صدام الحق مع الباطل حتم لازم، فأحوال الناس لا تبقى دائماً على حال الدعة والراحة، ولو استنام أهل الحق عن نصرة الحق استبدل الله بهم غيرهم، لأن الدين لابد له من أعوان وأنصار: \"ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض \" [محمد/4]. والآية التي نتحدث حولها ترسم معالم الانتصار لهؤلاء الأنصار، إذا جد خطب الصراع وحمي وطيس اللقاء، فالنصر من عند الله، ولا يُنال على الكمال إلا بهدى الله، والآية هنا تهدي المؤمنين إلى أشياء تأمرهم بها، وتحذرهم من أشياء تنهاهم عنها، ففيها توجيهات بأمور ثلاث هي عدة النصر:
الأول: الثبات: \"إذا لقيتم فئة فاثبتوا\": فهذا أمر بالتحلي بالشجاعة وهما إحدى الأسس الأربع لمكارم الأخلاق ومحاسب الطباع – كما قال علماء السلوك – وهي (الحكمة – العفة – العدالة – الشجاعة) وعن تلك الأربع تتفرع بقية الفضائل[1].
والشجاعة التي تورث الثبات، وإن كانت طبعاً وجبلة عند بعض النفوس، إلا أن لها مدخلاً إلى الاكتساب، فكما أن العلم بالتعلم والصبر بالتصبر، فالثبات يمكن أن يأتي بالتثبت. يقول ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: \"هذا تعليم من الله لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء، وقد كان النبي يأمر أصحابه بالثبات عند مناجزة الأعداء فيقول: \"لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله، فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت\"[2].
وقد جاء الأمر بالثبات في الآية في مقابلة النهي عن الفرار في آية قبلها في السورة نفسها وذلك في قوله - تعالى -: \" يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار \" [الأنفال: 15].
الأمر الثاني: كثرة الذكر: \"واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون\" فلم تحض الآية على مجرد الذكر، بل حثت على الإكثار من الذكر في هذا الموضعº لأن القلب وقت اللقاء يحتاج إلى تقوية، وهو لن يقوى إلا بالله، وبالمقابل إن القلب يتحرك في الميدان، فلهذا فإن من نصرة الله لأوليائه أن يثبت قلوبهم في مقابلة إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، كما قال - تعالى -: \"إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان.. \" [الأنفال: 12].
وقد ذكر العلماء دروساً تستفاد من الأمر بذكر الله هنا، ومن ذلك:
1 – أن الآية تهدي إلى الإكثار من ذكر الله إذا جزعت القلوب.
2 – الإكثار من ذكر اللسان بالتلفظ، فإذا ثبت اللسان على الذكر ولم يضطرب تبعه القلب بالثبات على اليقين.
3 – أن يذكر المؤمنون وعد الله للذين باعوا أنفسهم له ويمنوا أنفسهم بإحراز هذا الوعد الصادق.
4 – أن يكثروا من الدعاء بالنصر والظفر لاستجلاب معونة الله[3].
الأمر الثالث: طاعة الله والرسول: \"وأطيعوا الله ورسوله\" فلا يكفي ثبات القلب حتى يكون مطيعاً لله في كل أمر، راجعاً عن كل نهي، أما الشجاعة وحدها فقد يجبل عليها من لا دين له، فلابد من أن تكون لله وفي سبيل الله، وسبيل الله هو شرعه ودينه الذي لابد من الاستقامة عليه، فهذا الأمر في الآية يفيد في ضرورة تحري العلم بما يجوز وما لا يجوز من أمر الجهاد بخاصة، إضافة إلى أمر الدين بعامة.
قال ابن كثير في المراد بالطاعة هنا: \"لأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك فما أمرهم الله - تعالى - به ائتمروا، وما نهاهم عنه انزجروا\"[4].
فالمجاهد لا يجاهد إلا وهو يريد من الناس طاعة الله وترك العصيان، فهو أولى بذلك وأحرى. قال الفخر الرازي: ]وأطيعوا الله ورسوله[ في سائر ما يأمر به، لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات[5].
الأمر الرابع: الصبر: \"واصبروا إن الله مع الصابرين\" ولا يكون المرء أحوج إلى الصبر منه في الجهاد، لأنه يبذل المشاق ويتعرض للمخاطر ويفارق الأهل وقد يفقد الأصحاب وينفق المال، وهو مع ذلك يصابر عدواً يدافع عن باطله، وينافح عنيداً يكافح عن عرينه، فكيف له بغير الصبر أن يقدر على كل ذلك، إنه بقدر ما يصبر ويصابر، بقدر ما يفرج عنه ويأتيه الانتصار كما قال سيد النبيين الأطهار: \"واعلم أن الفرج مع الكرب وأن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسراً\"[6].
أما النواهي والتحذيرات الأربع التي أوردتها الآية في مقابل تلك التوجيهات فهي:
أولاً: النهي عن التنازع \"ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم\" وأخرنا هذا في الذكر لتنضم النواهي مع النواهي، فالآية تنهي عن التنازع وهو أن يحدث التجاذب بغرض قلع كل طرف عن أصله، ويعبر به عن المخاصمة والمجادلة[7].
والنزاع يوجب أمرين كما قال الرازي: أحدهما: أنه يوجب حصول الفشل والضعف. والثاني: ذهاب الريح ومعناه: ذهاب التمكين والدولة أو ذهاب ريح النصر وغيابها، فإنه لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله، وفي الحديث: \"نصرت بالصَّبا، وأهلكت عاد بالدبور\" قال مجاهد: \" وتذهب ريحكم \" يعني: ريح نصرتكم، وقد ذهبت ريح أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم - حين تنازعوا في أحد\"[8].
ثانياً: النهي عن البطر الذي يتصف به الكفار وقت النزال: \"ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً \" والبطر هو الطغيان في النعمة، وأما مناسبة ذكره هنا، فهو النهي عما تكون عليه أحوال المشركين من العلو في الأرض كما كان الشأن من أبي جهل لعنه الله، فإن قريشاً حين خرجوا من مكة لحفظ العير، ووردوا الجحفة أرسل رجل منهم يقال له الحقاف الكناني ابنه بهدايا إلى أبي جهل، فلما أتاه قال: إن أبي ينعمك صباحاً ويقول لك: إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت، فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك الله والرحم خيراً، إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس، فوالله إن بناء على الناس لقوة، والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا فيها القيان، فإن بدراً موسم من مواسم العرب وسوقاً من أسواقهم، حتى تسمع العرب بهذه الواقعة\" فوردوا بدراً وشربوا كؤوس المنايا مكان كؤوس الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
ثالثاً: النهي عن صفة الرئاء \"بطراً ورئاء الناس\" والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع كون الباطن قبيحاً، وقريش لما جاءت لحرب المسلمين كانت تزعم الإصلاح وأنها تدافع عن دين العرب وأخلاقهم التي صبأ عنها محمد وأصحابه – كما يزعمون – بينما لم يكونوا في الحقيقة إلا مفسدين محاربين للحق، ولهذا فإن الرسول لما رآهم في موقف بدر قال: \"اللهم هذه قريش قد أقبلت بفخرها وخيلائها، تحادٌّل، وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنِهم الغداة\"[9].
رابعاً: الصد عن سبيل الله \"ويصدون عن سبيل الله\" والصد عن سبيل الله هو المقصد الأول لأهل الباطل في مواجهتهم لأهل الحق، فهم لذلك يثبتون ويتشجعون ويصابرون طمعاً في نصرة الباطل على الحق، فنهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم، وكلفهم بأن يكون جهدهم وجهادهم لإعلاء كلمة الله وحده. قال الرازي: \"أمرهم الله عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله، ومنعهم من أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات البطر والرئاء، بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه طلب عبودية الله\"[10].
وختمت الآية بقوله - تعالى -: \"والله بما يعملون محيط\" والمقصود أن الإنسان ربما أظهر من نفسه أن الحامل له والداعي إلى الفعل المخصوص طلب مرضاة الله - تعالى - مع أنه لا يكون الأمر كذلك في الحقيقة، فبين - تعالى - كونه عالماً بما في دواخل القلوب، وذلك كالتهديد والزجر عن الرئاء والتصنع.
- - - - - - - - - - - - - - - -
[1] – انظر تفاصيل ذلك في كتاب (تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك) للقاضي أبي الحسن الماوردي، ص 13، دار النهضة – بيروت.
[2] – تفسير ابن كثير 2/302.
[3] – انظر تفسير القرطبي 8/23، وتفسير الرازي 15/177.
[4] – تفسير بن كثير 2/303.
[5] – تفسير الرازي 15/177.
[6] – رواه أحمد في مسنده 1/307.
[7] – المفردات ص 488 مادة نزع.
[8] – تفسير الرازي 15/178.
[9] – تاريخ الطبري 2/441.
[10] – تفسير الرازي 15/178.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد