ضوء من الحجرات ( 7 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

ولا يزال الحديث موصولاً عن ذلك المقطع الذي يُعدّ بحق وثيقة ودستورًا للأمة المسلمة، وهو هام جدًا، خاصة في هذا الزمن، وهو كيفية التعامل مع الأخبار والأحداث والأنباء المنقولة سواء نقلاً فرديًا أو جماعيًاº فقد ينقل لك أحدهم خبرًا، وقد تستمع إلى خبر عبر وسيلة ناقلة.

لذلك جعل القرآن للمسلم ضابطًا شرعيًا في التعامل مع هذه الأنباء، سواء كان يخص فردًا أو جماعة، وهو التريّث والتثبّت والتأكّد من هويّة هذا الناقل، وهويّة الخبر، وفي الآية ملمح رائع وهو الرفع من العقلية المسلمة في التحليل والاستنباط والتدقيق لمعرفة مدى صدق وواقعية الخبرº لأنه للأسف- هناك كثير من أفراد الأمة عندما يسمعون خبرًا، يلغون هذا الجارحة العظيمة التي مُنحت لهم من الخالق - سبحانه وتعالى -، وينساقون وراء الخبر المنقول، دون التثبّت أو التروي، مع تعطيل منافذ التفكير عندهم، ولو تأمّل الواحد منهم لوجد أنه يملك خاصية التحليل والاستنباط (فتبيّنوا، وفي قراءة، فتثبّتوا..).

ولا يخفى في هذا العصر، أن السباق للخبر المعلن، والصراع اليوم، صراع يُدار حسب ما يُبَثّ من أنباء، تُصاغ فيها العقول المتلقية، ليقبلوا بعد ذلك أي تصرف ينتج عن هذه الأنباء التي بُثّت عبر الأثير، ويكفيك دليلاً ما تصنعه الآلة الإعلامية الغربية، وخاصة الأمريكية، لتسوّغ ما تريد عمله بعد ذلك، ومع الأسف المحرق للفؤاد، نجد أن كثيرًا من الحكومات الإسلامية تتيح المساحات الهائلة عبر إعلامها لتسويق ما يبثه الإعلام الغربي، فتساهم -عرفت أم لم تعرف- في تجهيل الشعوب المسلمة، وإبعادها عن الجرح الذي لا يزال ينزف من جسد الأمة، لتقبل بعد ذلك هذه البربرية والهمجية الأمريكية، على أنها حق، مع العلم أنها طغت على شريعة الغاب، التي يسلب فيها القوي حياة الضعيف، لمجرد أنه أقوى منه ليس إلا، (ولا ننسى ذلك الحوار الذي دار بين ذلك الأرنب وشبل ذلك الأسد الذي لم يعرف تفاصيل الحياة إلا ما تلقاه من والده، وذلك عندما لحق بالأرنب، فقال الأرنب: بعدما أجهده الركض والهرب ماذا تريد مني؟ فقال الشبل بكل صفاقة: لابد أن آكلك!! فقال الأرنب: ولكن لم أصنع لك شيئًا لتنهي حياتي بهذه السهولة؟ فقال الشبل: هكذا علمني أبي؟ أن آكل من أقدر عليه، وأنا أقدر عليك!!

فقال الأرنب: فقط لأنك أقوى مني؟ وأنا أضعف منك تأكلني؟ فلم يجب الشبل!!)

تأمّلوا الدم الفلسطيني، والدم الشيشاني، والدم الأفغاني، والدم العراقي، لتبرز لكم حكاية هذا الشبل مع الأرنب.

أعود للحديث، وهو التريّث، والتفكير الهادئ، عندما تدلهم الخطوب، ويجب ألاّ ننساق وراء الزوابع المهلكة، فلن تحيا الأمة إلاّ إذا عرفت كيف تفكر بنفسها هي، لتعرف مقدار ما تملك من قوة كامنة في ثنايا دينها، الذي لو استغلته بشكله الصحيح، وكما أمر ربها - سبحانه وتعالى -: فذلك كفيل بأن يجعلها تسود العالم أجمع كما كانت في صدورها الأُول.

لو نتأمل الآية التي في نهاية المقطع الماضي، وهذه الآية الجديدة، نجد أن السياق انتقل نقلة نوعية على خط آخر، ومطلب آخر، قال - تعالى -: (وَاعلَمُوا أَنَّ فِيكُم رَسُولَ اللَّهِ لَو يُطِيعُكُم فِي كَثِيرٍ, مِّنَ الأَمرِ لَعَنِتٌّم) [الحجرات: 7]. سبحان من يعلم خلجات القلوب، وما توسوس به الأنفس، وما تدّخر من الخطرات.

ولأن لكل نفس رغبات تتمنى تحقيقها، مع ملاحظة أنه لا منتهى لطمعها، فهي لو تُركت على سجيّتها، وفُتح لها الباب على مصراعيه، وقيل لها اطلبي ما شئت، أو افعلي ما أردت، فطمعها هنا بحر لا ساحل له.. فلوا أطاع الناس رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيما يريدون فكيف ستكون النتيجة، على هذه القاعدة التي ذكرنا وهي حب الذات؟

لذلك الله - سبحانه وتعالى - ذكّرنا فضله علينا، مع الإشارة إلى ملمح، خفيّ قد يغفل عنه كثير من الناس، وهي سيطرته - سبحانه - على القلوب، وبالتالي سيطرته على الخطرات التي أُودعت في هذه القلوب، التي لا يعلم بها إلا صاحب القلب، فهو المتحكم فيها، - سبحانه وتعالى -، فأخبرنا - سبحانه -، بأنه تفضّل علينا، بأن جعل غريزة حب الإيمان في قلوبنا، من أجل أن نضع رغباتنا النفسية والدنيوية جانباً، ونجعل الإيمان يؤطرها، وبالتالي نقدم التضحيات لهذا الدينº لأن لأتباعه رسالة عظيمة تنتظرهم، أكبر وأسمى من الرغبات الشخصية، ولذلك لزم ترسيخ هذه المعاني الرائعة، وهو التجرّد من هوى النفس، وتقديم التضحيات، وتغليب مصلحة الجماعة على المصلحة الفردية، وللوصول إلى (وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ) [الحشر: 9] فمتى نؤثر الآخرين.. ؟ حتى ولو كنا بأمس الحاجة، وبنا خصاصة؟ كما هي الأمة اليوم، بأمس الحاجة إلى تقديم مصلحتها العليا على المصالح الفرية، وأنت ترى اليوم الدول الإسلامية كل دولة تغلب مصلحتها الفردية على المصلحة العامة للأمة الإسلامية عامة، فحين غاب مؤشر الإيمان، أزلنا جدار التضحية، فسقط على رؤوسنا، فصرنا كقطيع الخراف، في ليلة مطيرة، والذئب يسوقها إلى حتفها، وهي تدري، أو لا تدري، وكلا الأمرين عظيم، وعلى الرغم من ذلك تبتسم؟

لو تكرمت: أعد قراءة الآية مرة أخرى، مع تأملها.

والحديث متصل والنهر العذب متدفق، في هذه الرحلة مع كتاب الله، (لَا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلَا مِن خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِّن حَكِيمٍ, حَمِيدٍ,). [فصلت: 42]، عبر هذه السورة الكريمة الاجتماعية، التي تحمل بين آياتها أروع القيم وأحكمها، التي لو استوعبها البشر وطبقوها لحطّت السعادة رحالها في ديارهم، فيه قيم نادرة ومثالية، صالحة لكل زمان ومكان، ولكل جنس من البشرº لأن المهم التطبيق الصادق لها، والمؤمن هنا هو أحق بها من غيره، ولكن إذا غفل المؤمن عنها أو استبدل بها قيماً مستوردة، من صنع عقول بشرية يعتريها الخلل والخبال، لا يستغرب ما تكون النتيجة.

وها نحن ننتقل أيضًا، من زهرة إلى زهرة، ومن وردة إلى أخرى. ألوان مختلفة، وطعم مختلف، ومذاق يجعل النفس تعلو في همتها، وهذه حال من كان القرآن ربيع قلبه، فالربيع من سماته تفتح الزهور واخضرار الأشجار (وكلام ربنا - سبحانه وتعالى - ربيع وظلال وارفة، فأين السالكون لدروبه، المتنعّمون بحروفه، الناهلون من معينة الذي لا ينضب، ولكن مطايانا تقصر دون بلوغ منتهاه، كيف لا وهو كلام رب الأرض والسماء، أعذب كلام، وأصدق قول، وأجود إحكام، نعود بالحديث إلى قاعدة لم تستطع العقول البشرية رسمها، ومع الأسف الشديد ألقت الأمة بهذه القاعدة على قارعة الطريق، فصارت نهبًا للخلافات التي عصفت بها، فتاهت وسط الضياع، فتسلط الأعداء عليها، فلا نلوم إلا أنفسنا.

ينتقل السياق القرآني نقلة نوعية في الخطاب، ولكنه مكمل لما قبله، وهو الصلح، تأمل قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا)الخطاب خاص هنا للمؤمنين، يوجههم - سبحانه -، لرفع معنويات فئة من الناس، آمنوا به - سبحانه -، ولكن ليس لقيم اجتماعية، حسب أعراف القبيلة الجاهلية، التي لا تعترف إلا بالأسياد، حتى ولو كانوا أجهل الجاهلين، ومن عتاة المشركين، وكل إمكانياتهم أنهم وُلدوا من أبوين ينتميان إلى طائفة الأسياد فقط (!؟) وإن جهلوا ليس إلا- فالإسلام أبطل هذا، وجعل الإيمان هو الفيصل، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، من الرفعة والسيادة رغم أنوف الأسياد- والحكم هنا، هو القادر المتصرف بشؤون الكونº إذ حكمه لا رادّ له، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). بالله عليكم هل يوجد عدل مثل هذا.. ؟ فهو - سبحانه - جعل التقوى، مقياسًا للكرامة عنده - سبحانه وتعالى -، وجعلها متاحة للجميع دون عوائق، فأين نحن عنها؟ لذلك خاطب المؤمنين بهذا الخطاب، وهو أن الأمة الإسلامية المؤمنة لها دور ريادي على مسرح الحياة، لذا يجب أن تزيل عن كاهلها أوساخ الجاهلية وتفاهتها، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"دعوها فإنها منتنة\"، وإنه لا يوجد في الأمة شيء اسمه الدم المقدس والدم العادي \"كلكم لآدم وآدم من تراب\" فالجميع في ميزان الإسلام والإيمان واحد، فمن دخل في حديقته، يقف في الصف، جنبًا إلى جنب، مع أخيه المسلم، الذي سبقه، بغض النظر عن الهوية والقبيلة، واللون والموطن، فبلال العبد الحبشي، يقف بجوار أبي بكر الصديق، وصهيب الرومي، يقف بجوار الفاروق، وعبد الملك بن مروان الأموي القرشي الخليفة، يجلس بين يدي عطاء بن أبي رباح، إذاً الأمة لا يمكن أن يكون لها شأن، إلا بهذا، لأن الطاقات والعقول والهمم ليس لها هوية معينة، فالله - سبحانه وتعالى -، يمنحها لمن يشاء من خلقه، لحكمة يعلمها هو - سبحانه -، لذلك ينبهنا - سبحانه -، إلى قاعدة عظيمة مهمة، وهي الاتحاد في الكلمة، لتكون القوة والمنعة، ولا يكون الاتحاد إلا بإزالة التفرقة العنصرية، فقد يكون العبد أو الفقير الذي نظنه حقيرًا ذا بأس أو ذا رأي سديد، فنعمة الرأي والشجاعة والذكاء ليست ملكاً للأسياد فقط، أو وظيفة نمنحها لأبنائنا، إذاً الإسلام لا يقيم وزنًا إلا لعُرى الإيمان فقط، وتأمل الملمح البديع في الآية لمن يفطن له، وهو أنك أيها السيد الشريف الذي تملأ الدنيا ضجيجًا وتحتقر غيركº لأنك وُلدت من السادة هذه مميزاتك فقط- قد يكون من تحتقر خير منك عند الله، وهذا هو الفيصل والغاية في هذه المعادلة، وهو الهدف الذي تُشدّ إليه والله- المطايا، لذلك نهانا - سبحانه وتعالى -، أن يسخر قوم من قوم (لا يسخر قوم من قوم). هذه وحدة متكاملة في التوجيه، ثم يعقبها - سبحانه - في جملة اعتراضية (عسى أن يكونوا خيرًا منهم)- فمن يدري؟ الله - سبحانه - يدري، فهو الخبير - سبحانه -، يعلم خفايا الأنفس ونبضات القلوب. ومن أجمل اللفتات في صدر هذه الآية، أن الخطاب يشترك فيه الرجال والنساءº لأن مجالس النساء، كثيرًا ما يحدث فيها هذا التباهي والتفاخر، ويغفلن كثيرًا عن مساحة الإيمان، التي تعمر قلوب الأخريات اللاتي قد يكنّ خيرًا منهن عند الله، فهوّنوا عليكم أيها الساخرون المتهكّمون المحتقرون لعباد الله (إِنَّكَ لَن تَخرِقَ الأَرضَ وَلَن تَبلُغَ الجِبَالَ طُولاً)[الإسراء: 37] ثم تأمّلوا، ما هي بدايتكم؟ وكيف ستكون نهايتكم؟ فمن يتدبر.. ؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply