الجنة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أما بعد: خلقنا الله - تعالى - للعمل، والعمل المطلوب هو العمل الصالح الذي أمر الله به الرسل، قال - تعالى -:{ يَا أَيٌّهَا الرٌّسُلُ كُلُوا مِن الطَّيِّبَاتِ وَاعمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وهو خير زاد يتزود به العبد، وخير لباس تزين به، وهو النجاة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وهو الذي تحفظ به الأوقات وتدوم الطاعات وتتضاعف الحسنات وتغفر السيئات وترفع الدرجات، وهو الذي يسعد به الإنسان في الدنيا إذ يفرح بالطاعة ويتلذذ بها، قال - تعالى -: {قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ} [يونس: 58]، ويسعد به في الآخرة إذ يسهل عليه نزع الروح، ويوسع له في قبره، ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويثقل ميزانه، ويأخذ كتابة بيمينه، ويمر على الصراط مسرعًا، ويدخل الجنة من أبوابها، ويتنعم بنعيمها.

ومن أراد النعيم الدائم فليغتنم الحياة الدنيا بالعمل الصالح، ويغتنم الشباب بالعمل الصالح، والصحة بالعمل الصالح، والغنى بالعمل الصالح، والفراغ بالعمل الصالح. والواجب أن نعمل قليلاً لنسعد الأبد، والحياة الدنيا قصيرة، قال الله - تعالى -: {فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدٌّنيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38]، وما هي إلا كمن أدخل إصبعه في البحر فلينظر بما يرجع.

ولقد أشغلها الصالحون بالعمل الصالح حتى الموت عملاً بقوله - تعالى -: {وَاعبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر: 99]، وكانوا يقولون: \"لولا ثلاث ما أحببنا العيش أبدا: الظمأ لله في الهواجر، والسهر لله في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر\". رحلوا من الدنيا وقد أحبوا لقاء الله واشتاقوا للجنة، يقول قائلهم:

يـا حبذا الجنة واقترابها * * * طيبة وبارد شرابهـا

ولذا فإن الواجب أن نشغل دنيانا بطاعة الله واكتساب رضوانه، لنظفر بالمطلوب وننجو من المرهوب ونخلد في جنة عرضها السموات والأرض، ولزيادة الشوق إلى الجنة فإن الجنة هي الجزاء العظيم والثواب الجزيل الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص ولا يعكر صفوه كدر، وهي الدار الأبدية التي أعدها الله لأهل طاعته. فاستمع معي واقرأ معي بعض ما ورد في وصف هذا النعيم:

أولاً: فضلها، للجنة فضائل تفوق الحصر، فمما ورد في فضلها أنه لا مثل لها إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، موضع السوط فيها خير من الدنيا وما فيها، يقول الله - تعالى -: {فَلا تَعلَمُ نَفسٌ مَا أُخفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعيُنٍ, جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ} [السجدة: 17]، ويقول - تعالى - في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) رواه البخاري، ويقول: ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري.

ثانيًا: أسماؤها، للجنة أسماء كثيرة وردت في القرآن، منها أنها تسمى الجنة، وقد ذكرت في القرآن بالأفراد حوالي 66 مرة، وذكرت بالجمع جنات 69 مرة، وتسمى جنه عدن، والعدن هو الإقامة الدائمة، قال - تعالى -: {رَبَّنَا وَأَدخِلهُم جَنَّاتِ عَدنٍ, الَّتِي وَعَدتَهُم وَمَن صَلَحَ مِن آبَائِهِم وَأَزوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم} [غافر: 8]، وتسمى دار المتقين قال - تعالى -: {لِلَّذِينَ أَحسَنُوا فِي هَذِهِ الدٌّنيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيرٌ وَلَنِعمَ دَارُ المُتَّقِينَ} [النحل: 30]، وتسمى دار السلام يقول - تعالى -: {لَهُم دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِم} [الأنعام: 127]، وتسمى جنات النعيم قال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم جَنَّاتُ النَّعِيمِ} [لقمان: 8]، وتسمى دار الرضوان يقول - تعالى - لأهل الجنة كما في الحديث القدسي: ((اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا)) متفق علية. وذكر ابن القيم من أسمائها دار الخلد ودار المتقين وجنة المأوى ودار الحيوان والفردوس والمقام الأمين ومقعد الصدق وقدم الصدق وغيرها.

ثالثًا: أبوابها، للجنة من الأبواب ثمانية، وسعة كل باب مثل ما بين مكة وهجر، كما في حديث أبي هريرة وفيه: ((والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر)) متفق عليه. وورد في سعة أبوابها أنها ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة، ففي حديث حكيم بن معاوية عن أبيه قال: ((وما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين، وليأتين عليه يوم وإنه لكظيظ)) رواه أحمد بسند صحيح.

رابعًا: درجات الجنة، الجنة عالية ودرجاتها عاليةº لأن أهلها في عليين، ففي الجنة مائة درجة، يقول: ((إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين مثل ما بين السماء والأرض)) رواه الترمذي بسند صحيح. وقد ورد عند البخاري: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله)) الحديث. قال ابن القيم: \"فإما أن تكون هذه المائة من جملة الدرج، وإما أن تكون نهايتها\".

وأعلى درجات الجنة الوسيلة، ونرجو أن تكون لرسول الله، قال: ((الوسيلة درجه عند الله ليس فوقها درجه، فاسألوا الله أن يؤتيني الوسيلة)) رواه أحمد بسند صحيح.

وأعلى أهل الجنة منزلة هم الذين غرس الله كرامتهم بيده وختم عليها فلم ترَ مثلها عين ولم تسمع مثلها أذن ولم يخطر على قلب بشر، وأما أدناهم منزلة فهم من يعطى مثل ملك ملك من ملوك الدنيا عشر مرات كما ورد من حديث المغيرة عند مسلم، وفي رواية: ((يعطى مثل الدنيا عشر مرات)) كما في حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري ومسلم. وصاحب هذه المنزلة هو آخر من يدخل الجنة.

ودرجاتها تتفاوت حسب إيمان أهلها وكثرة أعمالهم، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما ترون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم))، قالوا: يا رسول الله، منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: ((بل والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)).

خامسًا: تربتها، تراب الجنة المسك كما في حديث أنس قال: ((أدخلت الجنة وإذا ترابها المسك)) متفق عليه، وفي رواية أحمد والترمذي: ((الزعفران)). قال ابن القيم: \"والجمع بينهما أن يكون التراب من الزعفران، فإذا عجن بالماء سار مسكًا، أو يكون زعفران باعتبار اللون ومسك باعتبار الرائحة، وهذا أجود\".

سادسًا: أنهارها، في الجنة خمسة أنهار وقد تكون أكثر: نهر من ماء غير أسن، ونهر من لبن لم يتغير طعمه، ونهر من خمر لذة للشاربين، ونهر من عسل مصفى، قال - تعالى -: {مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنهَارٌ مِن مَاءٍ, غَيرِ آسِنٍ, وَأَنهَارٌ مِن لَبَنٍ, لَم يَتَغَيَّر طَعمُهُ وَأَنهَارٌ مِن خَمرٍ, لَذَّةٍ, لِلشَّارِبِينَ وَأَنهَارٌ مِن عَسَلٍ, مُصَفًّى}[محمد: 15]، ونهر خامس وهو نهر الكوثر، قال - تعالى -:{إِنَّا أَعطَينَاكَ الكَوثَرَ}[الكوثر: 1]، وقال: ((الكوثر نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه مسك، أبيض من اللبن، أحلى من العسل، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر، آكلها أنعم منها))، وفي رواية: ((حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب ريحا من المسك)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.

سابعًا: عيونها، في الجنة عيون عذبة، منها عين الكافور، قال - تعالى -:{إِنَّ الأَبرَارَ يَشرَبُونَ مِن كَأسٍ, كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَينًا يَشرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}[الإنسان: 5، 6]، وعين التسنيم قال - تعالى -: {َمِزَاجُهُ مِن تَسنِيمٍ, عَينًا يَشرَبُ بِهَا المُقَرَّبُونَ}[المطففين: 27، 28]، وعين السلسبيل قال - تعالى -:{عَينًا فِيهَا تُسَمَّى سَلسَبِيلاً} [الإنسان: 18].

ثامنًا: قصورها، في الجنة قصور مبنية من الذهب والفضة تَسُر الناظرين ويَتَنَعم بها الساكنون، قال: ((لبنة من ذهب ولبنة من فضه وما بينهما المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفني شبابهم)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح، وقال: ((فيها غرف يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام)) كما في حديث أبي مالك الأشعري عند أحمد وابن حبان وهو حديث حسن، وقال: ((في الجنة للمؤمن خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا)) كما في حديث عبد الله بن حبيش عند مسلم. وبشرت خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه.

تاسعًا: نورها، في الجنة نور عظيم لا ينطفئ، ومما يدل على ذلك أنه لا يوجد في الجنة شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، قال شيخ الإسلام في الفتاوى: \"والجنة ليس فيها شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قبل العرش\".

عاشرًا: ريح الجنة، للجنة رائحة عبقة زكيهً تملأ جنباتها، وهذه الرائحة يجدها المؤمن من مسافات شاسعة، ففي المسند وعند النسائي بسند صحيح قال: ((من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين سنة))، وفي صحيح البخاري قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين سنة))، وقال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم.

الحادي عشر: أشجارها، فيها الحدائق والأعناب والنخيل والرمان والفاكهة والسدر المنضود وغيرها. وثمر هذا الشجر لا ينقطع، بل أكلها دائم وما له من نفاد، ومن أشجار الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام وما يقطعها كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه، ومنها سدرة المنتهى التي رآها عند معراجه، ووصف نبقها أنها مثل قلال هجر، والورقة الواحدة كآذان الفيلة، ففي الحديث قوله: ((حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ونبقها مثل قلال هجر))، وورد قوله: ((مثل آذان الفيلة))، والحديث متفق عليه.

وسيقان أشجار الجنة من الذهب كما في حديث أبي هريرة، قال: ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب)) رواه الترمذي والبيهقي بسند صحيح. وكثرة أشجار الجنة بالإكثار من الذكر.

الثاني عشر: دوابها، في الجنة من الطير والدواب ما لا يعلمه إلا الله - سبحانه وتعالى -، قال - سبحانه -: وَلَحمِ طَيرٍ, مِمَّا يَشتَهُونَ [الواقعة: 21]، وقال عن الكوثر: ((فيه طير أعناقها كأعناق الجزر)) أي: الجمال. رواه الترمذي وسنده حسن. وفيها نوق مخطومة كما في حديث المتصدق بناقته المخطومة، قال: ((لك بها عند الله سبعمائة ناقة مخطومة في الجنة)) رواه مسلم.

الثالث عشر: جَمَالهم، جَمَالُ أهل الجنة يفوق الخيال، قال: ((فأول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء)) كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه، و((يدخلون الجنة جردًا مردًا كأنهم مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين)) كما في حديث معاذ عند الترمذي وأحمد وهو صحيح، و((أخلاقهم على خلق رجل واحد، وعلى صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء، لا يبصقون ولا يمتخطون ولا يتغوطون، رشحهم المسك)) كما في حديث أبي هريرة.

وأهل الجنة لا ينامون، يقول: ((النوم أخو الموت، ولا ينام أهل الجنة)) رواه ابن عدي وأبو نعيم وغيرهما قال الألباني: \"والحديث صحيح من بعض طرقه عن جابر\".

الرابع عشر: نساؤهم، لأهل الجنة في الجنة زوجات عفيفات جميلات، منهن نساء الدنيا، ومنهن الحور العين، فأما نساء الدنيا فزوجة المؤمن في الدنيا زوجته في الآخرة إذا كانت مؤمنة، قال - تعالى -: {ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُم وَأَزوَاجُكُم تُحبَرُونَ} [الزخرف: 70]، وأما إذا تزوجت المرأة أكثر من زوج فهي لآخرهم كما في حديث أبي الدرداء: ((المرأة لآخر أزواجها)) رواه الطبراني بسند صحيح.

وأما الحور العين فهن حور عين كواعب أترابا عربا كأنهن الياقوت والمرجان، وفي الحديث المتفق عليه قال: ((ولكل واحد زوجتان، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن))، وعند البخاري قال: ((ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)). ويعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل، فعن أنس أن النبي قال: ((يعطى المؤمن في الجنة كذا وكذا من النساء))، قيل: يا رسول الله، أويطيق ذلك؟! قال: ((يعطى قوة مائة رجل)) رواه الترمذي بسند صحيح.

 

الخطبة الثانية:

الخامس عشر: طعامهم، يتفكه أهل الجنة في الجنة، ففيها ما تشتهيه الأنفس من المآكل والمشارب، قال - تعالى -: {وَفَاكِهَةٍ, مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحمِ طَيرٍ, مِمَّا يَشتَهُونَ} [الواقعة: 20، 21]، وقال: {وَفِيهَا مَا تَشتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذٌّ الأَعيُنُ} [الزخرف: 71]، وقال: {كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسلَفتُم فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].

وأول طعامهم زيادة كبد الحوت كما عند البخاري أن ابن سلام سأل النبي عدة أسئلة، منها عن أول شيء يأكله أهل الجنة، فقال: ((زيادة كبد الحوت))، وعند مسلم من حديث ثوبان أن يهوديًا سأل الرسول: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: ((زيادة كبد الحوت))، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ((ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها))، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: ((من عين تسمى سلسبيلا))، قال: صدقت.

ولهم في الجنة ماء غير آسن ولبن لم يتغير طعمه وخمر لذة لشاربين وعسل مصفى، ولا يتغوطون من أثر الطعام والشراب، ولا يمتخطون ولا يبصقون، ويخرج أثر الطعام جشاء كجشاء المسك، قال: ((أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يتبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون))، قالوا: فما بال الطعام؟! قال: ((جشاء كجشاء المسك)) رواه مسلم.

السادس عشر: كسوتهم، في الجنة الألبسة الجميلة الناعمة والحلي الغالية والتيجان والأواني. فمن لباسهم السندسُ والإستبرقُ، وأساورُهم الذهب والفضة واللؤلؤ، قال - تعالى -: {عَالِيَهُم ثِيَابُ سُندُسٍ, خُضرٌ وَإِستَبرَقٌ وَحُلٌّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ,} [الإنسان: 21]. ولما أعجب الصحابة بثوب حرير قال: ((لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا)) رواه البخاري.

ولهم أمشاط من الذهب والفضة، ويتبخرون بعود الطيب مع أن روائحهم تفوح بالمسك، ففي البخاري من حديث أبي هريرة قال: ((وآنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة ـ أي: عود الطيب ـ ورشحهم المسك)). ومن حليهم التيجان، ففي ذكر خصال الشهيد قال: ((يوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها)) رواه الترمذي وابن ماجة بسند صحيح.

وثياب أهل الجنة وحليهم لا تبلى ولا تفنى، ففي صحيح مسلم قال: ((من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)).

السابع عشر: سوقهم، في الجنة سوق يسوقه أهل الجنة ويعودون منه بجمال أشد من جمالهم الأول، فقد روى مسلم عن أنس أن رسول الله قال: ((إن في الجنة لسوقًا يأتونه كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله، لقد ازددتٌّم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم ـ والله ـ لقد ازدتٌّم حسنًا وجمالاً)).

الثامن عشر: اجتماعهم، يزور أهل الجنة بعضهم بعضًا، ويجتمعون في مجالس طيبة، يتحدثون ويذكرون ما كان منهم في الدنيا وما من الله عليهم من دخول الجنة، قال - تعالى -: {وَنَزَعنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِن غِلٍّ, إِخوَانًا عَلَى سُرُرٍ, مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]، وقال: {وَأَقبَلَ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ, يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبلُ فِي أَهلِنَا مُشفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَينَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبلُ نَدعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البَرٌّ الرَّحِيمُ} [الطور: 25-28]، وقال: {وَأَقبَلَ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ, يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] إلى قوله: {لِمِثلِ هَذَا فَليَعمَل العَامِلُونَ} [الصافات: 61].

التاسع عشر: أمانيهم، لأهل الجنة في الجنة ما يتمنون، قال - تعالى -: {لَهُم مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَينَا مَزِيدٌ} [ق: 35]. وقد ورد في الحديث بعض أمانيهم، فمنها رجل يريد الزرع لحبه له، فيكون البذر والنمو والنضج في آن واحد، روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إن رجل من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألستَ فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب الزرع، فبذر فبادر الطرف نباته ـ أي: سابق النظر ـ واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله - تعالى -: دونك ـ يا ابن آدم ـ فإنه لا يشبعك شيء)). وآخر يتمنى الولد فيحقق الله أمنيته في ساعة واحدة، حيث تحمل وتضع في ساعة واحدة، فقد روى الترمذي وأحمد وابن حبان بسند صحيح عن أبي سعيد أن النبي قال: ((المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي)).

العشرون: أفضل ما يعطاه أهل الجنة، كل الجنة نعيم عظيم لا يمل منه أهل الجنة، وأفضل ما يعطونه رضوان الله – تعالى - عليهم، ففي حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله: ((إن الله - تعالى - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى ـ يا رب ـ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أكثر من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا)) متفق عليه.

وأحب شيء إليهم النظر إلى وجه الله الكريم، فعند مسلم والترمذي عن صهيب أن رسول الله قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول - تبارك وتعالى - : تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى)).

الحادي والعشرون: الجنة دار نعيم لا دار تكليف، جعل الله الجنة للنعيم المقيم والجزاء العظيم، فليس فيها تكليف ولا عمل، وأما ما ورد في صفة أول زمرة يدخلون الجنة أنهم يسبحون بكرة وعشيا كما عند البخاري فهذا ليس من باب التكليف، وإنما من باب اللذة والنعيم، لحديث جابر عند مسلم: ((يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس)). فكما أن نَفَس الإنسان لذة لا كلفة فيه وهو من كمال الحياة، فكذلك التسبيح والتكبير هو نَفَسُهم لأن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب - تعالى - وامتلأت بحبة، ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره، قال شيخ الإسلام: \"هذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به\".

ومن دخل الجنة لم يخرج منها، بل يخلد فيها أبد الآبدين، قال - تعالى -: {ادخُلُوهَا بِسَلامٍ, ذَلِكَ يَومُ الخُلُودِ} [ق: 34]، وقال - تعالى -: {لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} [المائدة: 119]، والآيات في خلودهم الأبدي كثيرة، ويقول: ((يناد مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم تنعموا فلا تبأسوا أبدا))، ثم قرأ: {أَن تِلكُم الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ} [الأعراف: 43]. رواه مسلم.

اللهم اجعلنا من أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply