من رحم الفشل يولد النجاح ( 3 ) .. التاريخ يشهد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عجيب شأن هذه السنة الكونية العجيبة التي اقتضى الله أن تكون في هذه الحياة ألا وهي  من رحم الفشل يولد النجاح  وقد رأينا في المرة السابقة كيف أنه حتى الرسل - عليهم السلام - قد جربوا هذه السنة الكونية، وعاشوا خلالها، وتعرضوا في البداية للتكذيب والاستهزاء والسخرية من قومهم حتى نصرهم الله- تبارك وتعالى - في نهاية الأمر.

وقد يسارع متوهم فيقول: إن هؤلاء أنبياء الله ورسله، معهم مدد الله وتوفيقه، وهم مؤيدون بالوحي من السماء، يرسم خطاهم ويوجه تحركاتهم، فكيف نقيس أنفسنا عليهم؟!

نقول: كلا وألف كلا، فبنظرة بسيطة إلى جميع حلقات التاريخ وحتى في عصرنا الحاضر، نجد تصديق هذه السنة الكونية، سواء في حياة الأفراد أو في حياة الأمم، هذا فضلاً عن أن عون الله وتوفيقه ليسا حكرًا على الأنبياء والمرسلين، وإنما هما متاحين لكل مؤمن أحسن التوكل على ربه، وجد واجتهد في تحصيل الأسباب.

ودعنا الآن نأخذك في لمحات خاطفة عبر حقب مختلفة من التاريخ في حياة الأمم والأفراد، لتعلم جليًا أن أعظم نجاحات الدنيا لم تولد إلا من رحم أقسى وأصعب ظروف الفشل.

 

أولاً: سنة فردية:

ونبدأ أولاً بتقليب صفحات مشرقة من تاريخ العظماء، الذين قهروا العجز وتغلبوا على ظروف الفشل، حتى انقلبت في حقهم المحنة منحة، والبلية عطية، وتحولت عوامل الفشل والإخفاق إلى أعظم دافع لهم نحو تحقيق أكبر إنجازاتهم.

 

نماذج وأعلام من أمة الإسلام:

إن الذي يقلب صفحات تاريخ أمتنا العظيمة، ليصيبه العجب والذهول والانبهار من هذا الكم الهائل من العظماء الذين تصدق عليهم هذه السنة، والذين انتزعوا أعظم النجاحات من بين أنياب أعتى ظروف الفشل والإخفاق، فمن هؤلاء:

1ـ الصقر المحلق

سأل أبو جعفر المنصور يومًا جلسائه: أتدرون من هو صقر قريش؟  قالوا: أنت. قال: لا. فعددوا له أسماء مثل معاوية وعبد الملك بن مروان، قال: لا... بل عبد الرحمن بن معاوية. دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيدًا برأيه، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر، ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصَّر الأمصار، وجند الأجناد وأقام ملكًا بعد انقطاع بحسن تدبيره وشدة عظمه..

ولنبدأ معًا قصة ذلك العملاق من أولها لنرى جلياً كيف تشعل ظروف الفشل فتيل النجاح!

تبدأ تلك القصة الرائعة عندما سيطر العباسيون على زمام الأمور في المشرق، ومضوا يتعقبون الأمويين في كل مكان، حتى أفنوا عددًا كبيرًا منهم، وتفرق من بقي أو كُتب له النجاة في أنحاء البلاد، وأعيت العباسيين الحيلة في طلبهم أو الوصول إليهم لاستئصالهم وإبادتهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك.

 

صورة دامية:

خرج عبد الرحمن مع أخ له صغير السن ـ لم يتجاوز الثالثة عشرة ـ وبعض أهله، واتجه إلى رجل من معارفه فطلب منه أن يشتري له عددًا من الدواب، ويهيئ له ما يتزود به في سفره، ولكن بعض عيون العباسيين دلوا عليه فانطلقوا في إثره، فخرج حتى وصل إلى شاطئ الفرات فأحاطت به خيول العباسيين فألقى بنفسه في الماء ومعه أخوه وانطلقا يسبحان نحو الشاطئ الآخر وكان الشاطئ بعيدًا فأخذ عبد الرحمن يسبح بقوة وحماس وكان يجيد السباحة، بينما بلغ أخاه التعب وهو في منتصف النهر وخشي الغرق ففترت عزيمته، وخارت قواه، وأراد العودة إلى الشاطئ وهم يخدعونه وينادونه بالأمان، فراح عبد الرحمن يناديه ويحثه على السباحة ويحذره من غدر العباسيين وخداعهم، إلا أنه كان قد بلغ من التعب والإجهاد ما جعله يغتر بأمانهم ويؤمل في عهودهم، فرجع إليهم، وما كاد يصل إليهم وتتلقاه أيديهم حتى أحاطوا به بعد أن تمكنوا منه وضربوا عنقه أمام أخيه وهو ينظر إليه ولا يملك له شيئًا.

وصل عبد الرحمن الداخل إلى إفريقية بعد عناء شديد، وما لبث أن لحق به مولاه بدر الرومي ومولاه سالم ومعهما كثير من أمواله التي تركها هناك.

ولم تكن الأمور في إفريقية بأقل سوءًا مما تركها في المشرق، فقد صار عبد الرحمن بن حبيب الفهري ـ والي إفريقية ـ يسوم الأمويين الفارين إلى بلاده قتلاً وذبحًا، يستحل دماءهم وينهب أموالهم، بعد أن كان حليفًا لهم بالأمس القريب.

 

عبد الرحمن عند أخواله من البربر:

ونزل عبد الرحمن الداخل على أخواله بني نقرة  ـ من بربر طرابلس ـ وعندما علم عبد الرحمن بن حبيب ذلك أخذ يتحين الفرصة لقتله ويحتال لاستدراجه، كما فعل بغيره من أبناء عمومته.

وأدرك عبد الرحمن الداخل ما يدبره لهº فخرج إلى مكناسة، ونزل على قوم من قبيلة زناته البربريةº فأحسنوا استقباله وناصروه، ولكن عبد الرحمن بن حبيب لم يكف عن طلبه وتتبعه، فهرب إلى برقة، وظل مستخفيًا بها مدة طويلة استطاع خلالها أن يتصل بعدد كبير من قبائل البربر واستجار ببني رستم ملوك تيهرت، وراح يجمع حوله أشتات الأمويين الذين فروا من اضطهاد العباسيين، وأمراء البيت المرواني الذين نجوا من الذبح.

 

الطريق إلى الأندلس:

وكان عبد الرحمن الداخل طوال تلك المدة يراقب الأمور من حوله بوعي وحذر، ويدرس أحوال الأندلس بعناية شديدة ليتحين الفرصة المناسبة للعبور إليها.

وتجمع حول عبد الرحمن الداخل أكثر من ثلاثة آلاف فارس، كلهم يدين له بالولاء، ويوطن نفسه على أن يقتل دونه، وتقدم عبد الرحمن نحو قرطبة حاضرة الأندلس وعاصمتها.

ودخل عبد الرحمن قرطبة فصلّى بالناس، وخطب فيهم، فكان ذلك بمثابة إعلان ميلاد الدولة الأموية في الأندلس، وبويع له بالخلافة في 10 من ذي الحجة 138هـ  [18 من مايو 756م]، ليصبح أول أموي يدخل الأندلس حاكمًا ويطلق عليه ذلك اللقب الذي عُرف به عبد الرحمن الداخل، ومؤسس تلك الدولة الفتية التي أصبحت حضارتها منبعًا لحضارة أوروبا الحديثة، وظلت منارًا للعلم والمدنية عبر قرون طويلة من الزمان.

ونحن هنا ندعوك أيها القارئ أن تسأل نفسك، ترى أي الأمرين أسهل، ما فعله صقر قريش من إقامة دولة كاملة، في ظل تلك الظروف الصعبة التي قد تبدو مستحيلة من ضعف في الإمكانيات، وقلة في الموارد، ومطاردة شرسة من أقوى دولة على وجه الأرض في ذلك الزمان، وكل هذا وهو مطارد وحيد فريد، ليس معه إلا توفيق ربه، ثم عزم لا يلين وإرادة حديدية لا تعرف الكلل واليأس، أهذا كله أصعب أم ظروفك التي تتعلل بها، وتستخدمها كشماعة لتعليق تكاسلك وضعف إرادتك؟!

 

2ـ الأسد الشيخ:

وها هو عملاق آخر، يطل علينا بهامته الغراء من بين شرفات التاريخ، ليبين لنا أن الصعاب أبداً لا تهزم الرجال، وأن الظروف مهما بلغت قسوتها لا تستطيع أن تحكم على الإنسان بالفشل إلا إذا أراد هو ذلك، ولئن كان عبد الرحمن الداخل قد نجح في إقامة دولة لبني أمية فإن عمر المختار أو الأسد الشيخ قد استطاع بإيمانه بربه، ثم بقوة عزيمته وشدة بأسه أن يقف مع شعبه صامداً صمود الأبطال أمام إحدى القوى العظمى في ذلك التاريخ، ممثلة في إيطاليا الفاشية.

لقد ناهز هذا العملاق الخمسين من عمره عندما شرعت إيطاليا في احتلالها لليبيا والسبعين عندما أعدم.

تعجز أقلام الكتاب أن تكتب عشر معشار مناقبه وبلائه الحسن في سبيل الله - تعالى -، فما أكثر تلك المعارك التي خاضها من أجل الدفاع عن ليبيا المسلمة ضد الطليان الغاصبين في ظروف من الفقر ونقص العدة والعتاد وكبر السن وقلة الناصر المعين وأمام قوة صليبية غاشمة تعد من أقوى دول العالم آنذاك، ومع ذلك فقد تحققت على

يديه - رحمه الله - تعالى انتصارات باهرة ما زالت تبهر العدو قبل الصديق.

يقول غراتسياني قائد القوات الإيطالية: وقعت بين جنودنا وعمر المختار أكثر من 277 معركة في مدة لا تتجاوز 21 شهراً.

ومجمل المعارك التي خاضها عمر المختار خلال العشرين سنة من القتال العنيف تفوق الألف معركة.

ولد عمر المختار سنة 1862م بمنطقة البطنان الصحراوية القريبة من الحدود المصرية، وتربى تربية البدو في مضارب قبيلة المنفة وكانت قبيلته من قبائل المرابطين الذين عرفوا تاريخيًا برباطهم على ثغور ديار الإسلام وحمايتهم، تيتم في صغر سنه ولكن كفله الشيخ حمد الغرياني ورباه في ظل تعاليم الطريقة السنوسية وتلقى تعليمه الأولي بمعهد الجغبوب على يد كبار علماء ومشايخ السنوسية وفي مقدمتهم الإمام السيد المهدي السنوسي والذي قال واصفًا عمر المختار: لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم.

كلف عمر المختار عام 1906م بإدارة شئون قبيلة العبيد والتي كانت من القبائل صعبة المراس وكانت تستعصي على السلطة المركزية في طرابلس الممثلة للخلافة الإسلامية وظل كذلك حتى عام 1911م عندما غدرت إيطاليا بالليبيين وفاجأتهم بالعدوان وهي نقطة التحول في حياة الشيخ عمر المختار وبدأ القصف الإيطالي للمدن الليبية والنزول على السواحل، فأعلن السيد أحمد الشريف التعبئة والنفير من خلال رسالة حث الناس فيها على الجهاد والتصدي للإيطالييين، وبهذه المعنويات العالية انطلق عمر المختار في استنفار القبائل وكانت أول قبيلة تستجيب له هي قبيلة العبيد فزحفت بحدها وحديدها إلى الخطوط الأمامية وقاتلوا قتال الأبطال تارة في برقة البيضاء وتارة في الجبل الأخضر.

وبحلول عام 1926م سقطت الجبهة الغربية أمام المد الإيطالي واتجه الشيخ عمر المختار ورفاقه إلى الجبل الأخضر وشكلوا هيئة قيادية جديدة سميت بهيئة الجبل يرأسها الشيخ عمر المختار، وكان عمر المختار دائمًا في المقدمة حتى قال الشيخ عبد الحميد العبار: كان عمر المختار يتعبنا بقتاله معنا لأننا كنا نخاف عليه من أن يمسه سوء أكثر من خوفنا من العدو ولكنه أرعب أعداءه حتى أنهم وصفوه بأوصاف غريبة فقالوا: عنه: إنه يستطيع الاختفاء فلا تراه الأعين وبأن جسمه لا ينفذ منه الرصاص

وبالرغم من نصب المشانق وفتح المعتقلات والسجون واستعمال الطائرات والمدافع والقنابل ذات الغاز السام المحرمة دولياً، بالرغم من كل ذلك لم يتزحزح عمر المختار قيد أنملة ووقف كالعملاق في وجه غراتسياني وجيوشه المرتزقة وكلف إيطاليا قرابة الربع مليون قتيل و16 مليار فرنك تقريبًا الأمر الذي أنهك إيطاليا عسكريًا ومعنويًا.

وفي 11 سبتمبر عام 1931م وبينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة سلطنة في كوكبة من فرسانه عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قواتها لحصاره ولحقتها تعزيزات كبيرة، واشتبك الفريقان في وادي بوطاقة، وقبض على عمر المختار وعقدت له محاكمة هزلية صورية في مركز إدارة الحزب الفاشستي ببنغازي مساء يوم الثلاثاء عند الساعة الخامسة والربع في 15 سبتمبر 1931م، وبعد ساعة واحدة صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقًا حتى الموت، وعندما ترجم له الحكم قال الشيخإن الحكم إلا لله لا حكمكم المزيف، إنا لله وإنا إليه راجعون وفي صباح يوم الأربعاء 16 سبتمبر 1931م اتخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، وأحضر 20 ألف من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين خصيصًا من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم، وأحضر الشيخ عمر المختار مكبل الأيدي وعلى وجهه ابتسامة الرضا بالقضاء والقدر، بل قل إنها ابتسامة الشهيد المسبشر بالقدوم على ربه، وبدأت الطائرات تحلق في الفضاء فوق المعتقلين بأزيز مجلجل حتى لا يتمكن عمر المختار من مخاطبتهم، وفي تمام الساعة التاسعة صباحًا سلم الشيخ إلى الجلاد، وكان وجهه يتهلل استبشارًا بالشهادة وكله ثبات وهدوء فوضع حبل المشنقة في عنقه وبعد دقائق صعدت روحه الشامخة إلي بارئها، بعد حياة حافلة بالإنجازات الرائعة، التي تحكي أروع قصة لانتصار الإيمان والعزيمة على أعتى ظروف اليأس والفشل والإحباط.

 

علو في الحياة وفي الممات   بحق أنت إحدى المعجزات

وفي المرة القادمة إن شاء الله سنستكمل عرض تلك النماذج التاريخية التي تثبت حقاً وتعلمنا علم اليقين أنه من رحم الفشل يولد النجاح.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply