لا تحرجوني أمام زملائي


بسم الله الرحمن الرحيم

 

يقول أحد الأساتذة: ذهبت إلى مدرستي الجديدة، وأنا واثق بنفسي، متفائل بعملي كمعلم، دخلت وسلمت على الإخوة والزملاء وعرفتهم على نفسي، وكنت أتحدث مع بعض المعلمين، وكالعادة نصائح أخوية وإرشادات مغلفة بـ «شوكلاته» الشفقة والرحمة، فكانوا يقولون: «احذر من الفصل الفلانيº لأن فيه ولدًا شيطانًاº سبّب الإزعاج للمدرسة، وهو كثير المشاكل، وشكله كذا وكذا، واسمه فلان».

الله المستعان، ما هذا الصداع؟ ما هذه البلوى؟ وما هذه الكارثة؟ فأنا بصراحة ما أحب المشاكل، وهل ممكن أن أجد مكانًا ليس فيه مشاكل؟!

يا ألله إنها ساعة عصيبة تلك التي أتجه الآن فيها إلى صف ذلك الشيطان، وأنا أتقدم بخطى ثقيلة، وأتساءل هل يمكن أن أدرّس شيطانًا في حياتي؟!..«أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»، بسم الله، وفتحت باب الصف.

دخلت وقلت: «السلام عليكم»، فرد الطلاب جميعًا بصوت بريء: «وعليكم السلام ورحمة الله بركاته»، وكان بعضهم واقفًا فجلس، وبعضهم يلتفت إلى الوراء فاعتدل، وبعضهم ينادي بعضًا «دخل الأستاذ»، ويا للهول لقد وجدت صاحبنا «الشيطان» جالسًا في المقدمة، ماذا أقول له؟! هل أرده إلى الخلفº حتى (لو قدر الله شيئًا) أكون بعيدًا عن الموضوع، وقريبًا من باب الخروج وقت الطوارئ؟ وبقيت في دوامة، وأغرقت في التفكير قُطع بصوت الطلاب يقولون: «حياك الله يا أستاذ»، قلت: «الله يحييكم، ويبارك فيكم»، وقلت في نفسي: «ويخارجني» منكم!!

فنظرت إلى «الشيطان» وقلت له: «أنت فلان»، قال بسرعة: «نعم»، فكاد قلبي ينخلع من مكانه والله يستر!!

فقال: يا أستاذ كيف عرفتني؟!

يا للمصيبة التي حلت، ماذا أقول له؟ هل أخبره بأنه شيطان، وأنه مشهور بفعاله فأخشى أن أراه في المنام؟

لكني تمالكت وقلت: «كيف ما أعرفك وأنت مشهور على مستوى المدرسة، والمعلمون يذكرونك بالخير، وبصراحة أحب أن أتعرف على المتميزين والمهمين مثلك»!! ثم واصلت حديثي فتكلمت عن هموم الطلاب، وأفرحتهم قليلاً بعض القصص الهادفة، ثم ذكرت أن كل طالب متميز عندي حتى ولو أخطأ، ولا أريد أن يسخر بعضكم من بعض إذا أخطأ لأننا في مقام تعليم.وكان هدفي أن أجعل لي قاعدة ومنهجًا مع الطلاب، حتى أريح بالي من وجع الرأس، ثم قلت: أيها الطلاب إن لديّ مرض خطير لم أستطع أن أتعالج منه إلى الآن، وهذا المرض مشكلة في حد ذاته، فقالوا: «سلامات يا أستاذ، ما ترى بأس».

قلت: «مرضي عجيب وغريب، وهو أني إذا أخذت عن أحد فكرة جيدة من أول وهلة تبقى راسخة في ذهني حتى ولو أخطأ، وإذا أخذت عن أحد فكرة سيئة ورأيت أنه صاحب مشاكل، فلن يسلم مني أبدًا».

فقالوا: «إن شاء الله ما تشوف منا إلا كل خير يا أستاذ».

فقلت في نفسي: الحمد لله، وتنفست الصعداء.

ثم قربت من صاحبنا «الشيطان» وربتّ على كتفه وقلت يبدو أنك أحسن واحد وأفضلهم!!

فنظر إليّ بعينين تكاد دموعهما أن تخرج، وبصوت المتفائل بي، وقال: «إن شاء الله يا أستاذ أعجبك، وتأخذ عني فكرة جيدة».

عجبت من لطافة رده، ولكن يجب عليّ أن أحذر لأنهم يقولون: «أحذر من الحيّة الرقطاء» لكنه كان هادئًا، ويحاول أن يشارك ويبرز نفسه على أنه متميز وفاهم، ويعجبني في الوقت نفسه اهتمامه وهدوؤه، ووجدت منه صدق الكلام، وأدب الاستئذان، ولطافة الحديث، وانتباهه الشديد لي وتفاعله معي. وكنت أذكر بعض الطرف في أثناء الشرح فأجده يتفاعل معها ويضحك ضحكًا أشفقت عليه من ذلك الضحك، وكأنه لم يكن يعرف الضحك قبلها، بل كان يعرف التوبيخ والسخرية، وخلك واقف وارفع الكرسي فوق رأسك، كما كانت تتقطع يديه من كثرة الضرب القاسي عليها، وكنت أذكر المواقف أو القصص الحزينة فأنظر إليه فأجده يمسح دموعه تأثرًا وحزنًا!!

قلت له يومًا: «ما الذي أعجبك فيّ يا فلان؟ »، فقال: «يا أستاذ أنت تتركنا نشارك، ولا تحرجنا إذا أخطأنا، وبصراحة كلنا نحبك، لأننا نشعر أنك تحبنا، وتقدم لنا نصائح وقصصًا جميلة»!! آه الآن وجدت السر وعرفتهº إنه يحتاج إلى الرعاية والاهتمام والتشجيع والتبسم الدائم له ولغيره، فعرفت أن حكم المعلمين على مثل هذا الطالب لم يكن في مكانه، لماذا نسمع من الآخرين في حكمهم على الطلاب، وخصوصًا في التحذير من عناصر معينة؟! هل جربنا معهم وسائل الترغيب بدلاً من وسائل الترهيب التي نتقنها جميعًا، بل ونعطي فيها دروسًا مجانية للمعلمين الجدد؟ ولماذا نؤجر عقولنا للآخرين؟ وهل كل ما يقوله الناس صحيح؟! أليس هذا الطالب وغيره يخطئ ويصيب؟ ألا يحتاج منا إلى العطف والحنان والرفق؟ إن صفعة على وجهه، أو تقبيحًا له، أو احتقاره وإذلاله، أو النظرة السوداء لمثل هذا الطالب تقضي على مستقبل حياته، لأنه يشاهد مستقبله من خلال عيني أستاذه، فنظرة المعلم إلى الطالب هي مستقبل حياته!!

نعم لقد عاش هذا الطالب ذاك العام في جو مختلف، ووجدت أن الطالب هو طالب لا يختلف عن غيره، ولكنه يحتاج إلى التوجيه والإرشاد، والتغافل عن بعض الأخطاء، ويحتاج إلى التشجيع المادي والمعنوي، «أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم».

ولا أنس ذلك الموقف مع نهاية العام عندما قلت لهم: هذه آخر حصة أقابلكم فيها وسوف أنتقل إلى مكان آخر، فوضع رأسه منكسًا على الطاولة وقد خنقته العَبرة، واغرورقت عيناه بالدموع، وكأن هموم الدنيا أتت إليه مرة أخرى، لأنه (في نظره) لن يجد من يفهمه أو يتعامل معه بلين واحترام.

لقد قسى الزمان على كثير من الطلاب، فهل نعين الواقع الأليم عليهم؟ وهل نزيد من الآلام والجراح أكثر مما هي موجودة عليه، وهل نضع الشاب في موقف حرج وهو يواجه الفتن من كل حدب وصوب؟! أين الرحمة والشفقة التي تأسر القلوب؟ إن هذا الشاب قد تجرع ذل وإهانة معلميه، وكل واحد يوصي الآخر بفنون جديدة في مقاطعته. حكايته حكاية الآلاف ممن انحرف مستقبلهم ويئسوا في حياتهم، ثم يأتي من لا يبالي ليحطم مستقبلهم على صخرة القسوة!! وهل ينتظر من شاب نفع وهو يشاهد معلمه مقطب الجبين يرعد ويزبد أغلب كلامه «اذهب شوف لك مكان غير الدراسة أفضل لك؟! » عندها نصنع أمامه أبوابًا مغلقة ومقفلة بالحديد، ليقوم بعدها بالتسخط على التعليم والأساتذة، ويتفنن في الانتقام من مجتمعه الذي ظلمه فيظهر التمرد عليه. وفي المقابل يشغل فراغ قلبه فيعجب بالأفكار الدخيلة ويتبناها، لأنه يجد أنها المتنفس الوحيد لإثبات وجوده. ولو ترك للطالب أن يعبر عن مشاعره لصرخ بأعلى صوته: «أرجوكم افهموني، اتركوا لي فرصة، لا تحرجوني أمام زملائي».

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply