بسم الله الرحمن الرحيم
روي عن سعيد بن جبير - رضي الله عنه - أنه قال: بينما نحن جلوس في مجلس ابن عباس -رضي الله عنهما- إذ وقف رجل بين يديه فقال: يا ابن عباس ما أذل العاصين بين يدي الله - تعالى -وما أحسن المبادرين إلى طاعة الله - تعالى -، يا ابن عباس ما أغفل المذنبين عن قرب الجليل، وأشد تخليط من لم يوفق بالرحيل، قال: ثم خرج، فقام إلى ابن عباس بعض جلسائه فقال له: يا ابن عباس إن هذا الفتى نـبَّاش للقبور وإنما يتستر بهذه المقالة، فإذا جنى عليه الليل خرج إلى المقابر فنبشها فيعري الموتى من أكفانهم، قال ابن عباس: لا أصدق مثل هذا حتى أراه بعيني و ألمسه بكفي، فقال له الرجل: إن شئت لأرينّك ذلك، فقال: قد شئت.
فلما هجم الليل إذا الفتى قد أقبل وفي يده اليمنى قنديل وفي اليسرى غلُّ حتى توسط المقابر، ثم رمى بطرفه شاخصاً وقال: سلامٌ عليكم أهل مضايق اللحود، ومطعم البلاء والدود، ما أبعد سفركم، وما أوحش طريقكم، فليت شعري ما حالكم ارتهنتم بأعمالكم وقطعتم دون آمالكم، بل ليت شعري أندم الحياة حل بكم، أم فرح البشرى بالقدوم على ربكم، سبقتمونا فلبيتم، وأجبتم قبلنا إذ دعيتم، ونحن للقدوم عليكم منتظرون، وللمنهل الذي وردتموه واردون، فبارك الله لنا ولكم على القدوم عليه، ورحمنا إذا صرنا إلى ما صرتم إليه.
ثم نزل في قبر قد احتفره لنفسه فوضع خده على شفير اللحد وجعل ينادي: يا ويلتي إذا دخلت في قبري وحدي
ونطقت الأرض من تحتي فتقول: لي لا مرحباً ولا أهلاً ولا سعةً ولا سهلاً بمن كنت أمقته وهو على ظهري، فكيف
وقد صرت اليوم في بطني لأضيقنَّ عليك أرجائي، ولأذيقنَّك مكروه بلائي. ويلي إذا خرجت من لحدي حاملاً ووزري على ظهري وقد تبرأ مني أبي وأمي. بل ويلي من طول كذبي إذا أسمعني منادي ربي أين فلان بن فلانة فأبرزت من بين جيرتي، وقد بدت إلى الناس سريرتي، وقمت عرياناً ذليلاً، وقاسيت كرباً طويلاً.
ثم أساق إلى أرض القيامة للعرض، والوقوف بين يدي جبار السماوات والأرض، ويلي إذا وقفت أمام ربي، فقال لي: عبدي استترت بمعصيتي عن المخلوقين، وبارزتني بها و أنا عليك من أكبر الشاهدين، أ فكنت أهون الناظرين إليك؟!
ثم خرّ مغشياً عليه. فلما أفاق رفع رأسه إلى السماء فقال: يا ذخري ويا ذخيرتي ومن هو أعلم بطويتي وسريرتي، يا من عليه اعتمادي في حياتي، ومن إليه الجأ بعد مماتي، لا تخذلني بعد الموت ، ولا توحشني في قبري يا سامع كل صوت، فلما سمع ابن عباس مقالته لم يتمالك أن يسعى حتى وقف على شفير القبر وجعل ينادي: لبيك لبيك حبيبي ما أنبشك للذنوب والخطايا، هكذا تنبش الذنوب وتمزق الخطايا، ثم التفت إلى الذي سعى به وقال له: يا عبد الله هكذا فاصنع كلما علمت بمثل هذا النبّاش، وأحب ابن عباس هذا النباش وآثره لديه.. وأنشأ يقول:
قف بنا بالقبور نبكي طويلاً***ونـداوي بالدمـع داء جليـلا
فعسى الدمعُ أن يبـّرد منّـا***بعض لوعاتنـا ويشفي الغليـلا
وننادي الأحباب كيف وجدتم*** سكرة الموت بعدنـا والمقيـلا
لو أطاقوا الجواب قالوا وجدنا*** سكرة الموت تترك العزيز ذليـلا
بدلوا بعد ذي القصور قبوراً*** ثم بعد اللبـاس ردمـاً ثقيـلا
حكي عن بعضهم أنه قال: مات لي صديق فاغتممت عليه لما كان فيه من الصلاح والخير وحسن الطريقة، فرأيته في المنام بعد موته فسألته عن حاله فأنشأ يقول:
أنا لكم إخوتي نذيـر***من هول ما ضمّت القبورُ
عاينت مالم تعاينـوه*** وإنمـا يبتـلـى الخبيـرُ
إنَّ الذي حلَّ بي جليل***جداً فقد أُعـذِرَ النذيـرُ
فإنـما أنت في غرورٍ,*** فـلا يغرنَّـك الغــــرورُ
فإن قدَّامـك المنايـا*** والقبرُ والبعثُ والنشـور
إمـا إلى جنة وإمـا*** إلى جحيـم لهـا سعيـرُ
آنس الله وحشتي ووحشتكم في القبور وأنس روعتي وروعتكم يوم النشور وأحلنا وإياكم برحمته دار السرور.. آمين آمين
وصلى الله على سيدنا محمد قرة أعيننا وسرور قلوبنا وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد