بسم الله الرحمن الرحيم
معاشر المسلمين: تتسارع الأيام، وتنصرم الأعوام، ويتفانى الخلق واحدا بعد آخر، وجيلا بعد جيل، إذ كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. و شتان بين عبد صالح، شاب رأسه في الإسلام، فأمضى وقته ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، فهو في حال من الذكر والدعاء والصلاة والصيام.
بينما آخر قد بلغ من الكبر عتيا لكنه لما التفت ينظر إلى ما مضى من عمره ألفاه مليئا بالمعاصي والآثام، قد غلفته الغفلة، وران طول الأمل على قلبه فأغلقه بإحكام، فلم يعرف للخير طريقا، ولا للهداية سبيلا، بل هو في طريق الشر قد شد مئزره، غير معتبر بتساقط أقرانه، قد طوتهم الأيام، وإذا دنياهم أضغاث أحلام.
سأل رجل حبيبنا - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله. قال: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله. أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن.
فلينظر كل من من الله - تعالى - عليه بيوم في الحياة، أسبغ عليه فيه نعمته، فكساه لباس العافية، وأمنه في سربه، وضمن له قوت يومه، ثم هو في غفلة عن مولاه، لم يزده ذلك اليوم من خالقه إلا بعدا، زادت فيه سيئاته، وتكاثرت فيه معصيته، وعظمت فيه آفاته، يظن أنه يعمر ألف سنة، وربما هو ممن تخاط أكفانهم ليلقوا ربهم غدا أو بعد غد! لكنه آمن كل الأمن أن يكون منهم! يرى الموت على غيره قد كتب، ولا يدري أنه سيُدفن كما دَفَن، وسيُحمل كما حَمَل، وسيُقبر كما قَبَر، وسيرحل عنه كل من تبعه يشيعونه، إلا عمله، وهب أنه طال عمره، فليس له من طول العمر إلا زيادة في الشقاء، والعناء من الأمراض والأسقام، ثم هو بعد ذلك ملتحق بمن قد مات. فعمره هذا إن لم يتب فيه ولم يعمل صالحا في أيامه فهو عليه حسرة، وحجة، وأيامه عليه شهيدة، وحين يحمل على الأكتاف يوما، سيتمنى ركعة أو ركعتين، سجدة أو سجدتين، تسبيحة أو تسبيحتين !!!
قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر. قد نزلت هذه الآية: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر. وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة.
والمعنى: أو ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم. فطول العمر محمود للطائعين، مدعو به للعابدين، الذين يعمرون أوقاتهم بذكر الله، ويتعرضون لنفحات مولاهم فيزدادون في المواسم الخيرة طاعة وإخباتا، وكل يوم يمضي من أعمارهم يرون فيه دنو الأجل، ويقصر بمضيه الأمل، فيجدون، ويشمرون، ويحسنون العمل.
وفي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أحمد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: خياركم أطولكم أعمارا، وأحسنكم أعمالا. وفي المسند أيضا من حديث عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله.
معاشر المسلمين: كل منا يعرف أناسا قد وسدهم التراب، وبقينا من بعدهم، نمضي لمثل ما مضوا إليه، فحري بنا أن نعمر أوقاتنا بما لو رد من دفناه لعمل به، فإن المفرطين إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا فيما تركت. كما يقول الآخر: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين. فتخيل أنك قد حضر أجلك، وأنك نظرت إلى عمرك الذي مضى فلم تجد فيه خيرا، وهالك ما وجدت فيه من سوء العمل، فسألت الله الرجعة، أو التأخير، فأجابك، وأعاد إليك روحك من جديد، وأخرك إلى أجل قريب، فلم تستمر تسوف، تؤجل توبتك، وتؤخر أوبتك، وتصر على ذنبك، وتعرض عن نفحات ربك، وتملأ صحيفة أعمالك بما تود يوم القيامة لو أن بينك وبينه أمدا بعيدا؟ إن السعيد والله من عمر وقته بطاعة ربه، وإن الشقي من أضاع عمره في لهو ولعب، لا يذكر الله إلا قليلا.
والأعمار رأس مال كل حي، فيها يتزود، ومنها ينطلق وهي المستودع فيه يدخر ماله ومستقبله. ومن تعامل مع عمره على أنه رأس ماله فلا ريب أنه سيتجر فيه بما يضمن ربحه، ويحافظ على رأس ماله، قال الطيبي في تحفة الأحوذي: إن الأوقات والساعات كرأس مال للتاجر، فينبغي أن يتجر فيما يربح فيه، وكلما كان رأس ماله كثيرا كان الربح أكثر، فمن انتفع من عمره بأن أحسن عمله فقد فاز وأفلح، ومن أضاع رأس ماله لم يربح، وخسر خسرانا مبينا. اهـ. أيها الغافل، أيها اللاهي، أيها المفتون: انظر طريق الجنة، التي تزعم أنك تسعى إليها، فهل رأيت أحدا في طريقها ارتاح؟ أما سمعت قصة آدم، وطول دعوة نوح، وابتلاء الخليل، حتى ألقي في النار، وسل سكينه على ابنه ليذبحه، حتى أسلما وتله للجبين، وهذا يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، يباع ويشترى، ويلبث في السجن بضع سنين، ونشر زكريا بالمنشار، وطارت في الطريق رقبة يحيى، ومس الشيطان أيوب بنصب وعذاب، وألقي سلا الجزور على ظهر المصطفى، صلوات ربي وسلامه عليهم، فإذا فعل هذا بأنبيائه وأصفيائه، فكيف تظن أنك تسلم، وتدعي التأسي بهم، وترنو للحاق بهم وأنت تلهو وتلعب؟ غير آبه بما تخفيه الأيام، غير مستعد لما سيأتي من هول المطلع، وألم الفراق، وأحوال القيامة العظام، وقد قيل لعابد: إلى كم تتعب نفسك؟ فقال: راحتها أريد. فلا والله لا تعز النفس إلا بذلها للحي القيوم، ولا ترتاح إلا إذا أتعبتها في طاعته، واستعملتها فيما يرضيه.
موت النفوس حياتها من شاء أن يحيا يموتُ فيا عبد الله: إن لك ربا ستلاقيه، وبيتا ستسكنه، فاسترض ربك قبل لقائه، واعمر بيتك قبل انتقالك إليه. وليس بعاقل من باع جنة عرضها السموات والأرض بشهوة ساعة، أو بربح سيتركه غدا وراء ظهره، حتى ولو ملك الدنيا بحذافيرها، واعلم أن أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك في كل وقت بما هو أولى بها، وأنفع لها في معادها. ثم اعلم أيها الحبيب أن عزا تعيشه اليوم لا ينفعك إلا بذل تمرغ فيه وجهك في التراب خضوعا لله، وخوفا ورجاء يعمران قلبك من الله وفي الله. وانظر بعين قلبك وبصيرته كيف أن الله - تعالى -أكرم آدم وشرفه، وأعلى منزلته فخلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، فكاد يهلك حين عصى ربه، ولم يُنظر إليها، ولكن نفعه ذل التوبة فنادى ربه بقلب يعتصره الألم: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
فلا تغتر بما فضلت به، ولكن اطرح نفسك ذليلة بين يديه، معترفة بتقصيرها، خائفة من ذنوبها، راجية قبولها، وناج ربك بتلك المناجاة النبوية: اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. واعلم أن الله - تعالى -إذا أراد بعبد خيرا جعله معترفا بذنبه، ممسكا عن ذنب غيره، يكسوه ذل الفقر إلى الله.
وإياك أخي الحبيب أن تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.
واحذر طول الأمل، فإنه ينسي الآخرة ويصد عن الاستعداد لها. ويغمرك في بحر دنياك حتى تغرق دون أن تشعر. وإذا أردت أن تعرف قدرك عند الله - تعالى -، فقسه بعملك، فإن قدرك عنده يمثله عملك في الدنيا، فإن عجزت أن تسجد، أو أن تتلو القرآن، أو أن تصوم رمضان، أو ثقلت عليك طاعته، وهانت عليك معصيته، تبين لك أنه لا يأبه بك، ولا يبالي، فإن رأيت نفسك على الخير مقبلة، وعلى الطاعة حريصة، فهو عنوان المحبة، وبريد الرضا، والعبرة بالخواتيم، فشمر لتتملق مولاك فينعم عليك ليختارك عبدا من عباده فتسعد، فكم من مغضوب عليه أبعد عن جنابه فلم يستطع أن يعبده، ولم يمكنه أن يفتقر إليه، نعوذ بالله من الحرمان. واغتنم حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك، واستمع إلى الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا. أخرجه الشيخان، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، واللفظ لمسلم. وعند البخاري: ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب.
ويفهم من هذا أن الحياة إنما تراد للعبادة لا للهو واللعب، والعمل فيها زيادة في الثواب، فكلما طال عمرك وحسن عملك ازددت رفعة وثوابا.
أيها المسلمون: إن العاقل يعلم يقينا أن من أجل نعم الله - تعالى - ونعمه لا تعد ولا تحصى - من أجلها الليل والنهار، كما جاء في محكم التنزيل في غير ما آية، منها قوله - تعالى -: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. فمن عقل تدبر وتفكر في تقلب الليل والنهار، إذ هما الزمن، هما الحياة، هما الميدان الذي يوجد فيه الإنسان، هما ساحة ظله وبقائه، وميناء نفعه وانتفاعه، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه.
فالحصيف يعلم أن الوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، وكل من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت حسراته، وسيعلم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع، ولو طلب الرجعى فليس الرجوع إلى الدنيا بمستطاع، فشمر عن ساعد الجد، فسرعان ما تنقضي هذه الحياة، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون.
يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار، من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها، ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد