بسم الله الرحمن الرحيم
من الأخطاء التربوية الشائعة اكتفاء المربي الداعية بالوعظ المباشر، لرفع الدعاة الآخرين إلى المستوى الأفضل، أو لتخليصهم من عيب قد تلبسوا فيه، أو لنقلهم من عمل لا يتلاءم، والأخذ بعزائم الأمور.
والصواب أن مثل هذا الوعظ المجرد وحده لا يكفي، إذ أن الفراغ، وعدم معرفة الداعية وخصوصاً الناشئ بمواطن العمل الصالح، وأولويات الأعمال الراجحة تقود به إلى التلبس في بعض اللهو، بل وحتى بعض المنكر، والطريقة المثلى أن ينقل إلى العمل الأفضل، وأن يقترح عليه العمل الراجح يدل المرجوح.
ويكون المربي هو العامل الأول في نقل ناشئة الدعاة من جو إلى آخر، ومن المكان الفاضل إلى الأفضل، بل وعليه أن لا يمنعه من المعروف، ما لم يؤد به ذلك إلى أعرف منه، ولا يصده عن خير، ما لم يقد به الأمر إلى أداء الأفضل، وفوق ذلك كله لا ينهاه عن منكر، إذا كان المرجح انتقاله إلى ما هو أنكر.
وما هذه الحقيقة التربوية إلا جزء تطبيقي من قاعدة أوسع، وهي قاعدة الموازنة الضرورية فيما إذا تعارضت المصالح، والمفاسد، والحسنات، والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح، والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي، وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة، فينظر إلى المعارض لها، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من مفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون مجرماً، إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، ولكن اعتبار مقادير المصالح، والمفاسد هو بميزان الشريعة.
فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص، لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها، وبدلالتها على الأحكام.
ويتفرع عن هذه القاعدة، فيما لو تلبس الإنسان في معصيته، وكان الداعية قادراً على نقله إلى الطاعة، فهذا الواجب المتعين عليه، أما إذا كان الوعظ، والنهي سينقله إلى معصية أشد فهذا مما هو منهي عنه، بل ومحرم على المربي فعله، والدعوة إليه.
ويقاس على هذا المفهوم التربوي الذي يؤديه الداعية مع أهل الفسوق، ما يفعله المربي مع من هم دونه من الدعاة، أو المربي مع أهله، وإخوانه في الأسرة، حيث عليه عدم الاكتفاء بالوعظ المباشر، فقط لنقل الداعية من العمل المرجوح، الذي هو فيه، بل يستعين على ذلك بانشغاله بما هو أفضل، وعليه أن يتذكر دائماً أن الفراغ والشباب، هي العوامل المؤثرة على الإنسان في الضغط عليه بانشغال نفسه، فإن لم ينشغل بالفرض، اشتغل بالمباح، وإذا قل عليه المباح انتقل إلى المكروه، بل، وإلى الحرام، إذا لم يكن له من الدين وازع.
وهذا الحل أشبه بطريق واضح، يحتاج في جزء منه إلى إصلاح، وصيانة، فلا بد من تحويل المسار إلى خط آخر، وإن كان في مظهره أقل جودة، ولكن لا بد منه لدفع الخطر على سالك الطريق الأصلي، إذ إن هلاكه في الجزء المردي، أو القسم التالف الذي يظل الطريق المحول إليه أفضل منه، وأنجى عند المسير فيه، وهكذا طريق الداعية، فهو صواب ومستقيم، وصالح في عمومه، ولكن بعض العوائق فيه، أو المواطن التي تحتاج إلى صيانة قد يسير عليها الداعية، ضمن طريقه الطويل عن جهل منه، أو اندفاع، وتهور، أو فتور طارئ، فيحتاج عندئذ إلى تحويلة تحفظ له صحة المسار الطويل، وتنقذه من وعثاء المواصلة، وتمنع عنه السقوط في منزلقات الطريق، أو الضياع في متاهات الظلام، أو التوغل في أوحال الغيوب.
وهكذا، على المربي ـ دوماً ـ أن يغير المسار عند الخشية على الدعاة، فيحرف الكلام المسترسل إذا خشي منه الدخول في غيبة، أن يقود إلى فتن إلى الحديث الأفضل، ويغير العمل المعتاد إذا أحس بأن نتائجه ستكون غير صالحة إلى عمل آخر، ويجتهد بإلغاء نشاط إذا استشعر بوجود نشاط أفضل منه، ويهيئ للداعية مجالات العمل الأفضل، لينقلهم من مناخات الكسل والفتور، وهكذا تكون الحلول العملية.
وهذا ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حين تلاحى أجيرا الأوس، والخزرج على الماء واستغل زعيم المنافقين هذه الحادثة، وزعم ابن أبي أنه إن رجع إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل، فكان المصطفى هو الأعز، وزعيم المنافقين هو الأذل، أذله الله، واختلف الأنصار فيما بينهم، وكانت تحصل فتنة، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عالجها بشكل عملي، ليدفع الفتنة.