وأصح منه ما رواه أبو نعيم في الحلية عن سفيان الثوري عن سالم ابن أبى حفصة … وجاء في آخر القصة: قال سفيان: لم يقتل بعد سعيد بن جبير إلا رجلاً واحداً \" [28]. وما رواه البلاذري بإسناد ضعيف عن هلال بن خباب، جاء في آخر الخبر … قال: فقتله فلم يلبث بعده إلا نحواً من أربعين يوماً، فكان إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه ويقول: يا عدو الله فيم قتلتني، فيقول: مالي ولسعيد بن جبير\" [29].

وبإسناد ضعيف آخر عن سالم الأفطس وهو ثقة قال: \" لما قتل الحجاج سعيد بن جبير عرفوا تغير عقله لأنه قتله ثم قال: قيود، ثم دعا بـها ليقيده\" [30]. وبإسناد جيد عن مغيرة بن مقسم الضّبي قال: كان الحجاج يقول حين قتل سعيد بن جبير: (ولع يالك من ولع) [31]، وهذا الكلام يدل على اختلال عقله.

والذي لا يشك فيه أنه لم يعمر بعد سعيد، فقد قتل سعيداً في شعبان سنة 95 هـ وهلك هو في نفس السنة في شهر رمضان[32]. فيثبت ما ورد في الرواية التي مرت قريباً: \" فقتله فلم يلبث بعده إلا نحواً من أربعين يوماً\". ويكفينا ذلك في عاجل عقوبة الظالم، ولا حاجة لنا بالروايات المكذوبة المطولة حول ما حصل للحجاج بن يوسف بعد قتله لسعيد.

ولا بأس في نـهاية المطاف أن نقف مع بعض التوجيهات التربوية من سعيد بن جبير - رحمه الله - تعالى - غير ما مر ذكره من المواقف.

جاء في الحلية لأبي نعيم بإسناد جيد عن سعيد بن جبير في قوله - عز وجل –[فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى[قال: يعملون بالذنوب ويقولون سيغفر لنا]وإن يأتـهم عرض مثله يأخذوه]قال: الذنوب[33]. فهو هنا يحذر من الاستهانة بالذنوب وأخذ جانب الرحمة كما يعمل المرجئة.

وبإسناد جيد جاء في طبقات ابن سعد عن حبيب بن أبي ثابت: أن سعيد ابن جبير استعمله مطر بن ناجية في فتنة ابن الأشعث على مأصري الكوفة على الصدقة والعشور، قال حبيب: فركب وركبت معه حتى إذا انتهينا إلى المأصر إذا رجل ومعه محسة ويبدو أنه يريد خدمتهم كما عوده الظلمة، فقال سعيد: إليك إليك، فأخرجه ثم نظر سعيد بن جبير وهو أول ما ركب إليه فمن تقدم له يومئذ بَيعٌ من أهل الذمة فلم يرزه شيئاً ولم يكن يرى أن عليهم عشوراً، ونظر من كان من أهل الإسلام فأخذ منهم صدقة ما كان معهم[34]، فتأمل تطبيقه التام للعدالة وعدم تسخير الناس لخدمة الولاة والعمال وعدم أخذه الضرائب والعشور على أهل الذمة لأنـهم يدفعون الجزية. ولعل هذا الظلم الذي كان يقع من ولاة الأمويين كان من أسباب ثورة الفقهاء ومساندتـهم لابن الأشعث مع الانتقادات الأخرى...

 

----------------------------------------

[1] - الحلية ج4 ص 275.

[2] - أنساب الأشراف ج7 ص 3091.

[3] - المتوارين للحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي ص 60.

[4] - أنساب الأشراف ج7 ص 3091

[5] - المتوارين ص 60.

[6] - المتوارين ص 60.

[7] - أنساب الأشراف ج7 ص 3089.

[8] - الحلية ج4 ص 289، وأنساب الأشراف ج7 ص 3091.

[9] - أنساب الأشراف ج7 ص 3092 و3095، والحلية ج4 ص 274-275 والطبري ج6 ص 489 وفيه فقال لها: أي بني لا تطيري أباك.

[10] - الحلية ج4 ص 275 بإسناد جيد.

[11] - طبقات ابن سعد ج6 ص 264، وأنساب الأشراف ج7 ص 3091 عن عبد الملك بن أبي سليمان.

[12] - طبقات ابن سعد ج6 ص 264 وأنساب الأشراف ج7 ص 3090.

[13] - الطبري ج6 ص 489.

[14] - سمي الديماس لظلمته.

[15] - البركة: برد يماني.

[16] - أنساب الأشراف ج7 ص 3096.

[17] - الحلية ج4 ص 294-295.

[18] - سير أعلام النبلاء بدون إسناد ج4 ص 338.

[19] - المصدر السابق نفسه.

[20] - أنساب الأشراف ج7 ص 3092.

[21] - أنساب الأشراف ج4 ص 3090.

[22] - طبقات ابن سعد ج6 ص 263.

[23] - طبقات ابن سعد ج6 ص 265، والمعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان ج1 ص 713 والطبري ج6 ص 489، وأنساب الأشراف ج7 ص 3092 عن حماد بن زيد عن الفضل بن سويد.

[24] - سير أعلام النبلاء ج4 ص 340-341.

[25] - ابن جرير ج6 ص 489، وأنساب الأشراف ج7 ص 3088، وطبقات ابن سعد ج6 ص 365، والحلية ج4 ص 290-291.

[26] - أنساب الأشراف ج7 ص 3091.

[27] - الحلية ج4 ص 291، والسير ج4 ص 332.

[28] - الحلية ج4 ص 290.

[29] - أنساب الأشراف ج7 ص 3096.

[30] - أنساب الأشراف ج7 ص 3088.

[31] - أنساب الأشراف ج7 ص 3094.

[32] - سير أعلام النبلاء ج4 ص 343.

[33] - الحلية ج4 ص 281.

[34] - طبقات ابن سعد ج6 ص 263.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply