بسم الله الرحمن الرحيم
{إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً}(المزمل: 6).
يعيش المرء حياته مليئة بالمشاغل وصروف الدهر، لذا فهو يحتاج إلى لحظات لصفاء الذهن يختلي فيها بربه ويناجيه، في ساعات الليل يصفو الذهن ويجلو البال، ويجيش الوجدان، حين يرى عينه تزيح النوم وقلبه يبعد الكسل، ويقوم متبتلاً خاضعاً لربه - عز وجل -، قال - تعالى -: {إنَّ ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه...}(المزمل: 6)، وقال - عز وجل -: {والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً} (الفرقان: 64).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل\" (متفق عليه من حديث أبي هريرة).
الكل منا يرغب في الخير، ويتمناه ويسعى جاهداً لتحصيله، وما هو موجود بين أيدينا، خير عظيم، ولكننا عنه غافلون أشدّ الغفلة. جاء عن بعض السلف الذين ذاقوا لذة القيام والمناجاة: لو يعلم الملوك ما نحن فيه من اللذة، لجالدونا عليه بالسيوف.
فمثلاً: لو زارنا أحد ملوك الدنيا، لتغيرت حالنا، ولعملنا أحسن الاستعدادات لتلك الزيارة، ولرفعت الأعلام، ونشرت الشعارات، كل ذلك لاستقبال تلك اللحظة، والربّ - عز وجل - بعظمته ينزل إلى السماء الدنيا، كل ليلة، ونحن لاهون، كأننا لا نعلم بهذا، في حين ينعم آخرون في هدأة الليل، يناجون ربهم ويسبحونه ويذكرونه، وهو قريب منهم، يناجونه وكأنَّهم يرونه، وتقشعر جلودهم لذلك، ويبكون أو يتباكونº لعظم هذه المناجاة، ويستغفرونه فيغفر لهم، ويدعونه فيستجيب دعاءهمº كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"ينزل ربَّنا- تبارك وتعالى -كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، حيث يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له\" (رواه البخاري).
فلنحرص على قيام الليل، ولو بأقل عدد من الركعات، مع الاستمرار والمحافظة، فقد ورد في الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: \"أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الليل ورغب فيها، حتى قال: عليكم بصلاة الليل ولو ركعة\" (رواه الطبراني في الكبير والأوسط). وفي الحديث الآخر أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: \"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل\" (صحيح الجامع: 163).
ومن الآثار: ما جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، أنه كان إذا هدأت العيون قام فيسمع له دويّ كدوي النحل حتى يصبح. وقالت امرأة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، حين أطافوا به يريدون قتله: إن تقتلوه أو تتركوه، فإنَّه كان يُحيي الليل كلَّه في ركعة يجمع فيها القرآن.
وقيل للحسن: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. وقال: إنَّ الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل. وقال رجل لأحد الصالحين: لا أستطيع قيام الليل فصف لي دواءً، فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه بالليل. ويروى عن سفيان الثوري أنه قال: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أصبته. وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وقال ابن المنكدر: ما بقى من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.
وقال شمس الأئمة الكردري في رسالته: نقل عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله -: أنَّه صلَّى الفجر بوضوء العشاء بنيفٍ, وثلاثين، وقيل: أربعين سنة. وعن ابن المبارك: أنَّ أبا حنيفة - رحمه الله -: صلَّى خمساً وأربعين سنة الصلوات الخمس بوضوء واحد. القاسم ومما يروى أيضاً عن أبي حنيفة أنه قام ليلةً بهذه الآية: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرَّ} (القمر: 46)، فلم يزل يردِّدها ويبكي ويتضرَّع.
جارية تعشق قيام الليل:
كانت للحسن بن صالح جارية، فباعها إلى قوم، فلمَّا كان في جوف الليل قامت الجارية، فقالت: يا أهل الدار، الصلاة الصلاة، فقالوا: أصبحنا؟ أطلع الفجر؟ فقالت: وما تصلون إلا المكتوبة؟ قالوا: نعم، فرجعت إلى الحسن، فقالت: يا مولاي، بعتني إلى قوم لا يصلون إلا المكتوبة، ردَّني. فردَّها.
* ذكر أبو حامد الغزالي أسباباً ظاهرة وأخرى باطنة ميسرة لقيام الليل:
* فأما الأسباب الظاهرة فأربعة أمور:
الأول: ألا يكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويقل عليه القيام.
الثاني: ألا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه.
الثالث: ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام.
الرابع: ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.
* وأما الأسباب الباطنة فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب من الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول الدنيا.
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل.
الرابع: وهو أشرف البواعث: الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه.
إنَّ قيام الليل عبادة تصل القلب بالله، وتجعله قادراً على التغلب على مغريات الحياة وعلى مجاهدة النفس، في وقت هدأت فيه الأصوات ونامت العيون وتقلَّب النوّام على الفرش، ولكن قوام الليل يهبون من فرشهم الوثيرة يكابدون الليل لا ينامون إلا القليل، ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة وسمات النفوس الكبيرة، وقد مدحهم الله - تعالى -بقوله: {أمَّن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنَّما يتذكَّر أولوا الألباب} (الزمر: 9).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد