بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال -تعالى-: (قَالَ رَبِّ السِّجنُ أَحَبٌّ إِلَيَّ مِمَّا يَدعُونَنِي إِلَيهِ وَإِلاَّ تَصرِف عَنِّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ)يوسف 33.. القِيَم العليا هي فخر الإنسان، وأكبر نِعَم الله -تعالى- على خلقه، وإنسانٌ بلا تلك القيَم المعصومة يفقد نفسه، فتنطلق غرائزه من عقالها، متحكمة وغاشمة وضارية تستبد بعقله وقلبه، وتلهب فيه أوضع الميول والرغبات.
فبقاء النفس منوطٌ بارتفاعها ولا رقيَّ ولا تزكية لها إلا بتلك القيم، تنسكب في الوجدان، وتنمو وتندمج في المشاعر، فتكبح الغريزة، وتضبط الشهوة وتذكى في العقل قواه المفكرة، وفى القلب حرارته المحيية، وفي الإرادة مضاءها الثابت، وتدفع دفعا إلى التفوق والاستعلاء بالا يمان.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحييني حياة طيبة سعيدة مباركة ما أحييتني، وتوفني مسلماً وأدخلني برحمتك الجنة بغير حساب، إني أستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب.. آآآمين
أخي التائب المجاهد، أختي التائبة المجاهدة ثبتنا الله وإياكم على دينه.. لي ولغيري أقول: يوم ولادتنا حقيقة هو يوم أن نضع أنفسنا بصدق و(حسن نية) وصدق في الدعاء (في الطريق) فيضع الله فينا بقدرته ما لا نستطيع بقدرتنا..
فنحن بالله لا بأنفسنا.. بحوله لا بحولنا.. بقوته لا بقوتنا.. يقول -تعالى-: (وَإِلَّا تَصرِف عَنِّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِنَ الجَاهِلِينَ)يوسف: 33، فلننظر إلى عظيم شأن من قال هذا القول لندرك مدى حاجتنا للمولى -عز وجل-.
فالطاعة فلاح ودليل على توفيق الله و(سلامة القلب)، فكلما سيطر المؤمن بعقله وفق شرعه على شهواته وأخضعها لإرادته ابتغاء مرضاة الله ومحبة لله، استحالت هذه السيطرة نفسها وتحولت بتوفيق الله إلى متعة، نبيلة وخصبة، فيها من عزة القدرة والاستعلاء بالإيمان ما يفوق شتى اللذائذ الرخيصة (مجتمعة)..
فقيمة المتعة كامنة لا في سهولة الظفر بها، بل في شعور المؤمن بأنه يسيطر عليها وهو ينعم بها، ومن ترك شيئا لله عوضه خيراً منه، لذلك كان ضغط عقوبة السجن مع المجرمين (بلا ذنب) أحب إلى سيدنا يوسف -عليه السلام- من ترك (التمسك) والاستسلام والخضوع لغير محبوبه ومولاه..
فأنقَذ نفسه -عليه السلام- وأخرجها بعون الله من مكاسب الجسد الضيِّقة المحدودة (ضيق الدنيا) إلى مكاسب القلب الواسعة (سعة الدنيا والآخرة)، وهذا شأن أصحاب القلوب السليمة دائما.. قال -تعالى-: (إِلاَّ مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ,)الشعراء 89.
وشتان بين (مكاسب القلب) العاجلة والآجلة -كحلاوة الإيمان وقوة البصيرة والحياة الطيبة. الخ في الدنيا والنجاة من النار ودخول الجنة برحمة الله في الآخرة - و(مكاسب الجسد) المحدودة الفانية- كالنجاة من عقوبة السجن والوقوع في لذة الفاحشة القليلة اللحظية المنقطعة المنغصة..
وشتان بين خسائر القلب وخسائر الجسد فمرض القلب بالمعصية أشد وأخطر بكثير من مرض الجسد بالأدواء والعلل، وموته أشد وأفدح من موت الجسد.. فالمعصية إذن وبلا ضغوط وبسعي إرادي إليها (خذلان وأي خذلان) ودليل على سوء الاختيار وخفة العقل و الجهل..
ودليل أيضا على مرض القلب أو موته أو فساده و الختم عليه عياذا بالله، فحين تتحكم شهوات بن آدم عليه تحوله إلى مخلوق بائس، ذليل لغير الله، محتقر لنفسه، فاقد لإرادته، ضنكا معيشته، كالقشة تطوح به رياح الذنوب فتلقيه عاجلا أو آجلا في مكان سحيق..
ووالله لو تفكرنا في عظمة الخالق وقدرناه حق قدره وغذينا قلوبنا بمحبته وعظمته وجلال قدره -تعالى- لما استطعنا أن نعصيه أبداً.. لا صغائر ولا كبائر ولكن كيف نفرغ عقولنا، و قلوبنا للتفكر في عظمته -جل وعلا-.. فالأزمة حقيقة أزمة قلوب و(سوء تغذيتها) في الأساس الذي يترتب عليه أكبر أزمة وأكبر مشكلة في الوجود (مصيبة التعلق بغير الله)..
مساكين أموات أهل الدنيا.. خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله ومعرفته و الأنس بذكره.. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.. أي أنظر إلى حال (قلبك) الآن فان كنت تشعر بحلاوة الإيمان وغلاوته عندك فأنت الآن في جنة عاجلة لا يحول بينك وبين الجنة الآجلة إلا الموت.
قال الداراني -رحمه الله-: (إن لأهل الليل في ليلهم لألذ من أهل اللهو في لهوهم.. وإنه لتأتي على القلب أوقات يرقص فيها طربا من ذكر الله فأقول: "لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب".
حتى أهل الجنة يتحسَّرون (عند عرض السجل) على كل لحظة قضوها في غير ذكر الله.. فكيف تكون حسرات من قضى لحظات في المعصية ولم يتب.. كيف تكون حسرات من قضى لحظات في الكبيرة ولم يتب..
بل كيف تكون حسرات من مات على الكفر.. و (المعاصي بريد الكفر) يومئذ يود -ليس فقط لو لم يفعل- بل يتمنى كل من كان عاصياً أو من كان كافراً يتمنى من سويداء قلبه لو أن بينه وبين السيئة الواحدة (أمداً بعيداً) لتجلي عظمة الله -جل وعلا- في ذلك اليوم و لعظم وهول ذلك الموقف..
فيومئذ ينكشف لنا ونحن في غمرة الدهشة والذهول أن (المستقبل الحقيقي) لم يكن في الدنيا بل هو الآن.. (يَومَ تَرَونَهَا تَذهَلُ كُلٌّ مُرضِعَةٍ, عَمَّا أَرضَعَت وَتَضَعُ كُلٌّ ذَاتِ حَملٍ, حَملَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ){الحج: 2}.. وأبصارنا ذلك اليوم حديد..
وهنيئا لمن أوتي كتابه بيمينه وسط هذا الموقف المهيب الرهيب... هذا هو الفوز الواقعي الحقيقي الأبدي الذي يجب أن نبحث عنه بكل جديَّة وبكل صدق واهتمام (مهما كلفنا..).
وأي فوز آخر في الدنيا لأجل الدنيا.. إنما هو في حقيقته ومآله.. [هَشِيمًا تَذرُوهُ الرِّيَاحُ]{الكهف:45} مجرد أوهام وأباطيل.. تِرة وحسرة.. خزيٌ وندامة.. (اللهم وفقنا لرضاك ما أحييتنا وأغننا بفضلك عمن سواك..).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد