ومضت رحلة الإحسان


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الناس كظيظ من الزحام على عرصات عرفات..

كلهم ينتظرون الدفع إلى جمع.. فهم بين قائم ونائم، وداعٍ, ودامع، وذاهب وآيب...

أطياف شتَّى جُمعت في نسق واحد!

وما زال ذلك الشاب أمامي يحوم كالرحى حول والده العجوز الذي عركته السنين، ونهشته الأيام، ونخرته الليالي ليغدو كالحلس البالي...

عظُم هذا الشاب في عيني وأكبرتُ عمله، واستطالت قامته أمامي حتى رأيته كالجبال.

وسقطت أمام عيني صوراً محزنة من صور العقوق، وجمود العواطف، وخمود الأحاسيس من كثير من الأبناء نحو الآباء...

ولكن لا بأس، فليل الدجى لا يخلو من سراج!

أحسست في قلبي بشعور جامح كالسيل الهادر بالرغبة في معانقته وشكره على صنيعه الرائع بوالده، فقد بلغ في البرِّ مبلغاً ملأ عليَّ جوانحي وسرى في جوارحي سروراً ورضىً، فما سمعت بلمسة حانية أو خصلة فاضلة أو بصفة طيبة إلا ورأيت ذلك الابن يحنو بها على أبيه في تحنٌّنٍ, وتلطٌّف بلا تبرٌّمٍ, أو تأفٌّف!!

اشتغلتُ عنه بالدعاء لي وله، ثم قمت إليه وسلَّمت عليه، وقلت له: جزاك مولاك الجنة ببرِّك بأبيك وإحسانك إليه وعطفك عليه...

تبسَّم كإشراقة الفجر، ثم قال: إنه ليس بوالدي!!

قذف في وجهي جملةً من الأسئلة نشبت في حلقي كالمعضلة، غدوت أمامه كشجرة صفراء تسفعها ريح الشتاء، وأقبلت أردد: فما صلتك به؟ ولماذا هذا الحنو معه؟ لقد عجزنا أن نبذله لمن نحب، فكيف بمن لا نعرف؟!

قال: أنا من بلد (.... ) وجئت لأداء شعيرة الحج، وحالما ركبت على مقعدي في الطائرة إذا بي أنظر عن يميني إلى عجوز كبير مرتعش اليدين، ساقط الحاجبين، احدودب ظهره حتى عاد كالعرجون القديم، قد حشر نفسه في ذلك المقعد بلا أنيس أو جليس..

سألت نفسي: فأين أهله؟ أليس له أبناء؟ كيف يطيق ـ بلا رفيق ـ أن يقوم بجهاد لا شوكة فيه؟!

قطعت سيل تلك الأسئلة بسلامي عليه...

هشَّ في وجهي، وأسفر وجهه كفلقة قمر، وردَّ التحية بأحسن منها، ثم أقبل نحوي كغريق دنت يداه من طوق نجاة..

واندفع كالمطر الهاطل يخبرني بحاله وهوانه على عياله، فهو رجل ثري مليء، أحاط به أبناؤه كإحاطة السوار بالمعصم، وقالوا: يا أبانا! ما لك لا تحج هذا العام؟!

فقال: قلبي يحن للحج، ولكني ـ كما ترون ـ لا طاقة لي به، ولا احتمال لي عليه..

قالوا: بل أنت قويُّ سويُّ!! وهل أعظم من أن تموت في تلك المشاعر بتلك الشعائر على ذلك الصعيد الطاهر؟!

ـ أموت! هذا ما تريدون! الآن فهمت الحكاية.. لقد طال مكثي فيكم، وليس بينكم وبين ثروتي إلا موتي، فها أنتم تقذفون بي بين أنيابه!

أسرَّها الوالد في نفسه ولم يُبدها لهم.. فمن ذا الذي يطيق أن ينكأ جرحه النازف؟

وفجأة توقف عن الكلام.. أخذ يلتقط أنفاسه اللاهثة، مسح حبَّات العرق التي انسابت فوق وجنتيه لتعبر تجاعيد السنين التي رسمت لوحة الأسى على وجهه الحزين، وطأطأ برأسه ليقبره بين ركبتيه، ثم نزعه من بينهما كالسفٌّود المبلول، ليقول:

دفعوا بي نحو السفر وعاجلوني به ليكون سفري من عاجلتي لآجلتي...

أسلمت نفسي لربي، وفوَّضت أمري إليه، وسألته في إلحاح: ربِّ! أنت أكرم الأكرمين، وأنا ضيفك، فأحسن وفادتي بتيسير من يقوم بخدمتي ويعتني بحاجتي..

هطلت تلك الكلمات كالطل الندي لتروي بذرة الإيمان في قلب ذلك الشاب التقي، فأثمرت ما يسرٌّ الناظرين!

ضمَّ الشاب يد العجوز المرتعشة بين يديه، وزمَّ شفتيه، وشخص ببصره للسماء، وقال: قد استجيبت دعوتك، فأنا في خدمتك، وإني لأرجو أن تكون بِرَّ حجي هذا العام!

ومضت رحلة الإحسان...لتدوي في مسمع الزمان: ما زالت الدنيا بخير....

وما زلت أتسأل في لهفة:ماذا صنع الأبناء عندما عاد إليهم والدهم؟! لقد فشلت خطَّتهم، وخسرت حساباتهم، وغفلوا عن الحساب في يوم الحساب!!!

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply