قدوم عام ورحيل عام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ملخص الخطبة

1- توديع العام الماضي. 2- الاعتبار بانقضاء الأعوام. 3- حال الدنيا. 4- التحذير من الافتتان بالدنيا. 5- حال السلف مع الدنيا. 6- استقبال عام جديد. 7- حال العالم الإسلامي. 8- المستقبل للإسلام. 9- خير الناس وشر الناس. 10- ضرورة محاسبة النفس. 11- التذكير بقرب الآجال.

 

الخطبة الأولى

 أما بعد:فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه - سبحانه - عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة والصدر الأوّل، قصِّروا الأمل، واستعدوا لبغتَة الأجل، فما أطال عبدٌ الأملَ إلا أساء العمل.

عباد الله، نعيش هذه الأيام أيام عام هجري جديد ووداع عام آخر، عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه وقوّضت خيامه، غابت شمسه واضمحلّ هلاله، عام حوَى بين جنبيه حكمًا وعبرًا وأحداثًا وعظات، فلا إله إلا الله! كم شقيَ فيه من أناس، وكم سعد فيه من آخرين، لا إله إلا الله! كم من طفل قد تيتّم، وكم من امرأة قد ترمّلت، وكم من متأهّل قد تأيَّم، مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب توارَى، أهل بيت يشيعون ميّتهم، وآخرون يزفّون عروسهم، لا إله إلا الله! دار تفرح بمولود، وأخرى تعزَّى بمفقود، آلام تنقلب أفراحًا، وأفراح تنقلب أتراحًا، أيام تمرّ على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمرّ على أصحابها كالأيام.

مرّت سنون بالوئام وبالهنا*** فكأننا وكأنها أيّـام

ثُم أعقبت أيام سوء بعدَها *** فكأننا وكأنها أعوام

 

عباد الله، إن رحيل الأيام والأعوام ذكرى وموعظة لقلوب المؤمنين أنّ هذه الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، فكم من عامر عمّا قليل يخرب، وكم من مقيم عما قليل يرحل.

 

الدنيا ـ عباد الله ـ تصلح جانبًا بفساد جانِب، وتسرّ صاحبًا بمساءة صاحب، فالركون إليها خطر، والثقة بها غرر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدَر، والمرء منها على خطَر، ما هي إلا أيام معدودة وآجال مكتوبة وأنفاس محدودة وأعمال مشهودة، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا، وإن سرّت أيامًا ساءت أشهرًا وأعوامًا، يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدٌّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ [غافر: 39].

 

عباد الله، جعل الله ما على الدنيا من أموال وأولاد وغيرها فتنة للناس ليبلوهم أيهم أحسن عملا، قال - تعالى -: وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28]. ونهى - سبحانه - عن النظر إلى ما في أيدي الناس لأنّ ذلك مدعاة إلى الركون إلى الدنيا والانشغال بها عن الدار الآخرة، قال - سبحانه -: وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلَى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدٌّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى [طه: 131].

 

لقد مر النبي على شاة ميتة فقال لأصحابه: ((أترون هذه الشاة هيّنة على أهلها؟)) قالوا: من هوانها ألقوها، قال: ((والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء)) أخرجه الإمام أحمد وغيره. تلكم هي الدنيا ـ عباد الله ـ التي شغِل بها كثير من الناس، فراحوا يتهاتفون على جمعها ويتنافسون في اكتنازها، وتركوا الاستعداد ليوم الرحيل والعمل لدار القرار. لقد كان المصطفى يتخوف الدنيا على أصحابه أن تبسَط عليهم كما بسطت على من كان قبلهم، فينافسوها كما تنافسها القوم، فتهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم.

 

عباد الله، كم رأينا في هذه الحياة من بنَى وسكَن غيرُه، وجمع وأكل وارثه، وتعب واستراح من بعدَه. دخل أبو الدرداء - رضي الله عنه - الشام فقال: (يا أهل الشام، اسمعوا قول أخٍ, ناصح)، فاجتمعوا عليه فقال: (ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون؟! إن الذين كانوا من قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا مثيرًا، فأصبح أملهم غرورًا وجمعهم ثبورًا ومساكنهم قبورًا).

المرء يرغـب في الحيـاة *** وطول عيش قد يضرّه

تفنـى بشـاشته فيبقـى *** بعد حلو العيـش مرّه

وتسـوءه الأيـام حتـى *** مـا يـرى شيئًا يسرّه

 

عباد الله، استمعوا إلى الحسن البصري - رحمه الله - وهو يصف حال سلفنا مع الدنيا حيث يقول: \"أدكت أقوامًا لا يفرحون بشيء من الدنيا أتَوه، ولا يأسفون على شيء منها فاتَهم، ولقد كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه، كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوَى فراشه، لا ينام من الليل إلا قليلا، يستدرك ما مضى من عمره، ويستعدّ لما أقبل من أيامه\"، حتى ليصدق فيهم قول القائل:

إن للَّـه رجـالاً فطنـا ***طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلمـا علموا *** أنها ليست لحـيّ وطنـا

جعلوهـا لجّة واتخـذوا ***صالِح الأعمال فيها سُفُنا

 

عباد الله، تستقبل الأمة الإسلامية عامها الهجري الجديد وجسدها مثخن بالجراح، لا يكاد جرح يبرأ حتى تنتكث جراحات أخرى، جهل وحرب، وفقر وجوع، تشريد وتهديد، إهانة وسخرية بالوحيين، حتى أضحت كثير من بلاد المسلمين يصدق عليها قول الشاعر:

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد*** تجده كالطير مقصوصا جناحاه

 

عباد الله، إن العالم الإسلامي اليوم يمر بمرحلة عصيبة، حيث اجتمع عليه العالم الملحد على اختلاف أديانه، وقفوا صفًا واحدًا وتجمعوا في خندق واحد لحرب الإسلام والمسلمين، تناسوا كل الأحقاد والخلافات التي بدينهم، وتجمّع شملهم علينا، ولكنهم يمكرون ويخططون ويدبرون والله خير الماكرين.

كـانت فلسطيـن موالاً لأمتنـا*** ما بالها لَم تعد للنـاس موالا

تعدّدت يـا بني قومـي مصـائبنا ***فأقفلت بابنا المفتـوح إقفالا

كنّا نعـالج جرحًـا واحدًا فغدت ***جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

 

عباد الله، إلى متى يظل المسلمون يمثلون ردود الفعل وأعداؤهم يخططون ويدبرون؟! أما آن للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يحسّوا بكيد أعدائهم وما يخططون لهم من مؤامرات؟! أما آن أن يعلموا أن الصراع بينهم وبين أعدائهم صراع ديني مصيري؟! أما آن للمسلمين أن يصدقوا ربهم - سبحانه - ونبيهم محمد في إخبارهم عن عداوة اليهود والنصارى لهم وأن أعداء الإسلام لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم؟! وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِن اتَّبَعتَ أَهوَاءَهُم بَعدَ الَّذِي جَاءَكَ مِن العِلمِ مَا لَكَ مِن اللَّهِ مِن وَلِيٍّ, وَلا نَصِيرٍ, [البقرة: 120].

 

ومع ذلك ـ عباد الله ـ فالمستقبل لهذا الدين على الرغم من كل الجهود التي يبذلها اليهود والنصارى لتحطيم الإسلام والقضاء على المسلمين، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادٌّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيُّ عَزِيزٌ [المجادلة: 20، 21]. لكن لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالعمل مطلوب، واللجوء إلى الله والثقة بوعوده وتحكيم شرعه والعودة إلى سنة نبيه سبب للنصر والتمكين، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَن المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 40، 41].

 

عباد الله:

مضت بنا الأيـام موكب عزمنـا***متوقـف و عـدونـا يتقـدم

عرب وأجمـل ما لديـكم أنكم *** سلمتمـونا أمركـم وغفلتمـو

ماذا دهـاكم تطلبـون حقوقكم*** طلب الحقوق من الضعيف محرم

نحن الذيـن نقـول أمـا أنتمـو ***فالغافلـون الصامتـون النـوَّمُ

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.

 

الخطبة الثانية

 الحمد لله حمدًا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

طـول الحيـاة حَميـدة *** إن راقب الرحمنَ عبدُه

وبضدهـا فالموت خيـر*** والسعيد أتـاه رشدُه

 

فاتقوا الله عباد الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.

ثم اعملوا ـ رحمكم الله ـ أن تعاقب الشهور والأعوام على العبد قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحدّ ذاته، فإن طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجَج الله - تعالى -عليه. أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله)).

 

عباد الله، إن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لا يحتسب ليوم الحساب، ولا يتجهز ليوم المعاد، يؤمل أن يعمر عمر نوح، وأمر الله يطرق كل ليلة، والواعظ يقول له:

يـا راقدَ الليـل مسرورا بأوله*** إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

 

قال الإمام الغزالي - يرحمه الله -: \"اعلم أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يحاسب فيه نفسه على سبيل التوصية في الحق فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها نفسه ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يعمل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم حرصًا منهم على الدنيا، فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد\" اهـ.

 

عباد الله، ذهب عامكم شاهدًا عليكم أو لكم، فهيئوا زادًا كافيا، وأعدوا جوابا شافيا، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات قبل أن يفاجئكم هادم اللذات، عن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي يعظ رجلاً ويقول له: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتَب، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار)) أخرجه الحاكم.

 

نسير إلى الآجـال فِي كل لحظـة *** وأعمارنا تطوَى وهنَّ مراحل

ترحل من الدنيـا بزاد من التقـى*** فعمرك أيـام و هنَّ قلائـل

 

عبد الله، يا من بقي من عمره القليل ولا يدري متى الرحيل، يا من أبعده الحرمان، ويا من أركسه العصيان، كم ضيعت من أعوام وقضيتها في اللهو والمنام؟! كم أغلقت بابًا على قبيح؟! وكم أعرضت عن الوعظ وقول النصيح؟! كم صلاة تركتها ونظرة أصبتها وحقوق أضعتها ومناه أتيتها وشرور نشرتها؟! أنسيت ساعة الاحتضار وما يحصل للمحتضر حال نزع روحه حين يشتد كربه ويظهر أنينه ويتغيّر لونه ويعرف جبينه وتضرب شماله بيمينه؟!

 

عباد الله، أين من عاشرناه وآلفناه؟! وأين من ملنا إليه وانعطفنا؟! كم أغمضنا من أحبابنا جفنا؟! وكم من عزيز دفناه وانصرفنا؟! هل رحم الموت منا مريضا لضعف حاله؟! وهل ترك كاسبا لأجل أطفاله؟! هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟! كلا والله، بل أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات. فيا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو في نوم الغفلة والسِّنة، بادر بالتوبة واحذر التسويف، واعلم أن ربك يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.

 

فيا عبد الله، استدرك من العمر ذاهبا، وقم في الدجى مناديا، وقف على الباب تائبا، وأحسن فيما بقي يغفر ما مضى، قُل يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].

 

يـا رب إن عظمت ذنـوبي كثرة***فقد علمت بأن عفوك أعظـم

أدعوك ربي كمـا أمرتَ تضرّعـا*** فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

إن كـان لا يرجـوك إلا مُحسن *** فبمن يلـوذ ويستجيـر المجرم

ما لي إليـك وسيلـة إلا الرجـا *** وجميـل عفـوك ثم أنِي مسلم

 

عباد الله، صلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة.

 

اللهم صل عليه ما تعاقب الليل والنهار وصلَّى عليه المتقون الأبرار، وعلى آله وصحبه المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين وتابعيهم وعنا معهم برحمتك يا عزيز يا غفار.  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply