أَبلِي وأَخلِقِي


  

بسم الله الرحمن الرحيم

رُوِيَ عن أمِّ خالدٍ, بنتِ خالدٍ, بن سعيد أنها قالت:\"أَتيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مع أبي، وعلَيَّ قميصٌ أصفرُ، قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: سَنه سَنه (وهي كلمةٌ حبشيَّة بمعنى حَسَنَة) قالت: فذهبتُ ألعبُ بخاتَمِ النٌّبُوّة، فزَبَرَني (أي منعني) أبي، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: دعها، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: أَبلي وأَخلِقي ثُمَّ أَبلِي وَأَخلِقِي ثُمَّ أَبلِي وأَخلِقِي\"[رواه البخاري].

 

أوّلاً:\"أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معَ أبي\"

عَجيبٌ..

أَبٌ يذهبُ إلى مَجلِسِ النبيِّ العظيم - صلى الله عليه وسلم - مُصطَحِبًا طِفلتَه!

أيستطيعُ أحدُنا أن يَفعَلَ ذلكَ عندَ زيارتهِ أميرًا أو عالمًا؟!

إنَّ هذا ـ في ظَنِّنا ـ سوءُ أدبٍ, وقِلَّةُ حياء:

ـ مَكانتُنا لا تَسمحُ.. فَضلاً عن مكانةِ مَزورِنا، البِنتُ تشاغبُ.. تعبثُ.. تُمثِّلُ عِبئًا، قَد يَغضَبُ صاحبُنا.

ما الذي جرَّأَ صاحبَ رسولِ اللهِ على اصطِحابِ بُنَيَّتِه إلى مَجلِسِ رسول الله؟!

إنَّهُ مُوقِنٌ أنَّهُ ذاهبٌ إلى العظيمِ ذي الخُلُقِ العظيم، فلا غَضاضة.

 

ثانيًا:\"وعَليَّ قميصٌ أصفر\".

إنها روعةُ الطٌّفولةِ وَجمالُها.. ومُتعتُها وبراءتُها، قميصٌ أصفرُ.. لونٌ جميلٌ خلاَّب، يأخُذ بالألبابº فَلتلبس بُنَيَّتي، وَلتَفرَح وَلتَمرَح.

 

ثالثًا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"سنه سنه\" (وهي كلمةٌ حبشية بمعنى حسنة).

أفصحُ العُرب قَاطِبةً.. يخفِضُ جناحَهُ لتيكَ الصبيَّةِ، بل.. ويٌُكلِّمُها بلُغةٍ, حبشيَّة، رأى فيها رِقةً ولينًا، مع غرابةٍ, تَلفِتُ الانتباه.

هل لنا أن نتصوّرَ تهلٌّلَ وجهِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يتصابى للصبيَّةِ ويداعبُها؟!

وهكذا.. يُملَّحُ الطفلُ بِكلِّ ما أوتيَت لُغاتُ الدٌّنيا ـ فُصحاها وعاميَّتُها ـ من طاقات: (جميلة ـ حسنة ـ رائعة ـ (أمٌّورة) ـ زينة).

ما أرَقَّكَ وما أحنَّكَ وما أعظمَكَ وما أجملَ أخلاقَكَ رسولَ الله!

ترى بُنَيَّةَ صاحبِكَ قد زانت وزانَها قميصُها، فتُبدي إعجابَكَ بهِ بل بها، تمدحُها بفطرتِكَ الزكيّةِ الصافيةِ، وطبيعتِكَ النقيَّةِ الطاهرةِ، وتواضُعِكَ العظيمِ الصَّادقِ.. دونما إمساكٍ, أو مُواربةٍ,، وبلا تكلٌّفٍ, أو تصنٌّع.

 

رابِعًا:\"قالت: فذهبتُ ألعبُ بخاتَمِ النٌّبُوَّة\".

أيّ طُمأنينةٍ, وأريَحيَّةٍ,.. شعرت بها الصبيَّة في حضرةِ سيدِ الخلق - صلى الله عليه وسلم - تحركت البنتُ بِتِلقائيةٍ, عجيبة.. وحبٍّ, عظيم، وشُعورٍ, قويٍّ, بالأمان.

وما حدثَ ذلك إلا بعدَ تَهلٌّلِ النبيِّ لها، واستحسانِهِ لِذوقِها، ومُداعبَتِه وَمُلاعبَتِه لها.

لا خَوفَ ولا رَهبةº إنها أمامَ الأبِ الحَنون.. الرَّحمةِ المُهداة، لقَد جُذِبَت إليهِ.. أحبَّته، ترَكت أباها، وكأنَّها قد خلَعت يدَها الصغيرةِ من يدِهِ.. عنوةً، وانطلقت مُسرِعةً إلى حبيبِ الرَّحمن، مُلقِيةً بِنفسِها في أحضانِهِ الشريفة، أو وقفت خلفهُ - صلى الله عليه وسلم -.. تلعبُ بخاتمِ النٌّبُوَّة.

 

خامسًا:\"فَزَبَرَني (أي منعني) أبي\".

شيءٌ مُذهل، مُفاجأةٌ غيرُ سارَّةٍ, للأب:

ـ يالَلهول! إنَّهُ رسولُ الله.. سيِّدُ العالمين، تَعبَثِينَ بِخاتمِ نُبُوَّتِهِ الشريف.

منَعَها.. زَجَرَها، هكذا طبيعةُ الأبِ في مثلِ تلكَ المواقفِ المُحرِجة.. بل المُزعِجة.

ولكن...

 

سادسًا:\"قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: دَعها\".

إنَّهُ المُربِّي.. الكريم.. عليهِ أفضلُ الصلاةِ والتسليم:

ـ اترُك الطِّفلةَ تتحرَّك كما تشاء، تلعب بما تشاء، لا تمنعها، لا تُقَيِّد حركتَها، لا تَنقِل الطِّفلَ مِن عالمِه الطٌّفوليِّ إلى عالمِ الكِبار.. نَقلةً قد لا يَنشَأُ بها سوِيًّا.

حُرِّيَّةُ الطِّفلِ في حرَكتِهِ.. تُنمِّيهِ عَقليًّا وَجسَدِيًّا وَرُوحِيًّا وحِسِّيًّا وإدراكِيًّا وذَوقِيًّا واجتِماعِيًّا وأخلاقِيًّا.

دَعها تُمارس حَقَّها في الحُرِّيَّةِ.. في التِّلقائية، تتحرَّكُ، تستكشِفُ، تَعبثُ، تلعبُ.. ولو بخاتمِ النبُوَّة.

 

سابِعًا: \"ثُمَّ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: أَبلِي وأَخلِقي ثُمَّ أبلِي وَأخلِقي ثُمَّ أبلي وَأخلِقي\".

وَبعدُ.. فهذا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدعو لها بطولِ العُمر، حتَّى تُبليَ الثَّوبَ وتُخلِقَه.. تُخرِّقَهُ وتُرَقِّعَه.

دُعاءٌ مُستجابٌ.. من أطهرِ فمٍ,º يقتدي بهِ الآباءُ الصالحون، فيدعونَ لأبنائهم.. لا يدعُونَ عليهِم.

فلتعيشي ـ صغيرتي ـ وَلتُبلي ما تُبلين، ولتُخلقي ما تُخلِقين، لو غيَّرتِ نظامًا.. لو كسَّرتِ لعبةً، فهذا حقٌّ طُفُولتِكِ وفِطرَتِك، وكلٌّ ما يَبلى على يديكِ فداءٌ لكِ بُنيَّتي.

يُكرِّرُ النبيٌّ العظيمُ دعاءَهُ، لِتفرَحَ البِنت.. ليَسعدَ الأب.. لِترى الدٌّنيا.. ليسمَعَ البشَر.. لِيقتديَ الخَلق\"أبلي وأخلِقي ثُمَّ أبلي وأخلقي ثُمَّ أبلي وأخلِقي\".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply