بسم الله الرحمن الرحيم
• مقدمة:
إن الخالق- سبحانه وتعالى- بفضله وكرمه وجوده الذي يعجز عن وصفه الواصفون ويقصر في شكره الشاكرون، خلقنا وأنعم علينا بنعمٍ, لا تُعد ولا تُحصىº فمهَّد لنا الأرض لنسكنها، وأخرج لنا ثمارها، وفجر لنا أنهارها، وجعلها ذلولاً نمشي فيها ونأكل من رزق الله، جعل لنا كل ذلك لنؤمن به ونعبده وحده لا نشرك به شيئًا: \"وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ\" (الذاريات: 56)، وبالرغم من أن عبادة كل البشر وإيمانهم كلهم لا يزيد في ملك الله شيئًا، كما أن كفرهم وجحودهم كلهم لا ينقص من ملكه شيئًا- بالرغم من ذلك كله- جعل لنا - سبحانه - الثواب الكبير والأجر العظيم إن نحن آمنَّا به وعبدناه حق عبادته.
لك الحمد يا ربي، أوجدتنا من العدم، وفضلتنا على كل الأمم، وبيَّنت لنا طريق الرشاد ثم تتفضل علينا بـ: \"لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم\" (إبراهيم: 7).
• من منَّا مؤمن بالله؟
سنبادر جميعًا بقولنا نحن مؤمنون والحمد للهº ولكن هل نحن مؤمنون حق الإيمان؟ يقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم -: \"الإيمانُ ما وَقَرَ في القلب وصدَّقه العمل\" (الجامع الصغير)، فلا معنى لإيمانٍ, لا يحرك الجوارح، ويحثها على طاعة الله، ولا معنى لإيمان لا ينير الطريق ويعلم صاحبه أن عين الله تراه في كل وقت وفي أي مكان، ولا معنى لإيمان لا يزلزل القلب ويشعره بحب الله والخوف من غضبه ويملؤه انكسارًا وتذللاً له- سبحانه - ليرضى ويتفضل بقبول صالح العمل والعفو عن الذلل.
فهذا هو الإيمان، إنه ليس كلمة تقالº بل هو إحساس يهز القلب، ورداء يستر الجسد كله من أن يُدنَّس بسوادِ الذنوب، فالعين لا تنظر إلا إلى حلال والأذن صماء إلا عن الحلال، واللسان أبكم يعجز أن ينطق بما يغضب خالقه، واليد لا تتحرك إلا بعمل يحبه الله، والرِّجل لا تمشي إلا إلى ما يرضي الله، هكذا يكون الإيمان.
• وصف المؤمنين:
ولننظر إلى وصف المؤمنين في كتاب الله، إنهم ليسو من يصيحون في كل وقت وفي كل مكان نحن مؤمنون، الإيمان في قلوبنا، إن الله لا ينظر إلى الصورةº ولكن إلى القلب، ولكن المؤمنون، كما وصفهم الخالق العليم بعباده: \"قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ* الَّذِينَ هُم فِي صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغوِ مُعرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُم لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ* إِلاَّ عَلَى أَزوَاجِهِم أَو مَا مَلَكَت أَيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ* وَالَّذِينَ هُم لأمَانَاتِهِم وَعَهدِهِم رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُم عَلَى صَلَوَاتِهِم يُحَافِظُونَ\" (المؤمنون: 1-9).
أما رسولنا الهادي- عليه الصلاة والسلام - فإنه يقول: \"إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المساجد فاشهدوا له بالإيمان\" (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه)، ويقول: \"الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان\" (أخرجه مسلم والنسائي)، إذن فالإيمان ليس في القلب فقط، إنه في القلب واللسان والجوارح.. عقيدة ونية وقول وعمل.
• الإيمان والعمل الصالح:
والعلاقة بين الإيمان والعمل الصالح علاقة حميمةº فنجد أن المرء إذا زاد إيمانه زاد عمله الصالح، وكلما أكثر من الطاعات والعمل الصالح تقربًا لله كلما ذاق حلاوة الإيمان في قلبه، وشعر بنور الإيمان من حوله.
وبالعكس فإن الإيمان والمعاصي يتنافران، فكلما وقع المرء في الذنوب والآثام، كلما أظلم قلبه وحُرم من نور الإيمان، وكلما قلَّ إيمانه تجرأ أكثر على الوقوع في المعاصي، إلا أن يتغمده الله برحمته، فالإيمان يزيد بالعمل الصالح وينقص بالذنوب ويظل في نقصان حتى يطمس على قلب العاصي \"كَلاَّ بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكسِبُونَ\" (المطففين: (14).
• هيا بنا لنكون مؤمنين:
والآن وقد علمنا العلاقة بين الإيمان العمل هيا بنا لنكون مؤمنين حقًّا، هيا بنا إلى العمل.. ولكن كيف؟!
اعلم أن بإمكانك تحويل حياتك كلها إلى عبادة مستمرة لا تتوقف ولا تنقطع، فيظل عداد الحسنات لديك يعمل أربعة وعشرين ساعة في اليوم، وبذلك ستكون من الفائزين- إن شاء الله- أتعلم أخي كيف تفعل ذلك؟
• إنما الأعمال بالنيات:
نعم الأعمال بالنيات، فبإمكاننا أن نعبد الله بأكلنا وشربنا وراحتنا ونومنا ودراستناº بل وتسامرنا مع أصدقائنا والترويج عن أنفسنا، بإمكاننا أن نحوِّل كل هذه الأمور إلى عبادة نؤجر عليهاº إذا جدَّدنا النيات، ولا تنس- أخي الحبيب- أن المؤمن تاجر نياتº فبإمكانك أن تعدِّد النية للعمل الواحد، فمثلاً عندما تجلس للمذاكرة أن تجعل مذاكرتك هذه استجابة لأمر رسول الله: \"طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة\" (الجامع الصغير)، فطلب العلم عبادة، وبإمكانك أن تعتبر أن مذاكرتك هذه طريق لرفع شأن الأمة وإعداد لقوتها، فالعلم قوة: \"وَأَعِدٌّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّةٍ,\" (الأنفال: 60)، كما أن بإمكانك أن تعُدَّ دراستك هذه طريقًا لمحبة الله لك، فكما قلنا إن العلم قوة: \"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف\" (الجامع الصغير)، وفي مذاكرتك ونجاحك إسعاد وبر بوالديك، ومذاكرتك بجدية وتركيز هي استجابة لقوله- صلى الله عليه وسلم -: \"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه\" (الجامع الصغير) وأنك في جلوسك للدرس فأنت في سبيل الله مجاهد حتى تنتهي، فمن سلك دربًا يطلب فيه العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع، وغير ذلك كثير كثير من النيات.
فانظر ما ستجنيه من وافر الحسنات وأنت جالس في مكانك تطالع كتبك، إذا أنت جددت نيتك، قِس على ذلك كل ساعات يومك وكل أفعالك تحولها إلى عبادات بمجرد وضع نية لها، ولكن احرص كل الحرص على أن تكون نيتك هذه خالصة لوجهه - سبحانه -، واحذر أن تخالط نيتك اتباعًا لهوى أو تحكيم وإرضاء لشياطين الإنس أو الجن، أو أن تفسد عملك برياء وتتظاهر بالتقوى أمام الناس.
واعلم أن كل من حولك من البشر ضعيف لا يقدر لك خيرًا أو شرًا، وإن القوي الذي يجب أن نتقرب إليه بالعمل لتفوز في الدنيا والآخرة هو الله الذى يعلم ما تخفي الصدور، ولتتخيل معي شخص يجمع أشياء في جرابه ويحدد له وقتًا لا يتجاوزه فيظل يجري هنا وهناك يلم ما وصلت إليه يداه ويضعه في الجراب، حتى إذا دق الجرس، وانتهى الوقت نظر في جرابه فوجده مثقوبًا خاليًا مما جمعه وتعب في جمعه! كيف يكون شعوره؟ وكيف يكون شعوره إذا كان يعلم أن نجاته بقدر ما جمع في الجراب، وهلاكه بقدر ما أضاع، هكذا سيكون الحال إن خالط العمل رياء أو أفسده طلب رضا المخلوق عن رضا الخالق.
• أخلص نيتك يُقبل عملك:
إن الأمر كله لا يحتاج لأكثر من إخلاص النية ليقبل العمل إن شاء اللهº ولكن مع هذه النية عليك العمل بآداب الإسلام في كل شئون حياتك، ورسولنا- عليه الصلاة والسلام - قدوة لنا لم يترك صغيرة أو كبيرة إلا علَّمنا كيف نقوم بها، وما هو الأدب الذي يجب أن نتبعه في أدائها، فالتزم سنته القولية والفعلية.
ولا تنس ترديد أدعيته- صلى الله عليه وسلم - مهما كان حالك: \"قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللهُ\" (آل عمران: 31)، فالأكل والشرب والدخول والخروج والنوم والاستيقاظ وغيرها لكل منها أدب ودعاء علمه لنا رسولنا الهادي البشير، فهل نترك طريقته- صلى الله عليه وسلم - لكسلٍ, أو نسيانٍ, أو تحرجٍ, من شخص أو غير ذلك؟!! لو فعلنا لخسرنا الخسران المبين، فالنبي- صلى الله عليه وسلم - يقول: \"من رغب عن سنتي فليس مني\"(الجامع الصغير)، فاحذر أن تتكاسل عن اتباع سنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - أو تضيعها مهما كانت الظروف، وإلا كيف تطمع أن يسقيك بيديه الشريفتين يوم القيامة، وكيف تطمع أن يكون شفيعك.
إخوتي هيا بنا نؤمن، هيا بنا نزيد الإيمان في قلوبناº بكثرة العمل الصالح والعبادات، هيا بنا نحول حياتنا كلها إلى عبادات مستمرةº بأن نجعل لكل عمل نية صالحة أو أكثر، هيا بنا نصلح النية بإخلاص العمل لله وحده، وباتباع سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وبذلك فقط نكن مؤمنين حقًّا، أنار الله قلوبنا بنور الإيمان به، وطهر جوارحنا بصالح العمل الخالص لوجهه الكريم والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد