الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فيوشك تاريخ الإسلام أن يصبح لهوًا على الألسنة، ولغوًا في الصحف، ومرتعًا للظن المتسرع دون اليقين المتثبت، وهدفًا لكل متقحم على الحق بمثل جراءة الباطل، ومخاضة يخوض فيها كل من ملك لسانًا ينطق، أو عقلاً يفكر، أو قلمًا يخط، وإنما ابتلى زماننا بهذا لأسباب كثيرة:
أولها: أن العصر الذي نعيش فيه يُعجل الناس عن تحقيق معنى الدين نفسه في حقيقة قلوبهم.
وآخرها: أن المسلمين في زماننا بلغوا من العجز والقلة والهوان على أنفسهم مبلغًا مهَّد لشياطين الإنس والجن مسالك كثيرة إلى مقر الغرور في بعض الأفئدة، فسوّل لأصحابها فيما يسول أن فهموا الإسلام «فهمًا جديدًا»، فكان لهذه الكلمة سحرها حين مست مكان الغرور والكبرياء في نفوسهم، واحتملهم هذا الغرور على أن يسيئوا الظن بما يفهمون من ماضيهم، جله أو كله، وخيل إليهم سوء الظن أن ذلك هو طريق الحق لإحياء دين الله في نفوسهم وإقامة شريعته في أرضه، ثم خرج بهم مخرجًا أوقع في أوهامهم أنهم قادرون على أن يجددوا أمر هذا الدين، بمجرد النظرة الخاطفة المتعسفة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي تاريخ أسلافهم من المسلمين.
ولا أظنني أخطئ شيئًا في التقدير إذا زعمت أن هذه النابتة، لم يبتل الإسلام بمثلها قط، على كثرة ما انتابه من النابتات المتتابعة على مدى عصوره كلهاº في حال بأسه وسطوته، وفي حال ضعفه وفترته، وهي عندي أخطرها جميعًا وأخوفها على دين الله، لأنها نجمت في عصر قد حطم جميع القيم الإنسانية العتيقة، ودمر تراث الأخلاق التي فطر عليها ولد آدم في الآباد المتطاولة، ولا أسيئ الظن فأدعي أنهم يأتون ما يأتون عن عمد، بل أقول: إن وباء هذا العصر قد أصابهم منذ نقله الاستعمار إلى الأرض المسلمة، فَنُشِّئوا فيه لا يكادون يحسون بالذي أصابهم من آفاته، فاتسم تفكيرهم من أجل ذلك بسمة التحطيم والتدمير، وسمة الغلو والجراءة، وسمة الإصرار على تحقيق معاني الغرور الإنساني في أعمال الإنسان، وأولها الفكر.
وقد تفشت في أهل الإسلام منذ زمن قريب فاشية شديدة الخطر على تاريخ الإسلام كله، بل على دين الله نفسه، نظرت متعجلة في دين ربها، وخطفت خطفة في تاريخ أسلافها، ثم انتزعت من ذلك كله حكمًا يدمغ المسلمين جميعًا منذ القرون الأولى من الهجرة، باطراح الدين واتباع الشهوات، فزعمت مثلاً: أن الإسلام لم يطبق ولم يعمل به إلا مدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومدة أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- -، ومدة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ثم مرج أمر الإسلام واضطرب!
والخطأ في مثل هذا الحكم الدامغ يكبر عن أن يسمى خطأº إنه الحالقة: حالقة الدين لا حالقة الشعر، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -º تستأصل دين الصحابة والتابعين، وتستأصل أمانتهم في تبليغه، وتستأصل ما بذلوه في نشره في مشارق الأرض ومغاربها، وتستأصل تاريخهم، وتستأصل تاريخ الحياة الإسلامية كلها ثلاثة عشر قرنًا! فيا لها من بلوى تستهلك دين امرئ إذا نطق بها، وتخسف بتقوى سامع إذا لم ينكرها، ورَدٌّ مثل هذه المقالة، يوجب على منكرها أحد طريقين: إما أن يسرد على القائل بها تاريخ الإسلام كله بجميع تفاصيله، ويقف به على كُلّ موضع منها، وهذا شيء لا يتيسر في كتاب واحد، فضلاً عن مقالة، فضلاً عن حديث، وإما أن يوقفه على فسادها في صريح العقل، ويبين له ما تفضي إليه من بَهت أمة كاملة، بل أمم بأسرها، بشيء لا يستطيع عاقل أن يحتمل وزره في فكره وتقواه ودينه، وهذا هو أيسر الطريقين، وأقربهما إلى تصحيح المقاييس، وإلى إقامة التفكير على أصل واضح وثيق.
وكلمة «الإسلام» كلمة شاملة لدين الله كله، وإذا دخلت في حكم قاطع كهذا الحكم «إن الإسلام لم يطبق إلا مدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر»، صار حكمًا شاملاً بطبيعته، فإذا ألقي إلى سامع، لم يجد عندئذ مناصًا في العقل ولا في اللغة ولا في البيان، من تعميم الحكم في كل ما يتناوله لفظ «الإسلام»، فإذا استمعه سامع كأهل زماننا الذين وصفنا قبل، كان هذا الحكم ظلاً كثيفًا قاتمًا كئيبًا يلقي على العصور الأولى كلها من قتامه وكآبته، يدفع إلى الاستخفاف والتحقير والغلو في التهزؤ بأهل هذه العصور، والشك في أمورهم، ويعميه عن معرفة الحقائق، ويصرفه إلى البحث عن المثالب يتسرع إليها ويتقممها من كل كتاب ومن كل خبر، والناس أسرع شيء إلى سوء الظن، فإذا كان سوء الظن والثلب والتحقير مما يعينهم على نسبة القدرة والصلاح والعلم والفقه إلى أنفسهم فهم عندئذ أسرع إليه من السيل إلى الحَدُور (أي: الأرض المنحدرة)، وإذا كانت نسبة الصلاح والعلم إلى أنفسهم مدعاة إلى صرف أنظار الناس إليهم بالتسليم والتبجيل والإعجاب، فسوء الظن والثلب والتحقير، أسرع في عقولهم وألسنتهم من النار المتضرمة في الهشيم اليابس، وماذا بعد هذه البلوى، إلا أن يصبح تاريخ الأمة المسلمة منذ اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة سنة 23 من الهجرة (منذ قتل عمر) إلى يوم الناس هذا في سنة 1371هـ وقودًا لكلمة يزل بها لسان، ويتبجح بها صوت، وتستخفها أذن؟ أي إنسان يرضى لنفسه هذه الظنة الجائحة، فضلاً عن إنسان عاقل، فضلاً عن مسلم، فضلاً عن مسلم يتقي الله، يرجو رحمته، ويخاف عذابه؟
قتل عمر وخلف أئمة الصحابة، فعاشوا زمن عثمان، وزمن علي، وزمن معاوية - رضي الله عنهم -، وبقيت منهم بقية في عصر الأوائل من بني أمية، ثم خلفهم الذين اتبعوهم بإحسان من علماء الأمة وفقهائها وأهل دينها، وهم متوافرون يومئذ إلى أوائل عصر بني العباس، وكانوا هم علماء الأمة، وورثة النبوة، القائمون ببث دين الله في الأرض، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، المبلغون عن نبي الله ورسوله، وعن أصحابه هذا الدين إلى الناس، وبهم بلَّغ المسلمون هذا الأمر كله، وبما بلغونا من أمر الدين قامت حجة الله علينا، وإلى ما بلغوا كان مرجع أئمة المسلمين وفقهائهم وعلمائهم طول هذه القرون، ولولاهم، ولولا ما بلغوا لدرست سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذهب الفقه، ولفقد الناس الحجة والبرهان في دينهم، ولما وجدوا وسيلة لتحكيم الله وتحكيم رسوله في شيء مما اختلف فيه من أمر الدين، أفيمكن في العقل أن يوصف العصر الذي كان فيه هؤلاء الأمناء على دين ربهم، بأنه عصر لم يطبق فيه الإسلام؟! وأين غابوا جميعًا إذا كان الإسلام لم يطبق في زمانهم؟ ولو شهدوا، وصحت هذه الكلمة على زمانهم، فكيف يؤتمنون على ما بلغوا من أمر الدين؟
بل إلى أي شيء يحتكم قائل هذه الكلمة في الحكم على عَصرهم؟ أليس يحتكم ويرجعُ في الحكم عليهم إلى ما بَلغَه هو من دين الله الذي بلّغوه هُم إليه؟ وأنى له أن يعرف الإسلام إلا بما عَرَّفوه هُم له ولمن سبقه من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ بل كيف يُعقَل أن يبلِّغوا هذا الشيء الذي يستند إليه هذا القائل، ويكونونَ هم أوَّلَ الناقضين والهادمين بإغفالهم إقامته، بل بعملهم على إقامة خلافه؟ أفي العَقل شيءٌ بعد ذلك هو أَفسَدُ معنى ومدخلاً ومخرجًا من هذه الكلمة الجائرة، من هذا الحكم المستأصل لدين هؤلاء الناس وعلمهم وأمانتهم؟ كبرت كلمة وساء حكمًا.
وأحبٌّ أن أزيد الأسئلة: ما هو هذا الإسلام الذي لم يطبق: أكفروا بأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله؟ أتركوا صلاتهم وأضاعوها وسهوا عنها؟ أمنعوا زكاتهم واحتجنوها (أي خزنوها) فلم يؤدوا حق الله عليهم؟ أتركوا شهر صيامهم فأفطروه؟ أأبوا أن يحجوا إلى بيت ربهم قانتين مسبحين مكبرين؟ أعتزلوا الجهادَ بأموالهم وأنفسهم رغبة عنه وحرصًا على الحياة؟! أأغفلوا أدبَ الله لهم وأدب رسوله؟ أنقضوا عهدَ الله فخانوا الأمانة وبغوا في الأرض؟ أعطَّلوا أحكامَ الله وفرضوا على الناس أحكامًا من عند أنفسهم؟ أشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله؟ أأبطلوا الحدود ونصروا الخارجين عليها والمعتدين؟ أأعرضوا بقلوبهم ووجوههم عن كل ما تضمَّنَه كتابُ الله، وما احتوته سُنَّة رسوله، وعادوا في جاهلية لا يعرفُ فيها لله دين، ولا يطاعُ له فيها أمرٌ، ولا ينتهى فيها عن منكر، ولا يؤتى فيها معروف؟ أرتكَسُوا هم والأمة كلها قرنًا من بعد
قرنٍ, في تعطيل الإسلام في أحكامهم، وفي أنفسهم، وفي أبنائهم، وفي الذين دخلوا في هذا الدين حتى شمل ما بين الهند شرقًا إلى المغرب الأقصى غربًا، ومن حدود الروم شمالاً إلى أقصى الأرض جنوبًا؟ أيّ عاقل يستطيع أن يقول: نعم، في جوابِ سؤالٍ, واحدٍ, من هذه الأسئلة، فضلاً عنها كلها؟
ولو غلغَل المرءُ قليلاً فسأل نفسه: أمن الممكن لأمة تنقُض دينها هذا النقضَ، الذي استوجبَ ذلك الحكم، أن تفتح الأرضين كلها، وتحدث فيها أكبر تغيير حدث في تاريخ الجنس البشري كله: تتغير بهم ألسنة الناس إلى العربية، ودينهم إلى الإسلام، وتنابُذُهم إلى الألفة، وتداعيهم باسم العصبية والجنسية، إلى شيء واحدٍ, هو جماعة المسلمين، ويقومُ هذا الأمرُ في الأرض ثلاثة عشر قرنًا، مع شدة ما انتابَ المسلمين على مرّ القرون من النوائب، إلى أن كانت النائبة الكبرى في هذا العصر، وهي نائبة الاستعمار، ويَظَلٌّ مع ذلك هذا الرباطُ الوثيق مشدودًا، لا ينحلٌّ من ناحية، إلاَّ تداركته آلاف الأسباب من هذا التراث من نواح أخرى؟ أكان ممكنًا لهؤلاء الذين خانوا أمانة الله أن يبلغوا هذا المبلغ؟ اللهم اشهد، فإنها كلمةٌ لو صحت لأزالت العقول من مستقرّها؟ وصدق الله رَسُولَهُ والمؤمنين: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لاَ يُشرِكُونَ بِي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ [النور: 55]، وما من حرفٍ, من هذه البشارة إلا أتمه الله على محمد وأصحابه وتابعيهم، إذ كانوا خير أمةٍ, أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله في سرّهم وعلانيتهم.
ومن الحق على من وسوسَ في قلبه هذا الحكم الشامل: أن الإسلام لم يطبَّق إلا مدّةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومدة أبي بكر وعمر، أن يسأل نفسه: بم يصحٌّ مثل هذا الحكم؟ إن بديهة العقل تجيبه بأنه لا يسوغُ له أن يحكم على عصور كاملة بحكم شاملٍ,، إلا بدلائل بينة المعاني صحيحة الأصول، وشرطُ هذه الدلائل أن تكون مستقصية لأهل الإسلام جميعًا في كل أرض، وأن تكون شاملةً أيضًا لكل ما يكون به إسلام الناس إسلامًا، وأن يكون ما يدّعي المدَّعي أنه أبطِلَ، أمرًا من أمور الإسلام التي لم يختلف عليها المجتهدون من العلماء والفقهاء، وأن يكون هذا الإبطال جاريًا مجرى الشريعة، ومأمورة به كلٌّ جماعة يشملها الإسلام، فإذا فقد الحكم هذا الشرط، فإنما هو تحكٌّمٌ محضٌ وبهتانٌ خالصٌ، ولست أظنٌّ في العالم كله إنسانًا يوصف بالمعرفة يستطيع أن يؤيّد هذا الحكم، بمثل هذه الدلائل، على مثل هذا الشرط، مهما أوتي من العلم، ومن التتبع، ومن سوء النية، ومن براعة التخلٌّص، ومن تمام القدرة على إظهار الباطل في ثياب مزورَّة من الحق.
وإلا فإن هذا الحكم الشامل، مظلمةٌ جائرة مُبيرة لأهل العصور الأولى من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة، وقادحٌ في دينهم وأمانتهم، وجائحة طاغيةٌ تزيل كل ثقة بهم وبتاريخهم وأعمالهم، وناقضٌ مُدَمّر ينقضُ كل ما يشهدُ به التاريخ الذي كنا نحنُ آخرَ خلف له في هذا العَصر.
كلا، بل أتجاوز ولا أطالب من يقضي بهذا القضاء، أن يأتي بكل هذا الشمول بل أقتصر فأدعوه إلى أن يأتي بقضية مفردة عن الإسلام، تجتمع لها هذه الشروط، مصححة صادقة خالية من التوهم والغلو، وأنا على يقين من أن أحدًا لا يطيق أن يفعل، وأن الأمر أكبر من أن يحيط به بيان مبين وعلم عالم، وإنما يؤتى الغارز فكره في هذه الضلالة المتحكمة باتخاذه الحادثة الواحدة المجردة من الاستقصاء والشمول، ومن الاختلاف في أمرها، ومن شمول العمل بها وإنفاذها في جماعات المسلمين - أساسًا لاستقصاء مكذوب وشمول متوهّم.
ثم أتجاوز مرة أخرى وألتمس لهذا الحكم الشامل مخرجًا آخر، أزعم فيه أن العربية والبيان والعقل تبيح مجتمعة أن يكون المراد بالإسلام في هذا الحكم جزءًا من الإسلام، وأن يكون المراد بالذين لم يطبقوه فئة واحدة من المسلمين: فكيف يمكن أن يصح؟
إن المدعي لمثله مطالب عندئذ أن يستقصي هذا الجزء المعطل في تاريخ العصور التي يشملها حكمها، يومًا بعد يوم، وحادثة بعد حادثة، وأن يدل دلالة لا يأتيها الشك أن ذلك هو الذي جرى به العمل في كل جماعة من جماعات المسلمينº وأن يأتي بالبرهان على أن هذه الفئة أصرت على أن تجعل هذا الجزء ديدنها في كل زمان ومكانº وأنها استطاعت أن تجعل ما خالف حكم الله إلزامًا عامًا للناس كلهم بتشريع من عند أنفسهم يلزم الناس جميعًا العمل به والطاعة له. وهذه هي الشروط التي يقضي محض العقل أنها هي وحدها تبيح لامرئ أن ينطق بحكم شامل كهذا الحكم، فإذا لم تتم له هذه الشروط، فما هو إلا التعسف الغليظ الذي لا يبصر وجه الحق إلاّ في ظلمات من الباطل، إن صح وأمكن أن يكون التعسف قادرًا عندئذٍ, على أن يبصر.
ثم أتجاوز مرة ثالثة، فأزعم أن من الممكن أن نلتمس شيئًا من الإسلام لا يدخله الخلاف، قد أطبق الخلفاء جميعًا منذ قتل عمر - رضي الله عنه - على تعطيله فما الشروط اللازمة لمثل هذا الممكن؟
ينبغي أن يثبت المرء أولاً أن الخليفة قادر على أن يأمر علماء الإسلام وفقهاءهم ومفتيهم وأمراءهم وعامة الناس منهم بهذا الذي يريد تعطيله، وأنهم إن فعل أطاعوه جميعًا وعملوا بما أمر، وأن هذا الشيء من الإسلام قد عطل تمام التعطيل في الحياة الإسلامية كلها في زمنه، ومن البين أن الخليفة رجل من المسلمين، لا يملك أن يشرع للناس شرعًا يعمل به الفقهاء والقضاة والمفتون، ويخضع له عامة الناس علانية ويعملون به في أنفسهم سرًا، وإذا بطل هذا الشرط، بطل الحكم كله، ولم يبق إلا أن الخليفة ربما قدر على أن يعطل حكمًا من أحكام الله، فيما يمكن أن تناله يده، وهو في بيته أو قصره أو بلدته، دون سائر بلاد المسلمين، وأن هذا الحكم لا يلزم أحدًا من القضاة ولا الأمراء أن يفعلوا فعله، لأنه لا يملك أن يشرع لهم ما لم يأذن به الله، وأنا أقطع بأن تاريخ الإسلام كله ليس فيه حادثة واحدة: استطاع خليفة أن يأمر قضاة المسلمين وعلماءهم وفقهاءهم بأمر يخالف كتاب الله وسنة نبيه، فأطاعته الأمة كلها أو بعضها، وعملت بما أراد، وقضت على الناس بقضائه دون قضاء الله.
وينبغي أن يثبت المرء ثانيًا أن الخليفة - أو غير الخليفة من أمراء المسلمين في بلدان الأرض المسلمة - قد استطاع أن يجعل هذا التعطيل، بهذه الشروط، عملاً متوارثًا في جيل بعد جيل، وأن الأمة قد اتفقت على قبول تعطيله أبدًا وأن هذا هو الذي جرى به العمل بلا ريبة ولا ادعاء ولا توهم ولا اعتساف، وأنا أقطع أيضًا بأن هذا شيء لم يكن قط إلا بعد أن ضرب الاستعمار على هذه الأمة الإسلامية حضارته وثقافته ولون تفكيره.
فهذه الكلمة الباغية الجائرة منقوضة في شمولها وفي تخصيصها، ولا يستطيع منصف بعض الإنصاف أن يجد لها في العقل مخرجًا، ولا في التاريخ شاهدًا، ولا في الفرض المطلق وسيلة إلى تحقيق طرف منها، وهي لا تصح في أحد محمليها إلا كانت حكمًا على عامة الصحابة والتابعين والفقهاء وخاصتهم بالكفر البواح، فلينظر امرؤ أين يُنزل عقله؟ وفيم يورّط دينه وتقواه؟ وإلى أي قرار تهوى به كلمة تعجب هواه ويستخفها لسانه، ويتغذى بها غروره بنفسه؟
ولم أجعل همي في هذه الكلمات أن أسرد الحجج التي يحتج بها القائلون بهذا الحكم ولا أن أروى ما يعدونه مؤيدًا لهم من روايات التاريخ والكتب، فإني إن فعلت كان لزامًا عليَّ أن أقدم نفس هذه المقدمة في شروط الأحكام، ومقدمة أخرى في تمييز ما يعد تاريخًا، ومقدمة ثالثة في انتزاع الحكم العام في الحادثة أو الحوادث، وهل هو صحيح في نفسه أو غير صحيح، ثم آخذها واحدة واحدة فأبين وجه تأويلها أو فهمها أو ردها أو تجريحها إلى آخر ما ينبغي لكل من يتصدى للأحكام على أفراد في التاريخ، فما ظنك بأمم بأسرها في تاريخ كامل كتاريخ العصور الإسلامية أولها وآخرها، وكل ما رميت إليه أن أبين فساد مثل هذا الحكم الشامل، وأسباب فساده، وأن أكشف عن موضع المخافة وثقل الوزر، وجناية التسرع في تعميم الأحكام بلا بينة من العقل أو الحجة أو التاريخ، وأرجو أن يتاح لي أن أتناوله مرة أخرى بالبيان والتفصيل حتى يتجلى فيه وجه الحق .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد