القدوة وأثرها في الدعوة النسائية (1 - 2) أهميتها ـ مقوماتها ـ ميادينها


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين القائل في كتابه المبين: (( وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )).

والصلاة والسلام على النبي الأمين الذي جعله الله قدوة للمؤمنين: (( لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )) صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وعلى كل من اتبع آثارهم واقتفى، أما بعد:

تشتد حاجة المسلمين اليوم إلى مثل أعلى يقتدون به، ويقتفون أثره، ويحذون حذوهº وذلك بسبب ضعف فهم الناس للدين، وقلة تطبيقهم لهم، ولغلبة الأهواء، وإيثار المصالح العاجلة، مع قلة العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، فنحن في هذه المرحلة من الزمنº وقد بدت آثار الصحوة الحقة تبهت في مجتمعنا المسلم، قد تضاعفت حاجة المسلمين في مختلف أوساطهم وطبقاتهم إلى قدوات وريادات تكون أنموذجاً واقعياً، ومثالاً حياًº يرون الناس فيهم معاني الدين الصحيح علماً وعملاً، قولاً وفعلاً، فيقبلون عليهم، وينجذبون إليهمº لأنَّ التأثير بالأفعال والأحوال أبلغ وأشدّ من التأثير بالكلام وحده، وقد قيل: شاهد الحال أقوى من شاهد المقال.

ويشهد لأهمية ذلك أنَّ الله - جلَّ وعلا - جعل نبيه - صلى الله عليه وسلم - أسوة لمن بعده: (( لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ.. ))، كما أمره أن يقتدي بمن سبق من الأنبياء: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِه قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجراً إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرَى لِلعَالَمِينَ ))(الأنعام /90).

ورأس الأمر في القدوة والأسوة الحسنة أن ندعو الناس بأفعالنا مع أقوالنا، يقول عبدالواحد بن زياد: \"ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم عنه\"، ولما نبذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه وقال: (إني اتخذت خاتماً من ذهب) فنبذه وقال: (إني لن ألبسه أبداً) فنبذ الناس خواتمهم فدلَّ ذلك على أنَّ الفعل أبلغ من القول.

ونحن - كما أسلفت - في هذه الفترة العصيبة التي تمر على الأمة من الضعف والهزيمة نحتاج أن نحقق في أنفسنا أنموذج التطبيق الصحيح لهذا الدينº لكي يحقق الله لنا النصر والتمكين، ونسد على المتربصين أعداء الذين منافذ تسلطهم وسطوتهم باسم الإصلاح، وحفظ الحقوق، فهذا خليل الله إبراهيم - عليه السلام - لما جعله الله إماماً للناس يقتدى به قال: ((ومن ذريتي)) أخبره الله - تعالى- أنَّ فيهم عاص وظالم لا يستحق الإمامة، فقال: ((لا ينال عهدي الظالمين))، فإذا أردنا أن يحفظ الله لنا ديننا، ويستتب أمننا، ونردّ كيد أعدائناº فلنقم هذا الدين علماً وعملاً ومنهجاً لحياتنا وسلوكنا، إذ إن المسلم القدوة أشد على أعداء الدين من كل عدة، ولذلك لما تمنى الناس ذهباً ينفقونه في سبيل الله كانت مقولة عمر بن الخطاب: \"ولكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله\"، فعسى إن كنا على مستوى حسن الأسوة والتأسي أن يمكن لنا في الأرض، وأن يجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين.

 

أهمية القدوة في حياة المسلمين وواقعهم:

1ـ إنَّ القدوة هي ذلك التأثير الغامض الخفي الذي يمثله أفعال وأقوال ومواقف المثال الحي المرتقى في درجات الكمال، مما يثير في نفس الآخرين الإعجاب والمحبة التي تتهيج معها دوافع الغيرة، والتنافس المحمود، ويتولَّد لديهم حوافز قوية تحفزهمº لأن يعملوا مثله، وقد يكون ذلك دون توجيه مباشر.

2ـ القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل والاستقامة تعطي الآخرين قناعة بأنَّ بلوغ هذا المستوى من الأمور ممكن، وأنها في متناول قدرات الإنسان ولا سيما في زمن الفتن وكثرة الصوارف.

3ـ مهما توسعت دائرة المعارف، وانتشر العلم بين النَّاسº فإنَّ واقعهم لا يزال يشكو القصور والانحرافº ما لم يقم بذلك العلم عاملون مخلصون، يكونون قدوات في مجتمعاتهم وطبقاتهم، يمتثلون أمره، ويخطون على منهجه، يترجمون ذلك العلم إلى واقع عملي للحياة يفهمه الجميعº إذ إن مستويات فهم العلم والقول عند الناس تتفاوت، لكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين لمثال حي، يكون أيسر وأقوى في إيصال المعاني وإحداث التغيير، ومن ذلك ما كان من تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش ابنة عمته من زيد بن حارثة مولاه الذي أعتقهº لكي يكون قدوة ومثالاً حياً للناس لما تأصل في نفوسهم من الفوارق الطبقية التي جاء الإسلام بإلغائها، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

4 ـ إنَّ غياب القدوة في حياة المسلمين عامل رئيس في فشو الجهل، وانتشار المنكرات واستفحالهاº وذلك لأنَّ العاملين بالعلم والقائمين بدين الله هم في الحقيقة دعاة يعلنون الحق بأفعالهم، وينشرون الدين الحق حين ينتشرون بين الناس، فيظهر أمره في الناس، وتنحسر أمامهم المنكرات بتواجدهم الفعال المؤثر في الآخرين، وهكذا فكلما ازدادت القدوات انتشر العلم، واختفت المنكرات، وقد نقل عن إبراهيم ابن أدهم أنه قال يوماً لأصحابه: \"ادعوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف ذلك؟ قال: ادعوا الناس بأفعالكم\".

5ـ الناس ينظرون إلى المتعلم العلم الشرعي والصالح نظرة دقيقة فاحصة دون أن يعلم، فربّ خطأ يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائرº وذلك لأنه محسوب في مجتمعه قدوة لهم، وهنا تكمن أهمية القدوة وخطورتها، إذ إن كل مفارقة بين أقوال القدوة وسلوكه واهتماماته تشكِّل مصدر حيرة وإحباط لدى عامة الناس، وخصوصاً المبتدئين في الالتزام، ويكون مصدر فتنة للناس، واستخفاف بالعلم الذي تلقاه.

فالذين يعرفهم الناس بالصلاح والتدينº وهم في الحقيقة جمعوا مع تلك السمعة تناقضاً في الواقع، ومخالفة لما يفترض أن يكونوا عليهº هؤلاء لا يقال فيه: إنهم لا يصلحون أن يكونوا قدوات، بل إنهم يمارسون دوراً تخريبياًº إذ هم يشوهون صورة الصالحين والفضلاء في أذهان العامة، ويعطونهم صورة مخالفة لحقيقة الدين التي قد لا يعرفونها إلا من خلالهم، كما أنههم يشجعون الناس بطريقة خفية على التميع والهشاشة الدينية، ويتسببون في تبخير ما بقي من هيبة واحترام للصالحين، ويكونون سبباً في فقد ثقة الناس بهم.

ولذلك فإنَّ المسؤولية عظيمة وكبيرة على العلماء والدعاة والصالحين وذويهم وأهل بيوتهم بشكل خاص، إذ لا بدَّ أن يؤهلوا تأهيلاً خاصاً لإكمال وظيفتهم الدعوية في المجتمعº عن طريق الاهتمام بتحقيق القدوة والأنموذج الواقعي للصلاح والاستقامة، وهذا يلقي عليهم مسؤولية عامة تجاه الناس، فضلاً عن مسؤوليتهم الخاصة تجاه أنفسهم فيما بينهم وبين الله - تعالى-.

وعلى ذلك فإنَّ على كل مسلم ومسلمة عرف طريق الحق وسلكه أن يجاهد نفسه ليقترب ما استطاع من ذلك الأنموذج الإنساني الراقي، نعني به القدوة، وإذا نظرنا في تاريخ العلماء والصالحين وجدنا أدبيات كثيرة تحثّ المسلم على التميز والحرص على العمل بالعلم، إذ يقول سفيان بن عيينة: \"إذا كان نهاري نهار سفيه، وليلي ليل جاهلº فما أصنع بالعلم الذي كتبت؟!\"، وقال الحسن: \"لا تكن ممَّن يجمع علم العلماء، وطرائف الحكماء، ويجري في العمل مجرى السفهاء\"، وقال أيضاً: \"كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه، ولسانه وبصره ويده\".

فالرأس في الخير لا بدَّ أن يسير في طريق المجاهدة، ومنابذة الشهوات، ولا يرتضي لنفسه أن يكون من الخلوف الذين وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم: (يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون)، وإنما يحرص على أن يكون من أتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذين وصفوا بأنهم: (يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره)، وكما يقول مالك بن دينار: \"إنَّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصخرة الصماء\".

 

مقومات القدوة:

1ـ الإخلاص، وهو من أعظم المطالبº إذ يجب أن يفتش عنه الإنسان المقتدى به، فيكون المقصود بالقول والعلم والعمل وجه الله - عزَّ وجل - بعيداً عن أغراض النفس، ونظر الناس، فيفعل الأمر، ويترك النهي، مع تمام الخضوع لله، والتسليم له.

2ـ الاستقامة على الإيمان والعمل الصالح، إذ إن هناك الكثير من الصالحين، ولكن قليل من يستقيم على ذلك، ويتمسَّك به في كل أحيانه وظروفه، وفي كل زمان ومكان، فلا يتغيَّر ولا يتلون ولا يحابي، فللقدوة في نفسه شغلاً بين إقامتها ومجاهدتها وسياستها، وهذا هو المطلوب الأعلى، والنهج الأسمى، وقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: \"قل آمنت بالله ثم استقم\".

3ـ حسن الخلق: إذا كانت الاستقامة والصلاح يتوجهان إلى ذات المقتدى به ليكون صالحاً في نفسه، قويماً في علاقته مع ربه، فإنَّ حسن الخلق يتوجه إلى علاقته بالناس، وأصول تعامله معهم، ويُجمل ذلك المنهج الدعوة النبوية في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وخالق الناس بخلق حسن).

والكلام في حسن الخلق واسع ومتشعب، ولكن نجعله في أمور وكليات منها:

* الصدق: فيحذر القدوة الخداع والكذب والتحايل، وكل خلق يضاد صفة الصدقº لأنَّ المؤمن القدوة لا بدَّ أن يطمئن إليه الناس ويثقوا به، ولا يكون ذلك إلا لصادق.

* الصبر، وتحمل الأذى، والصفح عن المسيء، وسعة الصدر: إذ إن الناس يكتشفون معدن الإنسان، ويمنحونه احترامهم وثقتهم عن طريق رؤيتهم لتصرفاته وتعامله، وأخلاقياته الراقية التي تنشأ عن الصبر والاتزان.

ومن أعظم أنواع التعامل الحسن أيضاً:

* التواضع، وإنكار الذات، وأن يألف ويؤلف، وكذلك العفو والتسامح، وغض الطرف عن الهفوات.

ومن مكارم الأخلاق التي هي مقومات القدوة:

* عفة اللسان، والترفع عن القيل والقال، وترك الانشغال بسفاسف الأمور، وتجنب الخوض مع الخائضين.

ومن صفات القدوات:

* الكرم، والرحمة، وأداء الأمانة، ووفاء الوعد، والقناعة، والعفة، والرضا بالقليل، وغير ذلك من الأخلاق والصفات التي تجسدت في قدوتنا وأسوتنا النبي الكريم الأكرم سيد الخلق وقدوتهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.

4ـ استقلال الشخصية: وذلك ركن رئيس في سمات القدوة، فيتحرر القدوة من التبعية والتقليد الساذج، فيكون مؤثراً لا متأثراً، ما لم يكن متأسياً بهدي الصالحين والمصلحين، فلا يليق بمن هو في موقع القدوة أن يكون إمعة يخضع لضغط الجهال والسفهاء، يميل معهم حيث مالوا، وقد ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قوله: \"وطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإذا أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم\"، ولكي لا يفتتن به إمعة من رعاع الناس لا يرى الدين إلا من خلال تصرفاته، فكما تكون الإمامة والأسوة في الخيرº فهناك قدوة الضلالة ينظرون الناس إليه على أنه مثلهم الأعلى، فإن زلَّ زلوا معه، وإن عاد إلى الصواب بعد ذلك قد لا يعودون.

5 ـ من مقومات القدوة: الاعتدال في أمور الحياة، ونهج منهج التوسط والاقتصاد، ومراعاة آداب الشريعة وتوجيهاتها في أمور الحياة والمعيشة، ولا سيما في اللباس والمظهر، وهما الامتداد المادي لحقيقة الذات، والعاكس المهم لكثير من كوامن الشخصية وخصائصها، فمن المهم أن ينسجم مظهر القدوة مع منهج التدين الذي ينسب إليه، والحذر من المفارقات والتناقض الذي يضعف أثر القدوة في نفوس الناس.

6 ـ تنظيم الوقت وحفظه من مقومات شخصية القدوة، بحيث يعطي كل ذي حق حقه، ولا يطغى جانب في حياته على جانب آخر، فتضيع الواجبات والأولويات على حساب الاشتغال بالتوافه والثانويات.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply