النٌّسخةُ الصَّحِيحَة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

ما أروعَ وقعَ آياتِ القرآنِ في النفوسِ.. حينما تكون مُتأهِّبةً لتقبٌّلِها.. مُتأهِّلةً لتفهٌّمِها.. مُتلهِّفةً إلى التعرٌّفِ عليها.. والاقتباسِ من نُورِها.. والارتشافِ من مَعِينِها: عَلاًّ بعد نَهَل!

 

تأمَّل معي قولَ اللهِ - تعالى -: (فاسألُوا أهلَ الذِّكرِ إن كنتم لا تعلمون)! [1] إنه منهجٌ بديعٌ في الدلالةِ على أفضلِ طريقٍ, لتحصيلِ العلمِ مِمَّن له معرفةٌ به! ولو ظلَّ المريضُ يبحث في كتبِ الطبِّ عن علاجٍ, لمرضِهِº لأنهكه المرضُ وأقعدَتهُ العِلَلُ قبل أن يجدَ ضالَّتَه!

 

ورحمَ اللهُ السعديº حيث قال: \"عُمومُ هذه الآيةِ فيه مدحُ أهلِ العلمِ... وفي ضِمنِه تعديلٌ لأهلِ العلمِ وتزكيةٌ لهمº حيث أمرَ بسؤالِهم\"، [2] و\"فيه الأمرُ بالتعلٌّمِ والسؤالِ لأهلِ العلمِ\". [3]

 

ولكنَّ بعضَ الناسِ قد يُحرَمُ الجلوسَ بين يدي العالِمِ، فيُعرِضُ عنه، أو يستحيي منه، كما قال النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم - في شأنِ الثلاثة: (أما أحدُهم فأوى إلى اللهº فآواه الله. وأما الآخَرُ فاستحياº فاستحيا اللهُ منه. وأما الآخَرُ فأعرَضَº فأعرضَ اللهُ عنه). رواه البخاري في كتاب (العلم)، وقال ابن حجر: \"معنى (أوى إلى الله) لجأ إلى الله... وفيه الثناءُ على من زاحَمَ في طلبِ الخيرِ، (فاستحيا) أي تركَ المُزاحَمةَ كما فعلَ رفيقُهº حياءً من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومِمَّن حضر، قاله القاضي عياض... (فأعرضَ اللهُ عنه) أي سخط عليه... وفي الحديثِ فضلُ ملازمةِ حِلَقِ العلمِ والذِّكرِ\". [4]

 

وما أكثرَ الإعراضَ عن العلماءِ في زمانِناº على الرغمِ من كثرةِ الجامعات والمعاهدِº فكم مِن المسلمين اليومَ ليس له اهتمامٌ بطلبِ العلمِ، ولا أدنَى استعدادٍ, لذلك؟ والله المستعان.

 

وقد لا تكون المُشكِلةُ ـ أحياناً كثيرةً ـ في الإعراضِ أو الحياءِº وإنما في الطريقةِ المُتَّبَعةِ في اكتسابِ العلم! والذين يطلبُون العلمَ من الكُتُب، ولم يَجلسوا يوماً واحِداً بين يدي عالمٍ, في الفنِّ الذي يُريدون أن يَنهلوا منهº يُدرِكون صُعوبةَ هذه التجربةِ ومَرارتَها وشدّةَ مُعاناتِهاº فإنَّهم كلما زادوا في المطالعةِ ازدادوا جهلاً! وكلما أكثروا من القراءةِ شعروا بقلةِ البضاعة والعجزِ عن الاستفادة منهاº بل أحسّوا بجُزئياتِ المعرفةِ تُحاصِرُهُم مِن كلِّ مكانٍ,، وتتناثرُ أشلاؤها بين أيديهم!

 

إنَّ هذا الرجلَ الذي أضاعَ زهرةَ عُمرِه في مُطالعةِ القصصِ التافهة والرواياتِ الفاجِرة والفلسفاتِ الباطلة، مُعرِضاً عن القرآنِ والسنةِ وعلومِ هذه الأُمةº لا يزدادُ مع الأيامِ إلا شُعوراً بالضَّياعِº فهو يتعلَّم ما يضرٌّهُ ولا ينفعُه، ويفقدُ أُصُولاً مُهِمَّةً تتعلَّقُ بدِينِهِ وهويَّتِهِ!

 

إنَّ الذي يطلب العلمَ دون توجِيهِ العلماءِ ومراجعَتِهم لا يتقدَّمُ أو يتطوَّرُ، بل هو في الحقيقة يتقهقرُ ويتدهور! ومن الناسِ طيِّبون حريصُون على طلبِ العلمِº ولكنَّهم لا يأتون العلمَ من بابِهº لفِقدانِهم المنهجَ الصحيحَ في طلبِ العلمº فهم لأجلِ ذلك لا يملكون القدرةَ على استثمارِ المعلوماتِ في منظومةٍ, مُتكاملةٍ,، ولو أفنَوا عُمرَهم في المطالعة والقراءةº وأما غيرُهم ممن رُزِقَ العنايةَ بالمنهجِ الصحيحِ فهو يستفيدُ مِن قليلِ العلمِ وكثيرهِº (كمثلِ جنةٍ, بربوةٍ, أصابَها وابلٌ فآتت أُكُلَها ضِعفَين فإن لم يُصبها وابلٌ فطلُّ). [5]

ورَحمَ الله السعدي حيث قال في تفسير قولِ الله - تعالى -: (وليس البرٌّ بأن تأتوا البيوت من ظهورِها ولكنَّ البرَّ من اتَّقَى وأتُوا البُيُوتَ مِن أبوابِها واتَّقُوا اللهَ لعلَّكم تُفلِحُون)[6] \"يُستفاد من إشارةِ الآيةِ أنه ينبغي في كلِّ أمرٍ, من الأُمُور أن يأتِيَهُ الإنسانُ من الطريقِ السَّهلِ القريب، الذي قد جُعِلَ له مُوصِلاً، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ينبغي أن ينظرَ في حالة المأمورِ، ويستعملَ معه الرِّفقَ والسياسةَ التي بها يحصلُ المقصودُ أو بعضُه، والمتعلِّم والمعلِّم ينبغي أن يسلكَ أقربَ طريقٍ, وأسهلَه يحصل به مقصودهº وهكذا كلٌّ من حاول أمراً من الأمور وأتاه من أبوابه وثابرَ عليهº فلا بد أن يحصلَ له المقصودُ بعونِ الملكِ المعبود\". [7]

 

فالذي يُريدُ أن يصيرَ عالِماً ولكنه لا يزور العلماء ولا يصحب النبلاءº لن تتحققَ له أُمنيةً ولو اختلى بنفسِه إلى آخرِ الدهرº لأنَّ الخلوة والاعتكاف لا يُجديان إلا بعد أن يكتسبَ الإنسانُ مَنهجاً علميّاً يسيرُ عليه، ويمتلك قواعدَ العلمِ الذي يريد التمكٌّنَ منهº وإلا فإنه يكون كالذي يغرس الحَبَّ في رِمالِ الصحراءِ التي لا تُنبتُ كلأً!

 

فكلٌّ طالبٍ, مُوفَّقٍ, يعلم أنَّ (العالِم) المُحقِّقَ هو المفتاحُ الذي لا يَلِج أحدٌ إلى العلومِ إلا مِن طريقِهº فمَن لم يُعطَ هذا (المفتاحَ) لا بُدَّ أن يَزِلَّ أو يَضِلَّº ولهذا كان السلفُ يعتمدون نظامَ (الإجازات العلمية) من كبارِ العلماءِº فمن نالَها كان مِن المُتأهِّلين للتدريسِ، على خِلافِ الشهاداتِ التي تُعطَى في زمانِنا لكلِّ أحدٍ,! ورَحِمَ اللهُ الأوزاعيº ما أصدقَ قولَه: \"كان هذا العلمُ شريفاً يتناولُه الرِّجالُ فيما بينَهمº فلمَّا دخلَ في الكُتُبِ دخلَ فيهِ غيرُ أهلِه\"! [8]

 

ولله دَرٌّ الإمامِ الرَّبَّاني شمس الدِّين الذهبي، حيث قال في إحدى تعليقاتِه البديعة في ترجمة الجُنيد من (سير أعلام النبلاء) عند ذكرِ صلاحِه وعِلمِهِ: إنه \"شاهَدَ الصالحين\"! وهذا الذي قاله الذهبيٌّ حقُّ لا شكَّ فيهº ذلك أنَّ رُؤيةَ رجلٍ, عالمٍ, صالحٍ, يذكرُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وحوضَه الشريفَ فيبكي مِلءَ عَينيهِº أنفعُ من قراءةِ مائةِ كتاب! وقد جرَّبتُ ذلك بنفسي بين يدي بعضِ العلماءº فكان الموقفُ أبلغَ في نفسِي مِن كثيرٍ, من الأخبارِ المذكورة في كُتبِ السيرةº ولا عجباً فقد قال النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: (ليس الخبرُ كالمُعايَنة)!

إنَّ مُشاهدةَ العالِمِ الصالحِ تغرسُ تعظيمَ العلمِ بين الجوانحِ. ومَن رأى العلماءَ العاملِين الربّانيِّين العامرة قلوبُهم بذِكرِ اللهِ وخشيتِهº يُوقنُ أنهم (لا يشقى بهم الجليس)º ذلك أنَّ جُلوسَك بين يدي أهلِ العلم يزيد من انشراحِك للدرس وإقبالِك عليهº فلا يُعوِّضُك عن هذه الفوائدِ اعتكافُ سنين على القراءةº لأنَّ العالِمَ يُسمعُك في كلِّ مرةٍ, جديداً لم ترَهُ عيناك في بُطونِ الكتبِ! ثم هو يُغربل لك المعرفة، ويدلٌّك على كيفيةِ الاستفادة منهاº وأما القراءة الخاصة التي لا تعتمدُ على دليلٍ, من أهلِ المعرفةِ في اتباعِ الطريقِ المُوصِلº فتظلٌّ إن سلمت مِن المَهالك حبيسةَ الجزئيات!

 

وقد حذَّرَ العلماءُ الراسِخُون مِن اعتزالِ العلماءِº ونبَّهُوا على وُجوبِ الاستعانةِ بأهلِ المعرفةِ لئلا يقعَ المرءُ في الخطأ والتصحيفº وإذا كان الشاطبيٌّ قد علَّلَ شِدةَ ابنِ حزم بعدمِ التتلمُذِ على العلماء[9] فكيف بغيرِ أبي محمد - رحمه الله - تعالى -؟

 

ولو لم يكن للقراءةِ على العلماءِ إلا التصحيحُ والتحقيقُ لكفى بذلك فائدةº ورحمَ اللهُ الصلاحَ الصفديَّ، فقد قال في ترجمة شيخِه جمال الدِّين المزِّي من (أعيان العصر): \"سمعتُ صحيحَ مسلم على البندنيجي وهو حاضِرٌ بقراءة ابن طغريل، وعدّة نُسَخٍ, صحيحة يُقابل بهاº فيردٌّ الشيخ جمال الدين - رحمه الله - على ابنِ طغريل اللفظَ، فيقول ابنُ طغريل: ما في النسخةِ إلا ما قرأتُهº فيقولُ مَن بِيَدِهِ تلك النسخُ الصَّحِيحةُ: هو عِندي كما قال الشيخ، أو في الحاشية تصحيحُ ذلكº ولما تكرَّرَ ذلك قلتُ أنا له: ما النسخةُ الصحيحةُ إلا أنت! \"[10]

 

------------

[1] النحل 43، والأنبياء 7.

[2] تيسير الكريم الرحمن ص 441.

[3] المرجع السابق ص 519.

[4] فتح الباري 1/212-213.

[5] البقرة 265.

[6] البقرة 189.

[7] تيسير الكريم الرحمن ص 88-89.

[8] ذكره ابنُ الصلاح في مقدمته في علوم الحديث.

[9] ذكر الشاطبي ذلك في الموافقات.

[10] أعيان العصر 12/الورقة 127. نقلاً عن تحقيق العلامة بشار عواد لجامع الترمذي 1/16-17. دار الغرب الإسلامي بيروت.ط2.1418 هـ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply