بسم الله الرحمن الرحيم
أثر عن الأولين - رحمهم الله - أنهم كانوا لا يقفون عند حدود أداء الطاعات، والقيام بالعبادات، فيشعرون بعدها بأداء الواجب، والقيام باللازم، بل كان أحدهم يأخذه عند أدائها همّ، ويسيطر عليه غمّ، خوف أن يعتور هذه الطاعة نقص، أو يحجبها تقصير، فيبدأ بعدها مشوار جديد، يلحون فيه بالدعاء، ويطيلون فيه الرجاء، وربما سيطر على بعضهم البكاء.. كل هذا حتى يتكرم الكريم بالقبول الحسن.. فالخوف كل الخوف، أن ترد الأعمال، وتضرب بها الوجوه.. نعم، لقد كانوا يعملون، ويرجون من الله القبول، ولا يمنون بعمل، ولا يعجبون بطاعة، ولا يفتنون بعبادة، وإن عظمت في أعين الآخرين، إلا أنها صغيرة في ميزانهم، قليلة في أعينهم..
كان أحدهم إذا صلى صلاته.. كان كأنه أذنب ذنباً، لشدة ما كان يصنع بعدها من استغفار ودعاء ورجاء.. فهذا وهيب بن الورد - رحمه الله - صلى العصر، وإلى جنبه أبو صالح الجدي، راوي الحادثة، الذي قال: فلما صلى جعل يقول: اللهم إن كنت نقصت منها شيئاً أو قصرت فيها فاغفر لي. قال: كأنه قد أذنب ذنباً عظيماً يستغفر منه.
وهذا عثمان بن أبي دهرش - رحمه الله - يخبرنا خبره بقوله: ما صليت صلاة قط إلا استغفرت الله - تعالى - من تقصيري فيها.
فمن يفعل فعلهم، ويظن ظنهم، ويأخذ بمنهجهم، في الحرص على نقاء طاعته، وصفاء عبادته، وقبول عمله.. ؟!
لقد بلغ القوم هذه المكانة، بفقه دقيق، وفهم عميق، لحقيقة هذه الرسالة، ما أحوجنا لمثل هذا الفقه، وذاك الفهم، الذي تستقيم به أعمالنا، وتزكو به نفوسنا.. إن فهمهم هذا أخذ بهم حتى وضعهم عالياً في مصاف الأنبياء عملاً وسلوكاً، حتى كان يصدق وصف أحدهم: كان كلامه يشبه كلام النبوة، والأمر لم يتوقف عند حدود الكلام، بل تجاوزه إلى التطبيق في الأعمال، والصدق في السلوك..
فالأمر ليس بكثرة العمل، بل الأمر في تحسينه وإحكامه، وهذا ما أشار إليه وهيب بن ورد - رحمه الله - بقوله: « لا يكن هَمٌّ أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن هَمٌّه في إحكامه وتحسينه، فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه ».
انظر.. فقد تكون صلاتك معصية، إذا لم تصنها بصدق الإخلاص، وحسن الالتزام، وعظمة الاستقامة، وتحفظها من داء العجب، وتبتعد بها عن مواطن النقص والتقصير.. فليس الشأن في أداء العبادات فقط.. بل الشأن كله في أن تستقيم الحياة كلها بأمر الله.. فاستقم كما أمرت.. الشأن هنا.. في الاستقامة الكاملة، التي تستوعب مفردات الحياة كلها، كبيرها وصغيرها، عظيمها وحقيرها.. فإن رأيت الاستقامة في صلاة أو صوم.. ثم بعد ذلك عملت برأيك، واتبعت هواك، في تجارتك أو عملك أو حياتك الخاصة أو العامة.. كنت بعيداً.. ما عرفت الحقيقة، وما أدركت سرا واحداً من أسرار الطاعة، وما تذوقت لها طعماً، ولا عرفت لها لوناً، من ألوان الراحة والطمأنينة..
كان إذا صلى.. كأنه أذنب ذنباً..
والأمر لم يقف عند الصلاة فقط، بل تجاوز ذلك إلى الصيام والصدقة والحج.. وغيرها من الطاعات.. فقد كان من منهجهم - رحمهم الله - أن الأعمال الصالحة تختم بالاستغفار والدعاء.. رجاء القبول والرضى..
كان إذا صلى.. كأنه أذنب ذنبا..
من يستشعر هذا.. ويقف عند متأملاً متفكراً؟!
ونحن نرى جمعنا الذي ينفض سريعاً سريعاً، كأن في أعقابنا خيلاً مغيرة، في دبر كل صلاة.. فأين نحن من حال سلفنا الكرام؟! ما إن نركع الركعات، ونؤدي بعض الطاعات.. حتى نفزع مسرعين إلى أشغالنا وأعمالنا وجلساتنا وأهوائنا.. فالأمر عندنا قد قضي.. والقبول بلا شك قد حصل.. فقد جاء دور الدنيا.. التي بتنا نختلس منها لعباداتنا أضيق الأوقات، وأضيق الأماكن..
كان إذا صلى.. كأنه أذنب ذنباً..
حال يدعوك ويستوقفك..ويقل لك صارخاً فيك: انتبه إلى طاعاتك وعباداتك..أحسن صلاتك وصومك.. وتب واستغفر عقب كل عمل صالح تقم به.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد