سلسلة علماؤنا ( 2 )


 
 

سعيد بن جبير الحلقة الثانية

أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:

كان سعيد بن جبير - رحمه الله - تعالى - من أبرز علماء الأمة القائمين بـهذا الواجب من علماء التابعين. وإننا لنجد أن اهتمامه المبكر بذلك قبل ولاية الحجاج، إذ تذكر الروايات أن الحجاج سأله: ما الخبر؟ فقال سعيد: الخمر تباع بالكوفة ظاهرة، ويباع الحكم بالرُشا، فقال الحجاج: والله إن وليت لأغيرن. فلما قدم رد شريحاً على القضاء ومنع أن تباع الخمر[1]. ويبدو أن ذلك قبل ولاية الحجاج على الكوفة، كما يبدو أن علاقته بالحجاج كانت جيدة في بداية الأمر إذ نجد أنه كلفه بالصلاة بالناس في رمضان فصلى بـهم[2]. بل إن سعيداً يقول: \"لقد رأيته - يعني الحجاج - يزاحمني عند ابن عباس[3]، وهذا كان في الطائف موطن الحجاج ومستقر ابن عباس. فالعلاقة بين الحجاج وسعيد قديمة، وسعيد يذكر هذا بعد أن رأى ما عليه الحجاج من الظلم والجبروت، فيقارن حاله الآن أثناء الولاية بحاله قبل ذلك. وإننا لنجد في تفسيره لقوله - تعالى -: ]يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة[دليلاً على غيرته واهتمامه بالأمر بالمعروف ونـهيه عن المنكر، فهو يقول فيها: \"إذا عُمل فيها بالمعاصي فاخرجوا\"[4].

 

أما موقفه الواضح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو في خروجه على الحجاج مع فقهاء العراق في الحادثة المشهورة بقيادة ابن الأشعث، وهي حادثة تجب دراستها بالتفصيل بأسلوب علمي يبين ملابساتـها، ويجلي غوامضها. فلماذا خرجوا على الحجاج؟، هل هو لمجرد ظلمه وجبروته واستباحته للدماء؟ أم أن هناك شيئا آخر؟. فسعيد نقل عنه أنه قال: \" ما خرجنا عليه حتى كفر بالله \"[5]، ولكنه بإسناد ضعيف جداً. ونقل عنه كذلك قوله: أليس كافر بالله من زعم أن عبد الملك أكرم على الله من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ \" [6]. وإسناده محتمل القبول، يرويه البلاذري عن المدائني الإخباري الثقة عن جرير بن حازم وهو مولود سنة 85 هـ، فهناك احتمال أنه روى هذا الخبر أو الكلمة عن الحجاج، ولكن لا يمكن الجزم بذلك، ويحتاج الأمر إلى تحقق. وكذلك ينقل عنه أنه قال في خطبة له أثناء هذه الحركة: \"قاتلوهم على جورهم في الحكم وخروجهم من الدين وتجبرهم على عباد الله وإماتتهم الصلاة واستذلالهم المسلمين\" [7]، ولكن في إسناد الخبر أبو اليقظان عثمان بن عمير، وهو شديد الضعف.

 

ولسنا في مقام بيان صحة خروجهم عليه أو عدم صحته، ولكننا في ترجمة سعيد ودراسة حياته لا بد لنا من البحث عن دوافع خروجهم عليه، فهل يخفى على سعيد وغيره من العلماء الذين شاركوه في الخروج حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \"اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك\"؟، أم أن لـهم تأويلاً آخر؟. والخلاصة أنـهم خرجوا، ورأيهم لا يستهان به وفعلهم دليل على أنـهم يرون الخروج بأسبابه الشرعية، وأنـهم ملكوا القدرة على التغيير بوجود جيش هائل بأيديهم.

 

والذي يعنينا من ذلك كله أنـهم يرون ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن سعيداً شاركهم، فلما انتهت المعركة بالـهزيمة اختفى من وجه الحجاج الظالم المتجبر، وقد طال اختفاؤه من سنة 82 هـ إلى سنة قتله 95 هـ. وكان طوال هذه الفترة يتعلم ويعلم ويجالس طلاب العلم، ولم نسمع بفتوى واحدة بوجوب التعاون مع ولي الأمر وإبلاغ أمره إليه أو كتابة التقارير عنه إلى مباحث الدولة وشرطتها وأمرائها، فهل يعي ذلك المأفونون من أدعياء العلم في زماننا، ممن يرون وجوب التعاون مع الأجهزة الأمنية في أنظمة أقل ما يقال عنها أنـها ظالمة جائرة فاسقة لا تريد الخير للإسلام والمسلمين، ويكتبون التقارير في إخوانـهم من العلماء والدعاة وطلاب العلم والدعاة ويرون ذلك قربة يتقربون بـها إلى الله - كما يزعمون - نسأل الله العافية والسلامة. وقد نقل عن سعيد - رحمه الله تعالى - بإسنادٍ, ضعيف - قوله: وشى بنا واشٍ, في بلد الله الحرام، أكِلُهُ إلى الله \" [8].

 

وانظر إلى تعاطف الناس معه أثناء اختبائه في مكة، فقد ورد في أنساب الأشراف بإسناد فيه مجهول (كان رجل من أهل مكة ضعيفاً فمازحه سعيد وهو يطوف أو قال: رحمه، فقال: أنت تفر من الحجاج وتجيء إلى هنا، فضربه عكرمة بن خالد وناس من قريش حتى كاد ينبسط) [9]. وورد أيضا في الأنساب بإسناد ضعيف عن ثابت بن محمد قال: هرب سعيد بن جبير من الحجاج، فكان عندي سنين أو سنتين[10].

 

وروى أبو نعيم في الحلية عن عثمان بن مردويه قال: كنت مع وهب بن منبه وسعيد بن جبير يوم عرفة بنخيل ابن عامر، فقال وهب لسعيد: يا أبا عبد الله كم لك منذ خفت من الحجاج؟ قال: خرجت عن امرأتي وهي حامل، فجاء الذي في بطنها وقد خرج وجهه. فقال له وهب: (إن من قبلكم كان إذا أصاب أحدهم بلاءٌ عده رخاءً، وإذا أصابه رخاءٌ عده بلاءً) [11]. وهذا يثبت أنه يجالس العلماء ويناقشهم، ويقوم وهب بتثبيته وحثه على الصبر.

 

وبإسناد لا بأس به يروي البلاذري: \"لما قتل سعيد بن جبير، قال ميمون بن مهران: ما أدري ما أكافئ أخي إلا بأن أتزوج ابنته فأقدم على سيف الحجاج. وانطلق فتزوج ابنة سعيد بالكوفة وقدم بـها الرقة، قال عطاء أي ابن سالم فمضيت حتى رأيتها فإذا هي امرأة مسنة جليلة عابدة قاعدة في مسجدها فالتمست عندها حديثاً فلم أجده، وقال عبيد بن جناد أحد الرواة وكان في الطريق أهل مسلحة يمنعون النساء، فجلس إليهم ميمون فألقى تحت مصلى لـهم ثلاثمائة درهم، ثم قال: معي امرأة، فقالوا: وهل يمنع مثلك؟ امض راشداً [12]. فانظر إلى تعاطف عالم الجزيرة الفراتية ميمون بن مهران مع سعيد بن جبير وتعرضه لسيف الحجاج، وتزوجه لبنت سعيد براً بوالدها وحفظاً لذكره ولابنته من بعده، ثم انظر لإغرائه للحراس بالسماح للمرأة بالعبور بدفع المال لـهم.

 

ويروي الطبري بإسناد جيد عن أبي الحصين الأسدي قال: كتب الحجاج إلى فلان، وكان على أصبهان … فكتب إليه: إن سعيداً عندك فخذه، فجاء الأمر إلى رجل تحرج، فأرسل إلى سعيد: تحول عني، فتنحى عنه إلى أذربيجان، فلم يزل بأذربيجان فطال عليه السنون، واعتمر فخرج إلى مكة فأقام بـها، فكان أناس من ضربه يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم، فقال أبو حصين وهو يحدثنا هذا: فبلغنا أن فلاناً قد أمّر على مكة، فقلت له: يا سعيد، إن هذا الرجل لا يؤمَن وهو رجل سوء، وأنا أتقيه عليك فاظعن واشخص، فقال: يا أبا حصين، قد والله فررت حتى استحييت من الله، سيجيئني ما كتب الله لي …\" [13].

 

ويروي ابن جرير بإسناد لا بأس به قال: لما أقبل الحرسيان بسعيد بن جبير فنـزل منـزلاً قريباً من الربذة فانطلق أحد الحرسيين في حاجته وبقي الآخر، فاستيقظ الذي عنده وقد رأى رؤيا، فقال: يا سعيد إني أبرأ إلى الله من دمك، إني رأيت في منامي، فقيل لي: ويلك تبرأ من دم سعيد بن جبير، اذهب حيث شئت لا أطلبك أبداً، فقال سعيد: أرجو العافية وأرجو، وأبى حتى جاء ذاك، فنـزلا من الغد فأُري مثلها، فقيل: ابرأ من دم سعيد، فقال: يا سعيد، اذهب حيث شئت، إني أبرأ إلى الله من دمك، فلما جاء إلى دارهم التي كان فيها سعيد، وهي دارهم هذه فحدثنا أبو كريب ……\"(1). فانظر إلى تعاطف والي أصبهان معه في الرواية الأولى، حيث أوعز إليه بالخروج منها حتى لا يشارك في ظلمه، وهو درس لكل من تورط في ولاية تؤدي إلى ظلم الناس، فعليه أن يخرج منها بالطريقة التي يراها مناسبة، وإلا فالحساب عسير. ثم انظر إلى تعاطف أبي الحصين الأسدي وهو أحد الرواة، حيث حثه على الخروج من مكة لما تولى فلان (وهو خالد بن عبد الله القسري ابن النصرانية أحد الظلمة الكبار في العصر الأموي) وتستر عليه وعلى غيره من جنسه الذين يستخفون خوفاً من الظالمين وهم ليسوا قلة[14]. وفي الرواية الثانية انظر إلى تعاطف الحارس معه، حتى أذن له بالـهرب متحملاً مسؤولية هروبه وعقاب الحجاج له ثم سماحه له بالذهاب إلى بيته في الكوفة ورؤية ابنته كما في بقية الرواية.

 

ويورد الحافظ الأزدي في كتابه المتوارين خبراً في تعاطف أهل مكة مع سعيد لما قبض عليه وأرسل مقيداً إلى الحجاج، يقول: \"أعظَم الناس أخذ سعيد بن جبير بمكة، وكان القسري أخذه فصعد المنبر - أي خالد القسري - فقال: \"لو أن أمير المؤمنين كتب إليّ أن انقض هذا البيت حجراً حجراً - ووضع يده على الكعبة - لنقضته حتى أدعه غديراً ترده الإبل\"[15]، لكن في الإسناد اثنان من المجاهيل، فلعله غير صحيح، وإلا فإن ثبت هذا أو مثله فإنه يدل على جهل عظيم.

 

ومما يثبت مقابلته للعلماء، ما رواه الحافظ عبد الغني الأزدي في كتاب المتوارين عن الزهري قال: \"حججت مع عمر بن عبد العزيز وحج بالناس في خلافة الوليد، فلما كنا بمنى أتاني سعيد بن جبير وهو متوارٍ, من الحجاج، فقال لي: أتخاف عليّ صاحبك هذا؟ قال: قلت: لا ومن آمن؟ \"[16]. فانظر إلى تستر الزهري عليه مع أنه مطلوب لولاة الأمر، والأعجب من ذلك سكوت عمر بن عبد العزيز عن الأمر مع أنه أمير المدينة وأمير الحج، فهل يعي أدعياء السلفية في وقتنا الحاضر ذلك.

 

ويروى المدائنى عن محمد بن ذكوان قال: \" أخذ سعيداً عبد الله بن أسد بن أخي خالد (القسري) فقال له: قد كنت أكره أن يجرى أمرك على يدي قال: فهلا إذ كرهت ذلك قلت كما قال العبد الصالح]إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك (أنساب الأشراف ج7 ص 3085.) فالمكلف بالقبض عليه يتعاطف معه ولو كلامياً فيرد عليه سعيد بأنه كان عليك أن تنذرني كما فعل ذلك العبد الصالح مع موسى - عليه السلام -.

 ولعل ختام الحديث عن موقف الناس منه في خروجه على الحجاج يكون بنقل كلام إمام الأمة في عصره سفيان الثوري، فقد ورد بإسناد لا بأس به في كتاب المتوارين للحافظ الأزدي، عنه قوله: \"ما أعدل به من التابعين أحداً، ما زال على بصيرة من أمره حتى قتل، ما أشبهه إلا بعمار\"[17] - يقصد عمار بن ياسر -. وكذلك نختم بكلام إمام دار الهجرة مالك بن أنس في سعيد حيث يقول: \"أخرج الحجاج سعيد بن جبير وطلق بن حبيب من الكعبة فذبحهما ذبحاً\"[18]. ويتضح من كلامه استنكاره لإخراجهما من الكعبة ثم ذبحهما بدون أي اعتبار لكونـهما مسلمين، وكونـهما عالمين من علماء الأمة وأعلامها.

 

ولا بأس أن نذكر وصية إبراهيم النخعي له عندما قبض عليه: قالوا: \"بعث إبراهيم إلى سعيد في السر: إن القوم لن يستحيوك فاصلب لـهم\"[19]. هذا كله إضافة إلى ما سبق ذكره من ثناء العلماء عليه...

 

----------------------------------------

[1] - أنساب الأشراف ج7 ص 3090 بإسناد فيه مجهول.

[2] - أنساب الأشراف ج7 ص 3090

[3] - طبقات ابن سعد ج6 ص 266.

[4] - طبقات ابن سعد ج6 ص 362 بإسناد جيد، والحلية لأبي نعيم ج4 ص 84 بإسناد جيد.

[5] - أنساب الأشراف ج7 ص 3088.

[6] - أنساب الأشراف ج7 ص 3088 وقريب منه ج7 ص 3066 بإسناد فيه مجاهيل.

[7] - طبقات ابن سعد ج6 ص 265.

[8] - طبقات ابن سعد ج6 ص 264.

[9] - أنساب الأشراف ج7 ص 3095.

[10] - أنساب الأشراف ج7 ص 3095.

[11] - الحلية ج4 ص 289-290 بإسناد جيد، لولا عثمان بن مردويه فلم أجد له ترجمة.

[12] - أنساب الأشراف ج7 ص 3095.

[13] - تاريخ الطبري ج6 ص 487-488.

(1) - تاريخ الطبري ج6 ص 488-489.

[14] - انظر كتاب المتوارين للحافظ عبد الغني الأزدي، تحقيق: مشهور حسن سلمان، فقد ذكر أكثر من عشرة أشخاص تواروا من الحجاج كالأعمش وعون بن عبد الله والحسن البصري وإبراهيم النخعي ومجاهد.

[15] - ص 60، وأنساب الأشراف ج9 ص3673. بإسناد آخر محتمل.

[16] - المتوارين ص 60.

[17] - المتوارين ص 60.

[18] - المصدر السابق ص 60، مع الإشارة إلى ضعف هذه الرواية ومعارضتها للروايات الصحيحة، فإن طلقاً لم يقتل بل مات في الطريق.

[19] - أنساب الأشراف ج7 ص 3091.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply