مدخل:
لقد كثر في الآونة الأخيرة الإلحاح على الرجوع إلى سير سلفنا الصالح والاقتداء بهم في كل صغيرة وكبيرة، وهذا أمر جيد يدل على وعي الأمة وإحساسها بأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وكان هذا نداء الدعاة المخلصين منذ زمن طويل فهم يلحون على الاتباع وترك الابتداع وأنه هو الذي يوحد الأمة لأنه المرجع الصحيح عند الاختلاف وتعدد الآراء وتباين الأهواء وكثرة الاجتهادات والانحرافات. وهو الميزان الصحيح لكل رأي ووجهة نظر، وبدونه تتيه السفينة وتنحرف المسيرة ويعجب كل ذي رأي برأيه وتتبع الأمة كل ناعق فيؤدي بها ذلك إلى الضياع والدمار كما هو الحاصل الآن.
ولكن بعض الناس ركب موجة السلفية ووجهها إلى ما يريد من الخنوع والخضوع والتزلف للحاكمين، زاعماً أن هذا هو منهج السلف الصالح، ملبساً ذلك لباس السمع والطاعة لولي الأمر كما يزعم، مع أن قضية السمع والطاعة لولي الأمر إذا كان مسلماً ليست محل نقاش في الأساس على تفصيل طويل ليس هذا مكانه - غير مفرق بين السمع والطاعة الشرعيين وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين جمعهما حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في البخاري فقد ذكر فيه السمع والطاعة إلا أن نرى كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان وذكر فيه: \"... أن نقول كلمة الحق لا نخشى في الله لومة لائم\"، وبعض الباحثين من هذا الصنف يخل بالأمانة العلمية فيذكر حديث عبادة بن الصامت بدون أن يشير إلى جزئه الأخير لأنه لا يتفق مع ما يريد تقريره من العبودية للحكام باسم السمع والطاعة، وهذا من كتمان العلم الذي توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاعله بأن يلجمه الله بلجام من نار.
وانطلقت في وقتنا هذا عاصفة قوية تنتقد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وتشنع بهم وتلصق بهم أبشع الألقاب من التكفير والخارجية والتهييج السياسي، وتزعم مخالفتهم لمنهج السلف الصالح، وتصور السلف الصالحين خانعين أذلاء يدعون إلى طاعة ولي الأمر بلا قيد ولا شرط - وإن قيدوها نظرياً بالطاعة في المعروف وفي طاعة الله - ولكنهم صوروهم عملياً مداهنين ساكتين عن قول الحق - والساكت عن الحق شيطان أخرس -. فهل هذا هو فعلاً منهج سلفنا الصالح في علاقتهم بحكام زمانهم الذين لا يقارن حالهم بحكام هذا الزمان؟.
إن المتأمل في سير السلف - رحمهم الله - يجد غير ما صوره هؤلاء وحاولوا أن يوصلوه للناس بأنه هو المنهج الصحيحº فإنه سوف يجد نفوراً من الحكام وبعداً عنهم ورفضاً لأعطياهم وتهرباً من مقابلتهم ونقداً شديداً لهم على الملأ، بل سوف يجد شتمهم والدعاء عليهم والإفتاء ضدهم والهرب من وجوههم عند المطاردة والاختفاء عنهم سنين متطاولة. وسيجد من علماء السنة راغبين فيما عند الله زاهدين فيما عند الحكام لا يحرصون على المناصب والقرب من هؤلاء بل هم مشتغلون بالعلم والعبادة وتربية الناس وتوجيههم عن أمور الدنيا. هذا هو منهج السلف - إن كانوا يريدونه - واضح جلي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
كل ما سبق هو الذي دعا إلى دراسة سير علمائنا بشيء من التفصيل والتركيز على دورهم في محاربة المنكرات والوقوف في وجه الانحراف ممن كان وأياً كان والوقوف في وجوه الظلمة والطغاة حتى ولو كانوا مسلمين بيعتهم شرعية وطاعتهم واجبة، فإن ذلك لا يعني السكوت لهم فيما انحرفوا فيه لا سيما مع رفضهم قبول النصيحة السرية - التي يدندن حولها هؤلاء -.
وكما سلف فإن المرجع عند الاختلاف هو كلام الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتطبيقات السلف لذلك لا سيما الصحابة والتابعين. فلهذا فإن هذه الدراسات الموثقة هي التي تفصل في الخلاف مع هؤلاء هداهم الله إلى سبيل المؤمنين وإلى الإقتداء بالسلف الصالح الذين يزعمون الانتماء إليهم واتباع طريقهم.
وعند الكتابة عن سير هؤلاء الأئمة - رحمهم الله تعالى - فإن أمامنا خيارات عديدة يحتار الإنسان فيها من أين يبدأ وبمن يبدأ، ولكن سعيد بن جبير - رحمه الله تعالى - علم من أعلام التابعين أثنى عليه المعاصرون له كابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره من بعده كالإمام أحمد - رحمه الله - وغيره. وموقفه في هذا الشأن - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - واضح جلي، بل إنه قدم حياته فداءً لهذا الدين وكان قادراً على إنقاذ نفسه بكلمة يقولها أمام الظالم العنيد الحجاج ابن يوسف. لذلك فالبدء بسيرته أمر مقبول، ولعله جزء من رد الدَّين الذي تدين به الأمة بأكملها لهذا الرجل المقدام، فلا أقل من إحياء سيرته وتذكير الناس بمواقفه، والقول للقاصي والداني: هذه هي أمة الإسلام.. وهؤلاء هم علماء الإسلام.. وهذه هي مواقفهم تشهد بأنهم أدوا الأمانة ونصحوا الأمة وجاهدوا في الله حق جهاده ولم يخشوا في الله لومة لائم كما أمرهم بذلك رسولهم - صلى الله عليه وسلم -. لا كما يحاول بعض الناس تصويرهم بأنهم جبناء أذلة خانعون، ويسمي ذلك منهج أهل السنة والجماعة.
والذي أود التنبيه إليه في ختام هذه المقدمة هو أن بعض الأدعياء قد يتجرءون على علماءنا - أمثال سعيد وغيره - باتهامهم بالخارجية والطيش والعجلة ومخالفة منهج أهل السنة والجماعة. وقد ترامى إلى الأسماع شيء من ذلك، فلنكن متيقظين لذلك، فإن كل شيء محتمل في هذا الزمان، والله المستعان.
سعيد بن جبير:
هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي الأسدي مولاهم أبو عبد الله الكوفي، قال عنه الإمام الذهبي \"الإمام الحافظ المقريء المفسر الشهيد السديد الحميد\"(1). وقال عنه أبو نعيم: قتله الحجاج بن يوسف في شعبان سنة 95. وإننا لنلمس من ثناء العلماء عليه لا سيما قولهم عنه \"الشهيد\" أنهم يقرونه في مسلكه ويرونه من الشهداء - إن شاء الله - تطبيقاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله)(2). وقد خرج أبو نعيم في الحلية بإسناد جيد عن أبي الحصين قال: (أتيت سعيد بن جبير بمكة فقلت: إن هذا الرجل قادم - يعني خالد بن عبد الله القسري - ولا آمنه عليك فأطعني واخرج، فقال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله، قلت: لا أراك كما سمتك أمك سعيداً...) إلى آخر الرواية(3)، والسعادة هنا هي الشهادة بإذن الله. ولم أر أحداً من العلماء يذمه أو يذم من فعل فعله إلا من باب أنهم بصنيعهم هذا لم يغيروا شيئاً وأراقوا دماءهم. وكذلك هؤلاء الذين اعترضوا عليهم لم يذموهم وإنما رأوا أنهم لم يفعلوا الأولى: من الصبر والتحمل والتوجه إلى الله - تعالى - بدفع ظلم الظالمين وكان هذا مسلك الحسن البصري - رحمه الله - تعالى -. بل رأينا من يثني عليه، فها هو ميمون بن مهران عالم الجزيرة يقول: (لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه)(4). بل اسمع ما يقوله سعيد بن جبير نفسه، روى أبو نعيم في الحلية عن داود بن أبي هند قال: (لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير، قال: ما أراني إلا مقتولاً وسأخبركم: كنت أنا وصاحبين لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء ثم سألنا الله الشهادة، فكلا صاحبي رزقها وأنا أنتظرها، قال: فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء)(5).
وقد أورد الإمام الذهبي هذه الرواية ناقلاً لها عن الحلية ثم علق عليها بقوله: (قلت: ولما علم من فضل الشهادة ثبت للقتل، ولم يكترث ولا عامل عدوه بالتقية المباحة له - رحمه الله تعالى -)(6).
وقد روى الإمام الذهبي بإسناد جيد عن مالك بن أنس عن ربيعة الرأي قال: (كان سعيد بن جبير من العُباد العلماء قتله الحجاج، وجده في الكعبة وناساً فيهم طلق بن حبيب فسار بهم إلى العراق فقتلهم عن غير شيء تعلق عليهم به إلا العبادة...)(7). والذي يهمنا هنا هو رأي ربيعة أنهم لا ذنب لهم إلا العبادة، فكأنه يرى أن ما فعلوه من الخروج على الحجاج لا يجيز قتلهم.
وانظر إلى نوع نقد المعاصرين له فيما فعله هو وفعله غيره مع الحجاج: روى ابن سعد في الطبقات بإسناد لا بأس به عن أبي الصهباء قال: قال سعيد ابن جبير وذكر له أن الحسن يقول: إن التقية في الإسلام، فقال سعيد: لا تقية في الإسلام. قال - لعله أبو الصهباء - فظننت أنه ابتلي وأخذ من قابل(1). وكذلك ما رواه ابن سعد عن محمد بن سيرين بإسناد جيد، قال: (كان سعيد ابن جبير حائناً إنه فعل ما فعل ثم أتى إلى مكة يفتي)(2). وكذلك روى ابن سعد عن إبراهيم النخعي بإسناد جيد (أن سعيد بن جبير ذكر له فقال: ذاك رجل شهر نفسه)(3)، وإن كان قد نُقل عنه في نفس الإسناد قوله: (ي- رحمه الله - ما خلف مثله)(4)، مع أنه - رحمه الله - سُئل: الشكر أفضل أم الصبر؟ فقال: الصبر والعافية أحب إلي(5) فلعله يرى أن ما عمله لا ينافي الصبر، بل هو الواجب الذي لا محيد عنه من الوقوف في وجه الظلم، ووجوب إحقاق الحق. وكذلك ما ينقل عن الحسن البصري - بإسناد ضعيف - أنه قال: (العجب من سعيد بن جبير، قاتل الحجاج في غير موطن وأمر بقتاله ثم هرب فأتى مكة فلم يملك نفسه)(6) فانتقاده له أنه لم يحسن الاختفاء عن الحجاج فهذا أشبه بكلمة ابن سيرين التي سبقت، ولم ينتقده في خروجه وقتاله.
ومن أغرب ما تقرأ في هذا الأمر ما أورده الإمام الذهبي - بإسناد لا بأس به - يوضح رأي علماء هذا العصر في هذه المسألة (قال الأعمش: لما جيء بسعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابهما، دخلت عليهم السجن فقلت: جاء بكم شرطي أو (جليويز) من مكة إلى القتل، أفلا كتفتموه وألقيتموه في البرية؟ فقال سعيد: فمن كان يسقيه الماء إذا عطش؟)(7). ولا أدري مم أعجب؟ من سهولة دخول الأعمش على هؤلاء في سجنهم مع عظيم جرمهم عند حكام زمانهم؟ أم من تحريض الأعمش لسعيد وأصحابه على الهرب والنجاة بأنفسهم وتكتيف الشرطي ورميه في البرية؟ أم من انقياد سعيد وأصحابه بسهولة إلى السجن؟ أم من رحمة وشفقة سعيد على هذا الظالم: فمن كان يسقيه الماء إذا عطش!، وكلها أمور تحتاج إلى وقفات ووقفات.
ولننظر بعد ذلك إلى رأي سعيد في هذه الأحداث بعد أن انتهت بهزيمتهم وتغلب الحجاج عليهم، هل ندم وغير رأيه أم إنه ما زال باقياً على رأيه؟ اسمع إليه في هذه الرواية: عن أبي يونس القوي قال: قلت لسعيد بن جبير: قول الله تبارك و- تعالى - {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان...} قال: كان ناسٌ بمكة مظلومين، أو قال: مقهورين، قال: قلت: لقد جئتك من عند قوم هكذا - أي مقهورين - يعني زمن الحجاج، قال: يا ابن أخ، لقد حرصنا وجهدنا وأبى الله إلا أن يكون ما أراد)(8). ولو كان يريد الاعتذار والرجوع عن رأيه لسلم من القتل كما أشار إلى ذلك الذهبي فيما سبق ذكره. وكذلك تعرف رأيه فيما عمل من الرواية التي أوردها أبو نعيم في الحلية - بإسناد لا بأس به - قال سعيد: ما زال البلاء بأصحابي حتى رأيت أن ليس لله فيَّ حاجة، حتى نزل بيَ البلاء(9).
وهذا مجمل آراء معاصريه فيه بعد أن قتل، أما آراء العلماء فيه قبل قتله فقد رفعوا قدره وأثنوا عليه عاطر الثناء، فكان منهم ابن عباس رضي الله عنه، إذ يقول إذا سألوه (أتسألونني وفيكم ابن أم دهماء؟)(10). وروى ابن سعد بإسناد جيد عن مجاهد قال: قال ابن عباس لسعيد ابن جبير: حدِّث، فقال: أحدث وأنت ها هنا؟ فقال: أوليس من نعمة الله عليك أن تتحدث وأنا شاهد، فإن أصبت فذاك، وإن أخطأت علمتك)(11).
وممن أثنى على سعيد الصحابي الجليل عبد الله بن عمر، فقد روى ابن سعد - بإسناد لا بأس به - قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة، فقال: ائت سعيد بن جبير، فإنه أعلم بالحساب مني وهو يفرض منها ما أفرض(12).
أما علي بن الحسين بن علي، فعن مسعود بن مالك قال: قال لي علي بن حسين: ما فعل سعيد بن جبير؟ قال: قلت: صالح، قال: ذاك رجل كان يمر بنا فنسائله عن الفرائض وأشياء مما ينفعنا الله به، إنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء - وأشار بيده إلى العراق -(13). ويقول خصيف: (كان أعلمهم بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج عطاء وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير)(14). وعن أشعث بن إسحاق قال: كان يقال: سعيد بن جبير جهبذ العلماء(15). وقال فيه علي بن المديني: ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير، قيل: ولا طاووس؟ قال: ولا طاووس ولا أحد(16).
----------------------------------------
(1) - السير 4/321.
(2) - الحلية 4/272.
(3) - الحلية 4/274 - 275.
(4) - الحلية 4/373 بإسناد جيد.
(5) - الحلية 4/274 بإسناد جيد.
(6) - السير 4/340.
(7) - السير 4/340.
(1) - الطبقات 6/263.
(2) - الطبقات 6/263 - 264.
(3) - الطبقات 6/266.
(4) - المصدر السابق.
(5) - الطبقات 6/262 بإسناد جيد.
(6) - الطبقات 6/265 - 266.
(7) - السير 4/340.
(8) - الطبقات 6/262 - 263 بإسناد جيد.
(9) - الحلية 4/281.
(10) - الحلية 4/273، ورواه ابن سعد بإسناد جيد 6/257.
(11) - الطبقات 6/256 - 257.
(12) - الطبقات 6/258.
(13) - الطبقات 6/258 بإسناد جيد.
(14) - السير 4/340.
(15) - الحلية 4/273 بإسناد لابأس به.
(16) - السير 4/341.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد