بسم الله الرحمن الرحيم
جمع كبير حقاً ذلك الذي اجتمع بشكل ملفت للنظر أمام بيت جارنا... شيوخ ورجال وأطفال بألبسة مختلفة الألوان والأشكال... وأنا عائد من عملي إلى بيتي لا أعلم لهذا الجمع سبباً، وقد أنهكني التعب وأخذ مني كل مأخذ وجعلني أقتلع قدمي من الأرض اقتلاعاً...
وأنا أقترب من الجمع كانت التساؤلات تتسارع إلى ذهني تباعاً... ماذا جرى؟... ولماذا؟... و... وتوقعاتي تتوالى وتخوفاتي تتعالى... (عسى أن يكون خيراً إن شاء الله!)... رددت هذه العبارة وأنا أقترب من الحشد...
الكل وقوف لا يراوحون أماكنهم، ورقابهم مرفوعة كأنما تتطلع إلى شيء أو تنتظر غائباً... ومن حولهم صبية الحي يلعبون وملامح البراءة تغسل وجوههم كالعادة...
اقترب مني الصبية يحيونني بمرحهم المعتاد وأنا لا أدري ما أقول؟... ولا كيف أمشي؟... حييت الجمع الواقف، فرد بعضهم تحيتي بصوت مشوب بنبرات حزن وشيء من الذهول... وقفت مع الواقفين في صمت يخترقه بين الفينة والفينة عويل النساء بالبيت وحوقلات الشيوخ بيننا، وخشخشات الحناجر حينما تبتلع الأفواه ريقها.
أدركت أن الأمر جلل... وبدأت ركبتاي تصطكان وضربات قلبي تزادد...
هممت بطرح سؤال على الجمع... لكن كيف أطرق أبواب الكلام وكل الأعناق مشرئبة وكل الأعين تحدق في الطريق، ولا أحد يلتفت إليّ أو يعير لوجودي اهتماماً...
مضت عدة ساعات ونحن وقوف... والكلمات تتدافع إلى حلقي فتتجمع فيه حتى خلته يكاد ينفجر... أردت أن أكون أوّل من يبتر حبل الصمت لولا أن سبقني أحد جيراني، قائلاً: (سيأتون قبل غروب الشمس لا محالة ويعلمونا بأحواله إن شاء الله!)...
استبشرت خيراً، وعقبت مستفهماً، (من تقصدون؟).
لا أحد أجاب، كأنني لم أسأل أو سألت ولم يسمعوا...
قلت في نفسي - وقد عادت الرقاب إلى ما كانت عليه -: (كأنهم يخفون عني أمراً يهمني!)... لم أتمالك نفسي أمام الصمت المخيم، وكادت دموعي تنفلت من محاجرها لولا أن شق صوت سيارة - مسرعة نحونا - صمتنا الخانق.
تجمع النسوة بباب البيت، وهرع كل الواقفين نحو السيارة إلا أنا!، بقيت في مكاني منتصباً كالتمثال أرقب النازلين... لكن سرعان ما دبت الحركة في أوصالي من جديد وتقدمت استوضح الأمر...
نزل جاري وابنه الأكبر وسائق السيارة، وقد قطع القلق صفحات وجوههم، وجرى الحزن مكانه منهم، والكل يسألهم:
كيف تركتموه؟... ماذا جرى؟... أين هو؟... لماذا تأخرتم؟... هل استيقظ؟... هل هو بخير؟... هل... متى تأتون به؟... هل...؟ ولا أحد من النازلين الثلاثة يجيب... تقدمت من جاري الذي لم يرفض لي - مذ عرفته - طلباً...
رمقني بعينيه الغائرتين وقد اعتراهما الذبول وخط بينهما الحزن خطوطه... وقلت له: (كيف تركتموه يا عم؟)... وأنا لا أعلم من يقصدون.
قال بصوته المبحوح: (ابنك يا جاري! بخير والحمد لله، ولقد أجريت له العملية الجراحية وبترت رجله اليمنى).
أمسك جاري بي، واحتضنني وخر مغشياً عليه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد