التعاهد والإلزام في الأعمال الإيمانية التعبدية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 هناك مسألة مطروحة للنظر في مشروعيّتها، وخلاصة المسألة أن هذا العصر عظمت فيه الشٌّبهات، وكثرت فيه الشّهوات، وتعدّدت الشواغل الدنيوية، وتنوّعت الارتباطات الاجتماعية، بما زاحم الأوقات المخصّصة للطاعات والاستكثار من الخيرات، والمواظبة على السنن والتطوعات، وصار كثير من عوام المسلمين- بل وخواصهم- لا يكادون يحافظون على أوراد الأذكار، وتلاوة القرآن، فضلاً عن رواتب السنن وصيام التطوع، إضافة إلى ندرة قيام الليل ودعاء الأسحار، وضعُف - من أثر ذلك - الإيمان، وقلّت آثاره: من صفاء القلب وزكاة النفس، وعظمت الشكوى من جفاف الروح، وضعف الهمة في الطاعات، وثقل التضحية في العاديات فضلاً عن الملمات، والأكثرية يشعرون بعدم القدرة الفردية على الأخذ بالحظ الأوفى من التطوعات، ونوافل العبادات بسبب ضعف الإرادة وغلبة البيئة المحيطة، ومع شعور الجميع بأهمية ذلك وُجد الاجتهاد بالأخذ بالوسائل المعينة لسد هذه الثّلمة، وسدّ ذلك النقص، ومن ذلك التواصي بين مجموعة المسلمين الحريصين على الخير على بعض البرامج الإيمانية التعبديّة، والتعاهد على الالتزام بها، والتشارط فيما بينهم على المراجعة والمحاسبة فيما بينهم، تذكيراً للغافل وتنشيطاً للخامل، ومنعاً لاستيلاء ضعف النفوس، وغلبة الأحوال المحيطة بهم، ومن هنا برز السؤال عن مشروعية مثل هذا التعاهد والمحاسبة عليه، وهذه خلاصة حول هذه المسألة:

وجوابها أنه بعد البحث يمكن القول: إن هذه المسألة بعينها ليس فيها نص قرآني أو نبوي يتناولها، وليس فيها من فعل الصحابة والتابعين ما ينطبق عليها، ومن هنا فإن ما سيرد عن هذه المسألة دائر في عمومات الأدلة والمقاصد الكبرى مع استشهادات ذات صلة قريبة يمكن من خلالها الوصول على قول فيها:

1- تزكية النفوس مطلب شرعي:

إن تزكية النفس وتنقيتها من أدران المعاصي أمر مطلوب شرعاً، لقول الله - تعالى -: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) قال ابن عطية: \" معناه: طهّر نفسه ونمّاها بالخير \" [تفسير ابن عطية1970] وقال السعدي: \" أي قد فاز وربح من طهّر نفسه ونقّاها من الشّرك والظلم ومساوئ الأخلاق \" [تفسير السعدي ج1/ص921] ولقد كان من مهمات النبي - صلى الله عليه وسلم - تزكية المؤمنين، قال - تعالى -: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [الجمعة: 2].

2- فرائض العبادات والنوافل طريق لتزكية النفوس:

جعل الشارع الحكيم فرائض العبادات من أسباب تحقيق تزكية النفوس، ويدل على ذلك الحكم والغايات النفسية والخلقية التي ذكرت لها كما في قوله - تعالى -: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وقال - تعالى -: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وقال - جل وعلا -: (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقال - تعالى -: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) ونحو ذلك، وكذلك فإن من ثمرات نوافل العبادة تزكية النفس وترقيتها، يقول الله في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه ولئن استعاذ ني لأعيذنّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردٌّدي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته) [صحيح البخاري (6137) ج5/ص2384]. قال ابن حجر: \" وقال الفاكهاني معنى الحديث أنه إذا أدّى الفرائض، وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام، وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله - تعالى -\" [فتح الباري ج11/ص343].

فهذه الدرجة العالية لا يصل إليها العبد المؤمن إلا بالتزام الفرائض، والإكثار من نوافل العبادة والطاعات.

ولذلك سعى المربون من لدن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وحتى يومنا هذا إلى دعوة أتباعهم إلى الإكثار من الطاعات والنوافل حتى تزكو نفوسهم، وتصفو سرائرهم. وبالتالي يخوضون غمار الحياة محصّنين - بإذن الله - تعالى - من الافتتان بزخرفها لما عندهم من رصيد إيماني يدفعهم إلى الزهد في الدنيا والتطلع للآخرة.

3- مشروعيّة المداومة على النوافل والالتزام بها:

عن أم المؤمنين أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من صلّى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُني له بهن بيت في الجنة، قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) [صحيح مسلم (728) ج1/ص502]. فقوله - صلى الله عليه وسلم - من صلى... في يوم وليلة يدل على أن المداومة مطلوبة، وهذا ما فهمته أم المؤمنين إذ تقول في ختام الحديث: (فما تركتهن منذ سمعتهن) قال النووي فيه: \"إنه يحسن من العالم ومن يقتدي به أن يقول مثل هذا، ولا يقصد به تزكية نفسه بل يريد حث السامعين على التخلق بخلقه في ذلك، وتحريضهم على المحافظة عليه، وتنشيطهم لفعله) [صحيح مسلم (728) ج1/ص502].

وعن أم حبيبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها حُرّم على النار) [سنن أبي داود ج2/ص23، صحيح ابن خزيمة ج2/ص206، سنن الترمذي ج2/ص293قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب]. ولفظ (حافظ) في الحديث يدل على طلب المداومة والاستمرار.

وقال - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على أنواع أخرى من العبادات، فيقول في الحث على الاستغفار: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل همّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) [سنن أبي داود ج2/ص85]. وكذلك لفظ (من لزم) يدل على الاستمرار وملازمة الاستغفار والإكثار في كل وقت وعلى كل حال، قال في عون المعبود: (قوله: (من لزم الاستغفار) أي عند صدور معصية، وظهور بليّة أو من داوم عليه فإنه في كل نفس يحتاج إليه، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) [رواه بن ماجه بإسناد حسن صحيح، عون المعبود ج4/ص267].

في الأحاديث التي أوردناها نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو أصحابه، ويرغّبهم في القيام بشيء من النوافل والمداومة عليها، سواء كانت هذه النوافل في الصلاة أو في الأذكار، وبيّن الأجر الجزيل في ذلك، وما ذكرته من أمثلة ما هو إلا غيض من فيض.

وهكذا نجد أن في هذه الأحاديث ما يدل على طلب المداومة والاستمرار عليها، ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: (وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قلّ) [صحيح البخاري (5523) ج5/ص2201]. وتقول عائشة: \" وكان أحبّ الدين إليه ما داوم عليه صاحبه\" [صحيح البخاري (46) ج1/ص24].

وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أحبّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلّ) [صحيح مسلم ج2/ص811].

كما أن الالتزام بالنوافل وسيلة للوصول إلى محبة الله - تعالى -، كما في الحديث القدسي المذكور أعلاه في أولياء الله، وقد ثبت عن كثير من السلف الصالح إلزام أنفسهم بكثير من التطوعات بحيث يواظبون عليها ولا يتركونها، بل ويقضونها إذا فاتتهم في أوقاتها، بل ربما يعاقبون أنفسهم عند فواتها، فقد كان \" لمحمد بن سيرين سبعة أوراد فإذا فاته شيء من الليل قرأه بالنهار\" [تهذيب السير 1/459]، \" وعبد الله بن عون المزني كان له سُبُع يقرؤه كل ليلة، فإذا لم يقرأه أتمّه بالنهار \" [تهذيب السير 2/545]، \" ونام تميم بن أوس الداري ليلة لم يقم للتهجد، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع \" [تهذيب السير 1/177].

4- مشروعيّة السؤال عن أداء النوافل والحثّ على التزامها:

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل أصحابه عن قيامهم ببعض النوافل، فقال لهم ذات يوم: \"من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا قال: فمن تبع منكم اليوم جِنازة؟ قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: -رضي الله عنه-: أنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) [صحيح مسلم ج2/ص713]. وفي سؤاله عن إيقاع الأعمال الصالحة والنوافل بيان لمشروعية السؤال على سبيل التفقد لأحوال أصحابه والاطمئنان على حرصهم ومبادرتهم لأعمال الخير، وفي بيانه - صلى الله عليه وسلم - لثواب هذه الأعمال حثّ على القيام بها، والمداومة عليها، وفي هذا الشأن يأتي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله) [سنن الترمذي ج4/ص638 وقال الترمذي هذا حديث حسن]، قال الترمذي: ومعنى قوله (من دان نفسه) يقول: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يُحاسب يوم القيامة، ويروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: \"حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وتزيّنوا للعرض الأكبرº وإنما يخفّ الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا \" [سنن الترمذي ج4/ص638 وقال الترمذي هذا حديث حسن].

5- كراهة ترك المواظبة على التطوعات بعد التزامها:

ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهيه عن ترك المسلم لما اعتاده من النوافل، فها هو - صلى الله عليه وسلم - يقول لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: (يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) [صحيح البخاري (1011) ج1/ص387، صحيح مسلم (1159)، ج2/ص814]، فكيف عرف - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأخبر عنه إلا من خلال متابعته لأصحابه، وقال ابن حجر: \" قال ابن حيان: فيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط، ويُستنبط منه كراهة قطع العبادة، وإن لم تكن واجبة\"، وقال النووي: المختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه، ولا يعتاد إلا ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره \"، والتوجيه النبوي يدل على الأخذ بالتوسط والقصد لئلا تؤدي الزيادة غير المقدور عليها إلى الانقطاع، وترك العمل بعد المواظبة عليه، وهو ما دل الحديث على كراهته.

6- الدعوة إلى تخصيص أوقات إيمانية للطاعات:

أورد البخاري في صحيحه تعليقاً عن معاذ بن جبل أنه قال: اجلس بنا نؤمن ساعة\" وروى ابن أبي شيبة بسنده عن الأسود بن هلال المحاربي قال: قال لي معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة، يعني نذكر اللهº فيجلسان يتذاكران الله ويحمدانه\"، وقال العيني في العمدة: \" أي اجلس حتى نكثر وجوه دلالات الأدلة الدالة على ما يجب الإيمان به\"، وقال النووي: \"معناه نتذاكر الخير وأحكام الآخرة، وأمور الدينº فإن ذلك إيمان\"، وقال ابن المرابط: \"نتذاكر ما يصدق اليقين في قلوبناº لأن الإيمان هو التصديق بما جاء من عند الله - تعالى -\".

7- الأمر بالوفاء بالعهد في الأعمال المشروعة:

لما ألزم عبد الله بن عمرو بن العاص نفسه أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأن يختم القرآن كل ثلاثة أيام، لم يترك هذا الأمر حتى كبرت سنه، وشقّ عليه ذلك، وتمنى لو أنه قبل رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له.

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الله \" ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟! \"، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: \" فلا تفعل. صم وأفطر، وقم ونمº فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيامº فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله) فشددت فشدّد عليّ قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، قال: (فصم صيام نبي الله داود - عليه السلام - ولا تزد عليه) قلت: وما كان صيام نبي الله داود - عليه السلام -؟ قال: (نصف الدهر) فكان عبد الله يقول -بعد ما كبر-: يا ليتني قبلت رخصة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

فقد كان يرى من نفسه التزاماً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فلم يكن يدعه رغم مشقته عليه، قياماً بما ألزم نفسه به، وبما ضمنه قوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالحفاظ على ما عيّنه له.

وأما التعاهد على الالتزام بها فهذا حكمه حكم العهد في الإسلام، ويدخل في قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقوله - تعالى -: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) قال ابن عطية: وأوفوا بالعهد: عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه أو بين المخلوقين في طاعة [تفسير ابن عطية ص1142]، وقال: أصوب ما يُقال في تفسير هذه الآية أن تُعمّم ألفاظها بغاية ما تتناول... ويُعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع\"[تفسير ابن عطية، ص505]، وقال القرطبي في قوله: (وأوفوا بعهد الله): لفظ عام لجميع ما يُعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة\"[تفسير القرطبي 2/1797].

ولقد عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار وبايعوه في العقبة، ولم تكن تلك البيعة منهم إلا عهداً على الإيمان والالتزام، ولم تكن إذ ذاك قد قامت دولة الإسلام حتى نقول: إنها بيعة كبيعة الأمراء. كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت أنه بايع بعض الصحابة على بعض أمور الإسلام من باب التأكيد عليها كما ثبت في حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: \"بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم\" رواه البخاري، ونقل ابن حجر (1/139) قول القرطبي: \" كانت مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بحسب ما يحتاج إليه من تجديد عهد أو توكيد أمر\"، فالوفاء بالعهد مطلوب شرعاً، وإن اختلف في حكمه بين الوجوب والندب وليس هذا مجال بحثه، قال ابن تيمية [الفتاوى 11/101]: \" الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنـزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن \".

8- الأمر بالتعاون على البر والتقوى:

وفي التعاهد على الطاعات التطوعية جانب تربوي آخر، وهو مطلوب شرعاً ألا وهو التعاون على البر والتقوى، قال - تعالى -: (وتعاونوا على البر والتقوى} قال الطبري: \" وليعن بعضكم -أيها المؤمنون- بعضاً على البر وهو العمل بما أمر الله بالعمل به، والتقوى: هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه\" [تفسير الطبري ج6/ص66]. وهو من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، قال - تعالى -: (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). قال السعدي: \" والتواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح أي يوصي بعضهم بعضاً بذلك، ويحثه عليه، ويرغّبه فيه، والتواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمةº فبالأمرين الأولين يكمّل العبد نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمّل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح العظيم\" [تفسير السعدي ج1/ص934]، ولا شك أن التعاون بالتعاهد والمذاكرة والمحاسبة يحصل به من فعل الخيرات وكثرة القربات ما لا يحصل بالانفراد عادة، وهو سبب لنفي الكسل، وطرد الغفلة، والبعد عن الركون إلى الدنيا، وغير ذلك من الأمور المقعدة عن فعل الخيرات والمبادرة إليها.

ومما سبق يمكن القول: إن المسألة المسؤول عنها مشروعة وجائزة بما ورد من عمومات الأدلة السابقة، فالتعاهد على فعل الطاعات، والسؤال عن فعلها معين على تزكية النفس وهو مطلب شرعي، ومحقق للحث النبوي على المحافظة على الأعمال الصالحة ونوافل العبادات، ويجانب ترك هذه النوافل الذي نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عليه، ومن جهة أخرى فيه تشبه بفعل الصحابة في تذاكرهم في إحياء إيمانهم.

ومع ما سبق ذكره ينبغي التنبه، إلا أن الإلزام لمثل هذا التعاهد ليس في مثل منـزلة الواجبات الشرعية المنصوص على وجوبها بأدلة تخصها من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما ينبغي التنبيه على أن الالتزام في هذا التعاهد لا يجعل تلك النوافل والقربات واجبةº فذلك لا يصح إذ لا وجوب إلا ما أوجبه الله ورسوله، وغاية ما في هذا الإلزام هو اندراجه في عمومات الأدلة وخاصة عموم وجوب الوفاء بالعهد، وإنما هو وسيلة من الوسائل الموصلة إلى زيادة الإيمان وزكاة النفس، ومتى أمكن تحقيق ذلك بوسيلة أخرى فلا حرج، وأما بالنسبة للكيفيات والآليات التي يقع بمثلها هذا التعاهد فليس لها صورة معينة للمشروعية، ولكن ينبه على عدم المبالغة في التوثيق والتغليظ في مقتضى ومضمون التعاهد.

كما ينبغي البعد عن التفاصيل الدقيقة والآليات الحرفية فيما يتعلق بالمتابعة والسؤال، وذلك بعداً عن أمرين:

أولهما- الحرج الشرعي فيما قد يكون فيه شيء من ذلك كالقسم أو استخدام لفظ البيعة ونحو ذلك.

ثانيهما- الخلل التربوي من خلال التنفير الناشئ من المبالغة في الإلزام، أو حصول التصنع، والمرآة استجابة لتلك المبالغة.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply