الفتنة نائمة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

اتصل بي عدد ممن أعرف وممن لا أعرف يسألون:

هل صحيح بأن الشيخ عز الدين القسام - رحمه الله - شيعي؟!. وعجبت من هذه الفرية العظيمة على عالم مجاهد لقي وجه ربه قبل نيف وخمسة وستين عاماً، ولماذا تثار هذه المسألة التي لا أصل لها في هذا الوقت بالذات، ومن المستفيد من هذه الفتنة؟!.

 

أحالني السائلون على مجلة \"المجلة\" في عددها رقم 7081 تاريخ 4/11/2000، وعندما عدت إلى العدد المذكور، قرأت فيه استطلاعاً حول تشيع أحد منسوبي حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، وشمل هذا الاستطلاع مقابلة مع كل من: هذا الذي تشيع، وشيخ الأزهر، ورئيس جبهة علماء الأزهر.

 

لماذا هذا الاهتمام بهذا الفلسطيني الذي تشيع؟!، مع أن تشيعه ليس وليد الساعة، بل هو - وكما يقول - يعود إلى الفترة التي أمضاها في السجون الفلسطينية برفقة معتقلين من الشيعة اللبنانيين، ويعود أيضاً إلى الأيام التي أمضاها مبعداً في \"مرج الزهور\"، وإذا كان من حقه أن يتخذ غطاء جذاباً - كما يبدو له للإعلان عن تشيعه، نعم إذا كان من حقه أن يدغدغ مشاعر الفلسطينيين بانتصار حزب الله فما الذي تريده المجلة؟!.

 

هناك عشرات من الشيعة تسننوا في كل من: إيران، والعراق، وبلدان الخليج، لماذا لم تهتم المجلة بأحد منهم كما اهتمت بهذا الفلسطيني الذي تشيع؟.

 

الأكثر استغراباً في هذا الاستطلاع المقدمة التي استهل بها مراسل المجلة في فلسطين استطلاعه، ومن ذلك قوله:

 

\"محمد [يعني هذا الذي تشيع] من جيل من الشباب الفلسطيني الذين عرفوا العمل السياسي والوطني في أجواء تنتصر للمضطهدين والمستضعفين، وهذا جعل حتى اليساريين منهم يبدون تعاطفاً مع الطرف الذي يعتقدون بأنه ظلم تاريخياً.. \".

 

ولست أدري من الذين ظلموا تاريخياً ومن الذين ظلمهم؟ هل هم أبو بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - الذين سود القوم عشرات الآلاف من الصفحات في شتمهم، ورميهم بالكذب والنفاق، أم هم علي بن أبي طالب وآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يتقرب أهل السنة والجماعة إلى الله بحبهم، ومن ثم يكفون عن الخوض فيما جرى بين الصحابة في صفين والجمل، ومع ذلك فهم [والكلام لا يزال عن أهل السنة والجماعة] يعتقدون أن معاوية بغى على عليّ رضي الله عنهما؟!.

 

أما ما قاله المراسل عن انتصار اليساريين للمضطهدين والمستضعفين، فليس غرضي في هذا الرد بيان بطلانه، ولكن يبدو أن الأخ لم ينتبه إلى الأنظمة اليسارية في الوطن العربي كيف بدأت وماذا فعلت بالمضطهدين والمستضعفين؟!.

 

ويقول أسامة العيسى أيضاً:

 

\"وربما كان الشيعي الفلسطيني الأشهر هو الشيخ عز الدين القسام الذي قدم من سورية والذي يحمل الجناح العسكري لحركة حماس السنية اسمه، رغم أن الغالبية لا يعرفون هويته المذهبية\".

 

هذا قول المراسل، ولم ينقله عن مصدر، وكأنه حقيقة قطعية ليس فيها أدنى شك أو ريبة، والمجلة من جهتها لم تعلق على كلام مراسلها في فلسطين، وهذا الذي أثار أسئلة القراء، مما دفعني إلى الاتصال بإدارة تحرير المجلة، والاتفاق معهم على كتابة هذا الرد[1]، الذي سأوجزه في النقاط التالية:

 

1 - موطن الشيعة في بلاد الشام جنوب لبنان، والبقاع الشرقي - بعلبك - ، على أنهم لا ينفردون بسكنى هاتين المنطقتين، ففي جنوب لبنان سنة ونصارى بنسبة لا بأس بها، كذلك الحال في البقاع الشرقي.

وهاجر الشيعة فيما بعد من منطقتيهم إلى مناطق أخرى في لبنان [وضاحية بيروت مثال على ذلك]، كما هاجروا إلى مناطق مختلفة في بلاد الشام بسبب شظف العيش، وزاولوا فيها بعض الحرف التي اشتهروا بها، وهؤلاء لا يشكلون نسبة ولو واحد بالمئة في مواطنهم الجديدة.

 

ومن جهة أخرى فهم معروفون بين الناس باسم \"المتاولة\"، فقد يموت المهاجر الشيعي، ويموت ابنه من بعده، وقد يتسنن الحفيد ويندمج بأهل القرية، ومع ذلك فلابد أن يضاف لاسمه \"ابن المتوالي\" لتمييزه عن الأسماء المشابهة لاسمه.

 

والذي أعنيه هنا، أنه لا مجال في بلاد الشام لإخفاء الهوية الطائفية، ولولا خشية الاستطراد لذكرت أمثلة على ذلك.

 

2 - الشيخ عز الدين القسام (1882 - 1935) بن الشيخ عبد القادر مصطفى يوسف بن محمد القسام من بلدة جبلة الساحلية جنوب اللاذقية وتبعد عنها حوالي [ثلاثين كيلو متراً تقريباً].

 

ومما يجدر ذكره أن الساحل السوري من اللاذقية، وحتى حدود لبنان تسكنه أكثرية سنية وأقلية من النصارى، وليس فيه طوائف أخرى. ومن الأخطاء التي يقع بها بعض المؤلفين المعاصرين، خلطهم بين جبال النصيرية والطائفة النصيرية التي تسكنها وبين الساحل المجاور لهذه الجبال، وهجرة أبناء هذه الطائفة إلى الساحل بدأت - وبنسبة متواضعة - بعد عام 1920 م، وكان القسام في هذا العام يقترب من سن الأربعين.

 

أسرة الشيخ عز الدين معروفة في جبلة وما حولها بالعلم والفضل، وأبوه من قبله كان إماماً لجامع الحدادين، وفي هذا الجامع كان أبناء هذه الأسرة يعلمون الناس القراءة والكتابة وسائر العلوم الشرعية، وبشكل أوضح كانوا قادة أهل السنة، وعنهم يتلقى الناس أمور دينهم.

 

ابتعث الشيخ عز الدين إلى الأزهر عام 1896، وعاد إلى بلدته عام 1904 يحمل شهادة العالمية، ودراسة الأزهر فتحت أمامه آفاقاً جديدة، ففي جامع الأزهر كان القسام وزميله عز الدين التنوخي يداومان على دروس الشيخ محمد عبده، ومن خلال هذه الدروس كان ولا بد أن يتعرفا على الشيخ رشيد رضا وغيره من أقطاب الدعوة الإصلاحية السلفية بمصر، فتأثر بهم وبمنهجهم، وكان في جبلة لا يعرف غير مذهب أبيه وطريقته الصوفية القادرية.

 

وبعد عودته إلى جبلة كان القسام يتردد على زميله الشيخ عز الدين التنوخي في دمشق، والتنوخي عرّفه على العالم السلفي كامل القصاب [1872 - 1954]، وكان هذا التعارف بداية رحلة بين الرجلين استمرت إلى أن لقي القسام وجه ربه شهيداً [نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً] عام 1935.

 

رشيد رضا، محب الدين الخطيب، عز الدين التنوخي، كامل القصاب، عز الدين القسام.. هؤلاء العلماء الأفاضل، كان بينهم تعاون وتنسيق في مختلف المجالات: الدعوية، والسياسية، والجهادية، ومن الأمثلة على ذلك:

 

 - مقاومتهم لطغيان الاتحاديين، ولظلم جمال باشا وتنكيله بمختلف الاتجاهات السياسية دون أي تفريق ما بين الانفصاليين - عملاء الغرب - والإصلاحيين الأحرار.

 

 - تعاونهم مع الحكم العربي الفيصلي [1918 - 1920]، مع سعيهم الحثيث لترشيد هذا الحكم، والحيلولة دون ارتمائه بأحضان الإنكليز والفرنسيين.

 

 - مقاومتهم للاحتلال الفرنسي، وقيادة الناس في ميادين الجهاد والبذل والتضحية.

 

3 - حاول بعض من كتب عن القسام، وجهاده للفرنسيين بالذات أن يقرّبه من اتجاهه الحزبي، فزعم ناس من هؤلاء أنه ثوري قومي ومحارب للاقطاعية والرأسمالية، وآخرون كانت تحركهم نوازع طائفية فيما كتبوا، والحق الذي لا مرية فيه أن القسام عالم عامل جاهد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. ومن جهة أخرى، كان ينسق مع الشيخ كامل القصاب وإخوانه علماء دمشق الذين كانوا يجندون الناس، ويقدمون إليهم السلاح والمؤن قبل معركة ميسلون وبعدها، ولهذا فقد حكم عليهم الفرنسيون كما حكموا على القسام بالإعدام.

 

ومن جهة ثالثة فرفاق القسام كلهم من السنة، وعائلاتهم معروفة لمن أراد أن يتثبت، ونذكر من بين هؤلاء:

 

عمر البيطار، أسعد رشيد رضا، عبد الملك القسام، ظاهر القسام، الشيخ محمود عطور، الشيخ محمد الحنفي، الشيخ أحمد إدريس، شحادة عمر زكريا، حسن سعدية، صبحي حليمة، الحاج علي عبيد، خيرو القصاب.

 

والبلدان التي انطلقت منها ثورته سنية مثل:

 

جبلة، اللاذقية، قرى جبل صهيون والحفة، وجسر الشغور.

 

4 - استقر الشيخان: كامل القصاب، وعز الدين القسام بمدينة حيفا، بعد صدور الحكم عليهما بالإعدام، أما الأول فقد أنشأ مدرسة تبز مدارس التبشير، وهذا هو ديدنه التعليمي التربوي في كل مكان يقيم فيه، ولقد استعان به الملك عبد العزيز في إنشاء أول مجموعة من المدارس عام 1925، ومع دوره التعليمي فقد استمر نشاطه عضواً قيادياً في أعلى هيئة وطنية في سورية.

 

أما الثاني: فقد عمل مدرساً في مدارس الجمعية الإسلامية بحيفا، وعندما انتهى القصاب من بناء جامع الاستقلال ومدرسته عام 1925 من أمواله الخاصة، وقع اختياره على صديقه القسام ليكون إماماً وخطيباً لهذا الجامع الذي كان الناس يتقاطرون إليه من مختلف مناطق فلسطين ليستمعوا إلى خطب القسام ودروسه، ومن هذا المسجد بالذات انطلقت كتائب الجهاد.

 

5 - الإعداد للجهاد لم يشغل القسام عن واجبه في إنكار المنكرات، ومحاربة الشركيات والبدع والخرافات، وهذا هو شأن العلماء المصلحين في وضوح منهجيتهم وشمولية دعوتهم، ومن الأمثلة على ذلك:

 

تصدى القسام والقصاب لبدعة الجهر بالتكبير والتهليل وقراءة القرآن في جنازة الميت، ورد عليهما الشيخ محمد صبحي خزيران الحنفي [رئيس المحكمة الشرعية في عكا] والشيخ عبد الله الجزار [مفتي عكا] بفتوى ينصان فيها على أن هذه العادة جائزة، ودافعا عن رأيهما هذا في كتاب مشترك باسم \"فصل الخطاب في الرد على القسام والقصاب\" كما اتهما القسام والقصاب في رد آخر بالوهابية [أي بانتمائهما إلى الدعوة السلفية التي رفع لواءها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ]، ورد القسام والقصاب على هذا الكتاب بكتيب باسم: \"النقد والبيان في رد أوامر الخزيران\"[2] تضمن أدلة قوية من الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة، ومن بينهم أقوال أبي حنيفة وأصحابه المخالفة لأقوال المردود عليهما.

 

ومن البدع الأخرى التي حاربها القسام: حج النساء إلى مزار الخضر على سفوح جبل الكرمل، والذبح على أعتاب المزار لغير الله - سبحانه وتعالى - وكان القسام قوياً في هجومه على الفرقتين المارقتين عن دين الإسلام: البهائيون الذين نقلوا مقام الباب من بلاد فارس إلى منحدر جبل الكرمل في حيفا عام 1908 م، والقاديانيون الذين أنكروا فرضية الجهاد، وكانوا هم والبهائيون من عملاء الإنكليز.

 

 * * *

 

وإذا كانت هذه هي سيرة القسام منذ ولادته وحتى وفاته - شهيداً - واضحة ليس فيها ما يدعو إلى الشك أو الريبة، فمن أين جاء مراسل \"المجلة\" بهذا الاتهام له بالتشيع؟!.

 

ومن جهة أخرى فإن شعب فلسطين - في جهادهم وبطولتهم - أحق بالإعجاب والاقتداء من أي حزب أو جهة خارج فلسطين. إنهم يجاهدون منذ ثمانين عاماً دون كلل ولا ملل، وليستقرئ من شاء أحداث ثورة النبي موسى عام 1920، وثورة البراق عام 1929، وثورة القسام التي اشتدت عام 1934 ولم تتوقف إلا عام 1939 أي بعد استشهاده بأربع سنين، وحرب عام 1948، ثم أنشطة الفدائيين التي لم تنقطع، والانتفاضة الأولى والثانية، ونسأل الله أن تستمر حتى تتحرر فلسطين.

 

هذا الشعب الأعزل الذي لم يحطمه التشرد في مختلف بقاع الأرض، ولم يرهبه الحصار الظالم.. هذا الشعب الأعزل الذي يستهتر فتيانه بالجيش الغاشم المدجج بأحدث أنواع الأسلحة، ويواجهون المدرعات والمدافع بحجارتهم المباركة، هو الذي سيحرر فلسطين مهما طال الزمن.

 

أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

 

وفي الختام أقول: من أصعب الأمور على نفسي الخوض في قضايا طائفية، ولولا سعة انتشار مجلة \"المجلة\" لما كتبت هذا التصويب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين[3].

 

ــــــــــــــ

[1] - نكثت إدارة تحرير مجلة \"المجلة\" بوعدها في نشر هذا الرد زاعمة أنها تريد إغلاق هذا الملف، وهذا يعني أن القراء علموا من المجلة بأن الشيخ المجاهد عز الدين القسام شيعي (!!) ولا مجال عندها لتصحيح هذا الخطأ الشنيع الذي ارتكبته، فأين الأمانة الصحفية؟!.

[2] - نشرت مجلة الزهراء تقريضاً لهذا الكتاب أثنى فيه رئيس تحرير المجلة الأستاذ محب الدين الخطيب على العالمين الفاضلين: كامل القصاب وعز الدين القسام. انظر مجلد الزهراء الصادر في عام 1344 ه.

[3] - من شاء الإطلاع على سيرة الشيخ عز الدين القسام فليراجع الكتب التالية: التيار الإسلامي في فلسطين وأثره في حركة الجهاد، وهو رسالة ماجستير للباحث محسن صالح، وكتاب ثورة الشيخ عز الدين القسام، بسام العسلي، وكتاب جهاد شعب فلسطين، د. صالح مسعود أبو يصير، وكتاب ألف يوم مع الحاج أمين، زهير المارديني، حقائق عن قضية فلسطين للحاج أمين الحسيني، وكتيب ونشرات أخرى صادرة عن الهيئة العربية العليا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply