مأساة أُسرة خلف القضبان وتحت الكثبان


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

في قرية السموع الواقعة جنوبي مدينة الخليل.. تزوّج إسماعيل أحمد إسماعيل الحوامدة من ابنة خال والده (آمنة) والتي قد عاشت باكورة حياتها مع والديها وإخوتها وأخواتها في عمان.. تعلمت في المدرسة وكانت نعمت الطالبة.. جدُّ واجتهادٌ ومثابرة في التحصيل.. أخلاق ترضي الله ورسوله.. وسبحان الخالق.. أدب وجمال.. ما عرفتها زميلة لها إلاّ وقالت نِعم الخُلُق عند آمنة.. وكان الاسم عند والديها أمون من باب التحبب والدلال.

كان زوجها رجلاً.. وكم رجل يُعدّ بألف رجل وكم ألف تمرٌّ بلا عداد

قمحي البشرة مجعّد الشعر أسوداً.. قصير القامة مفتول العضل.. ارتقى أيام الانتفاضة الأولى قمم المساجد.. دخل السجن مرات.. وأخيرا ترك كل هذه الأمور وفتح محددة له بعد أن رُزق من الذكور مجد وأحمد وعمّار.. وكل من هؤلاء شبل في عرينه.

أحبه الناس لدماثة خلقه وحُسن أدبه وصدق معاملته للزبون.. كان يقول هذا ثمنه كذا.. وهذا لله تعالى كذا.. ما من عمل إلاّ وقدّم منه جزءاً لليوم الآخر.. كسب وُد الجميع وفاقت محددته كل محددة في القرية.

لكن الزوجة الصابرة المثابرة كانت تتابع برنامجاً للأستاذ عمرو خالد (صناع الحياة).. قالت في نفسها: أود أن أُكمل الدراسة.. صارحت زوجها بذلك.. سمع منها.. شجّعها.. وكانت حريصة على القيام بواجبات زوجها أولاً.. بيتها ثانياً ثم الدراسة ثالثاً.

وسجّلت في جامعة القدس المفتوحة فرع الخليل.. تعرّفت على الطالبات.. كانت مثالاً يُحتذى وعبير مسك سيتنشّق.. وسُمعة طيبة.. كل الطالبات شهدنَ لها بحُسن تربيتها وأخلاقها.. والكل يسأل عنها والكل يحبّها.

نجحت آمون في السنة الأولى وحصلت على تقدير جيد إذ ربطت البيت بالمحددة بالدراسة بالأولاد.

قالت: أنا أحبٌّ علم النفس والتربية.. أربّي أولادي.. أعلّمهم ولا أبقى حبيسة البيت..

ومرّت الأيام وأمون تجود بعطائها العلمي والأدبي والأخلاقي.

وفي يوم 15/1/2003م فوجئ سكان الحي أن قوات الاحتلال تضرب طوقاً أمنياً على بيتهم وعلى محددتهم وعادة الجيش إذا داهم موقعاً يمنع الناس من الاقتراب منه.. ويفرض منع تجوّل على ساكنيه ومجاوريه..

رأى الناس المنظر.. عبث بالبيت وتكسير لمحتوياته.. صراخ أطفال.. أبي.. أبي.. والأم تحتضن الأولاد وتهدئ من روعهم..

حمل الجيش أبا المجد.. وقد كُبّلت يداه وأُغمِضت عيناه ورُكل على قفاه.. وأُصعد إلى إحدى السيارات العسكرية.. ثم غابت أخباره فترة زمنية.. حتى عرف الناس والأهل عن طريق محام أنه في سجن النقب (عوفر).

أخذ المحامي يرافع عنه حتى حُكم سنتان.. والتهمة حيازة أسلحة...

وأخيراً استسلم أبو المجد لقضاء الله وقدره..

وفي يوم السبت 2رمضان 1425هـ الموافق 15/10/2004م ذهبت أم المجد لدفع رسوم القسط الجامعي للسنة الثانية.. ذهبت أولاً إلى مكتب الأسير الفلسطيني وكلّمت زوجها واستأذنته في دفع الرسوم فدعا لها بالتوفيق.

ثم عادت إلى الجامعة تريد دفع القسط.. وأثناء مرورها الشارع من الجهة اليمنى إلى الجهة اليسرى.. انطلق صهريج ماء قاطعاً الإشارة الحمراء فأرداها أرضاً.

صرخ الناس.. وقف المارة في وجه السائق أن قِف.. قِف دهست البنت اٌلقيتها أرضاً.. علا الصراخ.. تحيّر الرجل.. قال: أين هي؟! قالوا: تحت العجل.. رجع إلى الخلف.. اعتلى صدرها.. أطبق على أنفاسها.. غادرت الروح جسدها في الحال.

الأولاد الثلاثة عند خالتهم ينتظرون عودة الأم.. وطالما انتظروا عودة الأب ولكنه لم يعُد لأن مدة الحُكم عليه لم تنقض بعد..

سمع الناس الخبر.. هرع أهلها.. أبناء عمها.. زوج أختها.. أخواتها.. ولكن ساعة الأجل انتهت..

سمع الزوج الخبر.. ما صدّقه.. ذُهل.. قال: ليس معقولاً..

لكن أصدقاءه في السجن قالوا له تحمّل.. هذا أمر الله.. واصبر على قضائه

رآه صديق له أقسم أنه سيقدّم أخته زوجة له.. ما أعظم الكرم وأصدق النفوس ساعة الإخلاص.. كلّمته عزّيته.. ما تحمّل.. نزل الدمع من عينيه وحشرج صوته وقال كلمته التي رنّت في أُذني: إنّي سامحتها.. الله يسامحها.. اللهم اغفر لها.. وأخذ ينشج بالبكاء.. وأغلق الهاتف.

أُبرِق لوالدها وكان على موعد لزيارة بناته الخمس في السموع وقضاء عيد الفطر عندهن.. فقال: بعد يومين أكون عندكم.. ما صبروا.. قالوا: ضروري حضورك الآن.. علم بالخبر.

جدّ في السير.. وكان يرى الساعات أيّاماً.. انطلق الأب من عمان هو وزوجته (أمها) يسابق الريح.. لكن الحواجز على الطريق أحالت دون وصوله مبكّراً.. أصرّت الأم أن لا تُدفن البنت إلاّ بعد حضورهم لوداعها.. إذ لم يرها أبوها وأمها منذ ثلاث سنوات.

وصل الأب والأم.. والبنت مسجاة على النعش تنتظر قدوم الوالدين للوداع الأخير..

أخذت دموع الأب تتدحرج من عينيه ولا صوت ولا صراخ.. إنه من الصالحين

بنا نفسه وعلّم أولاده وبناته.. وكان واصلاً للرحم محبوباً عند الجميع من أبناء بلده.. مواقفه مشهودة.. كرمه لا يقارن.. ابتسامة لا تغادر شفتيه.. كم أحبّه الناس ومالوا إليه.. واليوم يراه الكل في موقف عاطفي لا يُحسد عليه.. ولكن الإيمان عنده حطّم كل مقولات الجاهلية.. تمثل الصبر عند الصدمة الأولى.. وكان مثالاً يحتذى وقُدوة تُرتجى.

أما الأم الزوجة.. أنّات من قلبها.. دموع تنسكب من عينيها.. إنها مرهقة من الوقوف أمام الحواجز العسكرية والطريق الطويل.

كل هذا جعلها لم تفكّر في شيء إلاّ في ابنتها.. ما أشد عاطفة الأم وأعزّ دموعها..

وارى الجميع الجثمان في القبر وانصرفوا..

ما تقبّل الأولاد الثلاثة جدّتهم في البداية.. سألوا عن أمهم.. قالوا: ذهبَت للتسجيل في الجامعة ولم تعُد.. متى يا جدّتي تعود؟!! أمّي قالت ستجلب لنا هدايا.. أصحيح ما يُقال أن دهستها سيارة!!!

والسؤال يزيد الجدّة بُكاءً.. الأولاد: يا جدّتي أبي أخذه اليهود هل تعلمين؟.. فهل يعود! لكن أمي لا تعود.. ماتت.. يعني هي تحت التراب الآن.. نادوا والدنا ليجلس عندنا بدل أُمّنا..

هكذا الأطفال على بساطتهم يُطلقون الكلمات التي تُدمي القلوب وتُسكَب من جرائها الدموع.. والجدة تربت على أكتافهم وهم يحيطون بها من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم..

ما ذهب الجد والجدة مكاناً إلاّ والأولاد معهما يحضرون الإفطار.. والكل عندما يراهم ينسكب الدمع من عينيه دون حديث أو كلام

انتهت عطلة الجد والجدة.. وعادوا إلى عمان.. بعد رحلة حزن دامت أكثر من شهر.. لكن بقيت قلوبهم معلقة بالأولاد..

تكلّم الأب من خلف القضبان مع جد وجدة الأطفال.. واستحلفهم الله أن يكونوا في محضن رعايتهم.. إنه المحضن الذي يأمنه الأبناء ويستدفئون بعاطفته.

أُغلق البيت.. وجاءت جدتهم من عمان وحملت الأولاد.. على أمل اللقاء بالأب بعد انقضاء مدة الحكم عليه.

وعلى عادة الناس.. جاء أهل الرجل الجاني.. فوقف والد آمنة وأعتق الرجل لوجه الله تعالى.. لقد فهم قوله تعالى \" فمَن عفا وأصلح فأجره على الله

كنت على مائدة الإفطار عنده مرّة.. وطلب مني رأي الشرع في القضية.. فتقدّمَت إحدى بناته (فاطمة) وقالت عبارتها التي ما زالت تقرع في أذني.. اعف عنه يا أبتي.. لا نريد مالاً.. بل نريد أجراً وثواباً لأختنا عند الله تعالى

سألت: ما رأي الأخوات الباقيات؟ قُلن بصوت واحد.. رحم الله آمنه.. لا نريد أجراً ولا ثواباً من أحد.. بل من الواحد الأحد أن يرحمها الله ويغفر لها.

فيا ترى من لهؤلاء الأطفال بعد الله تعالى !! وقفات الرجال تُسجّل بماء الذهب.. ما ترك القلب الأبيض لجدهم وجدتهم – وإن بعُدت المسافة – مجالاً لأحد..

أسرعوا.. فكانت الجدة نِعم الأم بعد الأم.. وكان الجد نعم الأب بعد الأب

اعتبرهم أبناءه.. ما غالٍ, إلاّ رخص لهم.. ما من مدرسة أفضل إلاّ أرسلهم إليها.. وكذلك طبّق وعمل بقوله صلى الله عليه وسلم : (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا..وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى)..

نَعَم.. نِعم الرجل أبا محمد الذي فهم الآية \" وأمّا اليتيم فلا تقهر \". الضحى 9

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply