بسم الله الرحمن الرحيم
إن الله اللطيف الخبير وسع كل شيء علما، لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض ‘وإذا علم العبد هذه المعاني وجب عليه أن يراقب ربه في كل حركاته وسكناته. والمراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطِّلاع الحق - سبحانه وتعالى - على ظاهره وباطنه، وهي ثمرة علم العبد بأن الله رقيب عليه، ناظرٌ إليه، سامع لقوله، وهو - سبحانه - مطلع على عمله كل وقت وكل طرفة عين.
قال الله - تعالى -: {وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم} [الحديد: 4]، وقال - تعالى -: {وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُم فَاحذَرُوهُ} [البقرة: 235]، وقال: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, رَقِيباً} [الأحزاب: 52].
وفي حديث جبريل - عليه السلام - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وكان الإمام أحمد - رحمه الله - يردد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعةً *** ولا أن ما تخفي عليه يغيبُ
والمراقبة تعبٌّدٌ لله بأسمائه الحسنى:
اعلم أيها القارئ الكريم - وفقنا الله وإياك - أن المراقبة هي التعبد لله بأسمائه: \"الرقيب، الحفيظ، السميع، العليم، الخبير، البصير، الشهيد، والمحصي\"º فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة.
الرقيب:
الله - سبحانه - هو الرقيب، يعلم أحوال عباده، ويعد أنفاسهم، حفيظ لا يغفل، وحاضر لا يغيب، قال - تعالى -في قول عيسى لربه: {فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِم وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
وقد سُئل بعضهم: بم يُستعان على غض البصر؟ فقال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور.
وقال ابن المبارك لرجل: راقب الله - تعالى -. فسأله عن تفسير ذلك؟ فقال: كُن أبدًا كأنك ترى الله.
فهو - سبحانه -:
رقيب على كل الوجود مهيمنٌ *** على الفلك الدوار نجمًا وكوكبًا
رقيب على كل النفوس وإن تَلُذ *** بصمت ولم تجهر بسرٍ, تغيبًا
رقيب - تعالى - مالك الملك مبصرٌ *** به كل شيءٌ ظاهرًا أو محجبًا
الحفيظ:
قال - تعالى -: {وَرَبٌّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, حَفِيظٌ} [سـبأ: 21]، فمن علم ذلك حفظ قلبه وجوارحه من معاصيه.
العليم:
فمن علم أنه - سبحانه - عالم بكل شيء حتى بخطرات الضمائر، ووساوس الخواطر، راقب ربه واستحيا منه، وكف عن معاصيه، قال - تعالى -: {وَأَسِرٌّوا قَولَكُم أَوِ اجهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصٌّدُورِ} [الملك: 13].
الشهيد:
قال - تعالى -: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأنٍ, وَمَا تَتلُو مِنهُ مِن قُرآنٍ, وَلا تَعمَلُونَ مِن عَمَلٍ, إِلَّا كُنَّا عَلَيكُم شُهُوداً إِذ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثقَالِ ذَرَّةٍ, فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ, مُبِينٍ,} [يونس: 61].
وهكذا بقية أسمائه الحسنى التي ذكرناها، فإن التعبد لله بمقتضاها يورث القلب مراقبة الرب - عز وجل -.
قال عامر بن قيس: ما نظرتُ إلى شيءٍ, إلا رأيتُ الله - تعالى -أقرب إليه مني.
وقد مرَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - براعٍ, فطلب منه شاةً يشتريها فقال: ليس هاهنا ربها. قال ابن عمر: تقول له: أكلها الذئب. قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: فأين الله؟ فقال ابن عمر: أنا والله أحق أن أقول: أين الله؟ واشترى الراعي والغنم، فأعتقه وأعطاه الغنم.
فحريٌ بالعبد أن يراقب ربه، فهو لا يغيب عن نظره - سبحانه - طرفة عين: {مَا يَكُونُ مِن نَجوَى ثَلاثَةٍ, إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم وَلا خَمسَةٍ, إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم وَلا أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُم أَينَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]؟
قال حُميد الطويل لسليمان بن عليّ: عظني. فقال: لئن كنت إذا عصيت الله خاليًا ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم، ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت.
وقال ابن الجوزي - رحمه الله -: الحق - عز وجل - أقرب إلى عبده من حبل الوريد. لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه. فأمر بقصد نيته، ورفع اليدين إليه، والسؤال له. فقلوب الجهال تستشعر البعدº ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفٌّوا الأكف عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة، وكفوا عن الانبساط.
نسأل الله أن يرزقنا خشيته ومراقبته في السر والعلن إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد